ثورة الإيرانيّات بوصفها فنّا

رسم: إدواردو رامون

ثورة الإيرانيّات بوصفها فنّا

المشهد مفتوح، وفيه شارع يصنع لغة جديدة تحتلّ مجال التعبير، وتصبح وحدها اللغة المعترف بها. تتحرّك بخفة وتفرض نفسها على الحدث وتنطق باسمه.

كان الخروج النسائي إلى المجال العام في إيران يعدّ مستحيلا، لأنه لا ينطلق من حسابات ومعادلات تتّصل بالمنطق وبالتقديرات، بل إن كلّ موازين القوى وبنى المجتمع تقف ضده وتجعل مجرد التفكير بارتكابه ضرباً من الجنون.

ثلاثيّة "المرأة، الحياة، الحرية"، التي رفعها الشباب المنتفض، لا تمارس السياسة ولا تتفاوض وتخاطب الممكنات، بل تجترح مستحيلا فوريّا، يقدّم نفسه بوصفه فنا قادرا على تكثيف البنى الرمزيّة.

الخطاب التأسيسي لهذا المستقبل صنعته أجيال من المثقفات الايرانيات من مرحلة ما قبل زمن الملالي. في الزمن البهلوي كانت الليبراليّة المزعومة تحاول تعميق سلطات العسكرة وسحب الحريات العامة عبر تحايل يقضي بإتاحة حد أدنى من التحرّر الاجتماعي في مقابل سحب الحريّات الثقافية والسياسية من التداول، والافادة من مزاج محافظ للقضاء على حضور المرأة في المجالين العام والخاص بشكل باتت معه كلفة التعبير الثقافي عالية للغاية.

وجدت هذه السياقات تتويجها في مشهدية الموت من أجل الحرية الذي كرّسه مقتل مهسا أميني التي نجحت في أن تتحوّل إلى تكثيف ثقافيّ رمزيّ لفكرة الموت في سبيل الحريّة في كل مكان

ذلك كله أكسب ما خرج عن المرأة الايرانيّة من نتاج ثقافي في مراحل القمع الممتدة من زمن الشاه وصولا إلى زمن الولي الفقيه، خصوبة استثنائيّة وخصوصيّة بارزة فرضت نفسها على ميادين العمل الثقافي والفني غناء وشعرا وسينما في العالم كله. وجدت هذه السياقات تتويجها في مشهدية الموت من أجل الحرية الذي كرّسه مقتل مهسا أميني التي نجحت في أن تتحوّل إلى تكثيف ثقافيّ رمزيّ لفكرة الموت في سبيل الحريّة في كل مكان.

يكفي أن يُنطَق اسمها أو تُرفَع صورتها حتى يحضر معها عالم الرموز حيث لا يمكن للقتلة الفرار.

 

الشاعرة فروغ فرخزاد (1934-1967): اكتشاف ثوريّة اليومي

لم تعد أيام الإيرانيين قبل فروغ فرخزاد هي نفسها كما صارت من بعدها، مثلما يقال إنّ العمال لم يكونوا موجودين قبل ماركس.

إلا أن فروغ فرخزاد لم تفعل ذلك خلال قواعد نظرية باردة بل من خلال جعل الحياة اليومية مرئيّة وواضحة ومضاءة بالبساطة الآسرة، الصلبة والشفافة. دعت الإيرانيين إلى تأليفها ونبّهتهم إلى وجودها، وأغرتهم بالدفاع عنها بوصفها عنوانهم، وسيرتهم، ووجوههم. جعلت الشخصي عاما والعام شخصيا، وأطلقت الجسد وطيوره في فضاء الحياة الايرانيّة المحاصرة بالعسكرة والذكوريّة.

في دفاع فرخزاد عن شعريّة المعنى، بنت عالما لا يمكن فيه للكلمات اكتساب شرعيّة إلّا تحت ظلال قضية، وقد اختارت اليومي بوصفه جامع القضايا كلّها التي تدافع عنها في كلّ ما كتبته.

تكشف عناوين دواوينها الأربعة الصادرة في حياتها الأسيرة، "الجدار"، "عصيان"، "ولادة جديدة"، وكذلك ديوان "لنؤمن بطليعة الموسم البارد" الذي صدر بعد وفاتها بحادث سيارة،  أنّها كانت تحرص على تصوير المشاعر والانفعالات الخاصة على أنها سيرة للبلاد لا يمكن أن تكتب إلا من قلب همومها وأحوالها.

تقول في أحد حواراتها "أؤمن بأني شاعرة في كل الأوقات، أن يكون المرء شاعرا يعني أن يكون إنسانا".

في دفاع فرخزاد عن شعريّة المعنى، بنت عالما لا يمكن فيه للكلمات اكتساب شرعيّة إلّا تحت ظلال قضية

الأثر الذي خلّفته عميق، فقد نجحت في تحويل الحب والرغبات والمشاعر وشؤون الجسد إلى خطاب رأي عام، وإدخاله في الثقافة اليوميّة بلغة تتخفّف من ثقل الصور الشعريّة والبلاغات والزخارف، وتذهب مباشرة في اتجاه الموضوع ولا تحاذيه أو تكنّي عنه بل تقتحمه.

ذلك الاحتفاء بالعادي لم يثوّر الحياة الثقافية الإيرانيّة وحسب بل ثوّر الشعر في إيران، وجعل الشاعرة من أبرز رواد هذا التوجّه الذي تحوّل إلى ثيمة ثقافيّة اجتاحت الكتابة الشعريّة في كلّ مكان، وصارت عنوانا لمرحلة قطيعة مع البنى والأساليب والمعاني التقليديّة ودفعا في اتجاه التقاط الشعر من الحياة وليس تأليفه من خارجها.

مهمتها كما قالت في شعرها وكما فعلت في حياتها وسيرتها وأثرها، أن تكنس الدرج المؤدي إلى السطح متيحة بذلك الصعود إلى النور. لقد غسلت النوافذ كي تكون إيران جاهزة لاستقباله.

المغنية غوغوش (1950- ): إيران المشتهاة

يتوافد المنفيون الإيرانيون في كل البلدان التي تقيم فيها المطربة الايرانيّة الأشهر غوغوش حفلاتها، لكي يروا وجه إيران التي يشتهونها، كما كانت الحال حين استضافها معرض إكسبو دبي مطلع العام 2022، وقدّمها بوصفها رمزا ثقافيّا لإيران. أثارت الدعوة جنون السلطات الايرانيّة فبذلت جهودا محمومة لمنعها من الظهور لكنّها باءت جميعها بالفشل.

نجحت تلك المرأة المولودة في عام 1950 في أن تكون الحامل الغنائي لصورة إيران، وكانت قد منعت من الظهور والغناء لمدة عشرين عاما منذ انتصار ثورة الخمينيّ حتى خروجها من البلاد عام 2000، كما سجنت لمدة شهر.

كانت كما أوردت في أحد أحاديثها "إعدامية" أي محكوما عليها بالإعدام، وربما تكون علاقاتها ومكانتها هي التي حالت دون تنفيذ هذا الحكم الذي طاول شبكة واسعة من كبار المثقفين والفنانين الإيرانيّين.

صورتها المحفورة في الذاكرة الشعبية الإيرانيّة لا تنافَس. أغانيها هي الأكثر حضورا وانتشارا في ايران وفي خارجها، ولعلًها أبرز مغنيّة إيرانيّة وصلت إلى العالميّة.

تتجلى خطورة غوغوش التي استجلبت عداء نظام الولي الفقيه، في أنها تمثل عالما يحظى بالاعتراف والتقدير والترحيب ويصنع عنوانا يجتمع حوله جلّ الإيرانيّين .

ذلك الوطن الذي تقترحه وتصفه في أغانيها، وشبكة المشاعر التي تعبّر عنها، والأماكن التي تصفها، ترسم صورة بلد يمتلك أصولا ثقافيّة عريضة وعريقة، متصلة مع العالم ومتفاعلة معه.

تتجلى خطورة غوغوش التي استجلبت عداء نظام الولي الفقيه، في أنها تمثل عالما يحظى بالاعتراف والتقدير والترحيب ويصنع عنوانا يجتمع حوله جلّ الإيرانيّين

الخطاب العام لأغاني غوغوش يطرح بتلقائيّة فكرة نزع الشرعيّة عن نظام الولي الفقيه، سواء أكان مباشرا أم غير مباشر، وذلك لأن ما يصفه ويحتفي به هو عين ما يحاول ذلك النظام إخفاءه واخراجه من التداول، وهو يشمل الأمكنة والمشاعر والجسد.

المكان في اغنياتها يحضن الحريّة وهو رحب ومرحّب ولا يمكنه أن يكون ساحة جريمة.

أسست غوغوش خطابا مضادا للبشاعة هو في عمقه تحريض على ممارسة العيش. لا شيء يخيف القتلة أكثر من الكائنات التي تدافع عن التفاصيل الصغيرة والبسيطة لأنها تعلم أن تراكم تلك الامور البسيطة يبنى عالما شاسعا وعريضا.

أ ف ب
المغنية غوغوش في إحدى حفلاتها

لقاء عاشقين، بحث عن الجمال والأمل، إبراز قوّة الأنوثة ودلعها وغنجها وطاقتها: هذا جو أغاني غوغوش العام، وقد اختارت في الآونة الاخيرة فتح المواجهة مباشرة مع النظام في أغنية جمعتها مع المغني سيافش قميشي بعنوان "أربعون عاما".

هذه الأغنية الصادرة عام 2018 استشرفت الآتي الذي يتفجر في ساحات إيران كلّها، وكانت شريكة في منحه صوته الثقافي ونشيده.

 

المخرجة سميرة مخملباف (1980-): تدوين المرأة

خلق السينمائيّون الإيرانيّون سينما خاصة في مواجهة آليات الترهيب والمنع التي قابلت بها سلطات الملالي المشاريع السينمائيّة. تقوم تلك السينما على خلق شبكة مكثّفة من الرموز والدلالات بأقل قدر ممكن من البهرجة وتوظيف الألعاب التقنيّة.

أبطال هذه السينما هم الناس والأمكنة وحتى الحيوانات التي يتم تصويرها كحامل للمصير البشري ومرتبط به.

وقد شغلت المرأة في هذه السينما دور الصانع والمؤسّس عبر أجيال من المخرجات والممثلات الإيرانيّات اللواتي نجحن في اختراق جدران المنع ووصلن إلى العالميّة. سميرة مخملباف تحتل مكانة مرموقة وخاصة في هذا العالم لأنّها وهي المولودة في عام 1980 نجحت في أن تصنع أفلاما تستفيد من كل ما راكمته السينما الايرانيّة من تجارب وأن تطوّرها وتدخلها في سياقات مختلفة.

شغلت المرأة في هذه السينما دور الصانع والمؤسّس عبر أجيال من المخرجات والممثلات الإيرانيّات اللواتي نجحن في اختراق جدران المنع ووصلن إلى العالميّة

يتخذ التوثيق في هذه السينما، بأهدافه التي تعنى بتدوين سيرة المرأة والدفاع عن حضورها ورصد تأثيرها ومصائرها، وضعية الأصل الذي ينبثق منه كلّ شيء ويعود إليه كلّ معنى وكلّ توظيف أو ترميز.

تنطق المشاهد والنصوص والخيارات التقنيّة والبصرية في سينما سميرة مخملباف بلسان المرأة في إيران والمنطقة مهما كانت مغرقة في سورياليتها، الأمر الذي منح أفلامها صفة الوثائق الخاصة التي تتعاطى مع التاريخ بعين الفن وتكثّفه وتضيء على ما يراد له الاختفاء والتبدّد، وتجعله محفورا في الذاكرة ومحصنا ضدّ النسيان.

يستعير فيلمها "في الساعة الخامسة عصرا" عنوانه من قصيدة للشاعر الإسباني فيديريكو غارثيا لوركا.

صُوّر الفيلم في أفغانستان بعد خروج "طالبان" منها. ترصد المخرجة عبره مكانا صار عراءً خالصا وفرض نفسه على الوجود والعيش، وجعله عريا كاملا، في تناقض حاد تراجيديّ وساخر مع ثقافة الحجاب القائمة والمفروضة بقوة التراكمات التي أسستها "طالبان" واستمرت من بعدها.

تحمل قصيدة لوركا الفيلم وتخترقه في بدايته وفي الخاتمة التي تتجلى كأنّها اللحظة التي تتكثف فيها المصائر وتظهر فيها امرأة تجر حصانا مجهدا وأخرى تتدلى من على كتفيها جرتان فارغتان تمشيان في الصحراء من دون هدى.

تقول مخملباف في إحدى المقابلات: "أعتقد أن المرأة الإيرانيّة مثل ينابيع الماء في الربيع، كلما طبقت ضغطا أكبر عليهن ظهرن بشكل أقوى". تختصر هذه العبارة أهداف مشروعها السينمائيّ وتشرح آلية حركته.

المرأة في أفلامها تقاتل وهي تؤمن بأن تدوين سيرة هذه الحرب إنما هو تدوين لسيرة المرأة والبلاد.

 

مهسا أميني (2000-2022): الأيقونة الجارحة

قُتلت الصبية مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق. لا يمكن تمويتها بشكل آخر ولأي سبب آخر عدا كونها حرّة. عجز السلطات عن قتلها كما تشتهي كان العنوان الذي خلقه موتها وجعلها أيقونة جارحة لا تكف عن تكرار فعل الإدانة وتمكينه.

ذلك الغضب الذي انطلق من مقتلها حوّلها إلى موناليزا إيرانيّة تنظر بعينيها إلى القاتل وتشير إليه دائما. صورتها صارت العمل الفني الأبرز الذي خرج من إيران في هذه المرحلة.

تُرفع صورة تمثلها في قطر خلال  مباريات كأس العالم فتُحضر معها عالما مفتوحا من الدلالات التي تتكاثر في كلّ لحظة وتضيف عليها وقائع ما يجري على الساحات جملة من المعاني.

ذلك الغضب الذي انطلق من مقتل مهسا أميني حوّلها إلى موناليزا إيرانيّة تنظر بعينيها إلى القاتل وتشير إليه دائما

لم يسبق أن تحول أي وجه في إيران إلى أثرٍ صافٍ  قبل مهسا أميني. صارت أيقونة الأيقونات، وصارت كأنّها إيران التي قتلت على الهواء مباشرة، وجاءت الثورة المنفجرة في الساحات لتعيدها إلى الحياة.

في كل مكان تُستقبل مشهديّة مهسا أميني بوصفها رمزا عالميّا للثورة على الطغيان. أنثويتها تصلها بالعالميّ وتضع ما يحدث في إيران في قلبه كحدث استطاع خلق نماذج بصريّة ذكيّة ومؤثّرة احتلت مزاج العيون في العالم.

صنعت النساء الإيرانيّات علما من الشَّعر المقصوص كرد فعل على الحجاب الإلزامي. بدا كأنّه في حركيّته التي توحي بالانسياب الدائم إعلان لنشوء دولة جديدة تستمد شرعيتها من عالم يوشك أن يولد، أطلق خطابا فنيّا متكامل الأركان يقول بالتماوج المستمر انحيازه إلى فعل الجريان والتدفّق، كما هي حال أيقونيّة مهسا أميني التي فجّرت الحدود انطلاقا من خصوصيّتها لتكتب أينما حلّت سيرة المرأة الإيرانيّة التي لا تكف عن صناعة الأمل والفن والثقافة في حياتها وفي موتها.

font change

مقالات ذات صلة