صعود "داعش" وسقوطه... جغرافياً

صعود "داعش" وسقوطه... جغرافياً

لا يمكن لأحد أن يشكّ في الأهمية الهائلة لغزو العراق وفي تهيئة المناخ لما نعرفه باسم "داعش"، بينما يتفكّر العالم في الذكرى السنوية العشرين لهذا الحدث الكبير. فقد خلقت الإطاحة السريعة لنظام صدام حسين واجتثاث "البعث" السيئة الذكر ووقوع العراق في حال من الفوضى، ظروفا مثالية للمتطرف. لم يكن "داعش" وحيدا في الأيام الأولى للتمرد السني في العراق، بل كان ثمّة تنافس بين عدد كبير من الجماعات. بيد أن الرؤية الشريرة لمؤسس "داعش" الأول، أبي مصعب الزرقاوي، هي التي ضمنت الهيمنة للتنظيم في النهاية.

تعود جذور "داعش" في الواقع إلى أواخر الثمانينات، عندما قام الزرقاوي بتأسيس خلية صغيرة، سمّاها "بيت الإمام". مُهِّد لهذا المسار في السجن عندما التقى الزرقاوي بـ "المنظّر" الأردني أبي محمد المقدسي، فدفعه ذلك للسفر إلى أفغانستان، ثمّ رتّب لهجمات إرهابية في وطنه، الأردن، قبل أن يعتقل من جديد، ليُطلق سراحه في عام 1999 ويواصل بذلك أنشطته الإرهابية.

انتظر الزرقاوي حتى مطلع الألفية الجديدة لكي يقوم برحلة ثانية إلى أفغانستان، تواصل الرجل خلالها مع "القاعدة" وزعيمها أسامة بن لادن. بحسب تقارير، فقد صُدِم بن لادن نفسه من سلوكيات الزرقاوي البغيضة، لكن قياديا آخر في "القاعدة"، هو سيف العدل، أبدى تعاطفا مع الزرقاوي الذي استطاع الحصول على تبرع بقيمة 200,000 دولار لإنشاء معسكر تدريب على أراضي "طالبان".

إقرأ أيضا: سيناريوهات الخروج من "جمهورية الفوضى" العراقية

أعاد الزرقاوي تسمية مجموعته "جند الشام"، ثم "جماعة التوحيد والجهاد". وحين وقع غزو أفغانستان، فرّ مع جماعته إلى إيران والعراق وسوريا ولبنان والأردن. وفي أواخر عام 2002، وصل الزرقاوي إلى أراضي "أنصار الإسلام" في شمال العراق، بمساعدة جزئية من حليفه في "القاعدة"، سيف العدل. وعندما غزت القوات الأميركية العراق في مارس/آذار 2003، كان معسكر التدريب الذي يديره الزرقاوي في البيارة أحد المواقع الأولى التي تعرضت للقصف.

سرعان ما تبدّى بوضوح تصميم الزرقاوي على أن يعيد تشكيل التمرد ويقوده في العراق. ففي أغسطس/آب 2003، شنّت "جماعة التوحيد والجهاد" سلسلة من الهجمات الكبرى أسفرت عن قتل ما يقرب من 150 شخصا خارج السفارة الأردنية في بغداد ومقر الأمم المتحدة، كان بينهم ممثلها سيرجيو فييرا دي ميلو.

منذ عام 2003 فصاعدا، مع تطور "جماعة التوحيد والجهاد" إلى مجلس شورى المجاهدين ثم تنظيم "القاعدة" في العراق، صعّدت الجماعة بشكل منهجي حملتها من العنف الجماعي، مستهدفة القوات الأميركية والقوات المتحالفة، والسكان الشيعة في العراق. وفي أواخر عام 2006، اتخذت الجماعة اسم "الدولة الإسلامية في العراق"، مسجلةً بذلك محاولتها الأولى لتأسيس «دولة» مزعومة. هذا الكيان الأول لم يدم طويلا، فقد هزمته "حركة الصحوة" القبلية العراقية المدعومة من أميركا، وإن استمرت، في عيون "داعش"، في الوجود منذ ذلك الحين، حيث اعتقد بعض منظريه أن خسارة الأرض هي مجرد امتحان وليس هزيمة، والتنظيم يمكن أن يعيش بوجود أرض مادية أو بدونها.

منذ الأيام الأولى للغزو، كانت الاستخبارات السورية تنقل المتطوعين المتطرفين عبر الحدود في حافلات حكومية، عبر معابر حدودية. وفي حلول عام 2007، كان 95٪ من آلاف الانتحاريين المسؤولين عن الهجمات في العراق قد أتوا من سوريا


لا مجال للشك في أن تأثيرات الغزو الأميركي للعراق سهّل هذه المرحلة الأولى النشطة من تاريخ "داعش"، من 2003 إلى 2010، ولكن ما مكنّه فعلا هو النظام السوري. فمنذ الأيام الأولى للغزو، كانت الاستخبارات السورية تنقل المتطوعين المتطرفين عبر الحدود في حافلات حكومية، عبر معابر حدودية. وفي حلول عام 2007، كان 95٪ من آلاف الانتحاريين المسؤولين عن الهجمات في العراق قد أتوا من سوريا. وعاش كبار قادة "الدولة الإسلامية في العراق" في سوريا وعقدوا الاجتماعات التي كانوا يضعون فيها الخطط مع مسؤولي النظام. وكانت الاستخبارات السورية هي التي تحمي معسكرات تدريب الجماعة شرق سوريا. ويمكن التأكيد أنه لولا هذا الدعم الهائل من نظام الأسد، لما كانت "الدولة الإسلامية في العراق" لتنمو فعلا كما فعلت.

اقرأ أيضا: العراق...خريطة الميليشيات والانقسامات

لهذا السبب أثبت "داعش" نجاحه الكبير في سوريا بعد عام 2011 – أولا من خلال "جبهة النصرة" ثم "داعش" لاحقا. كانت سوريا أرضا مألوفة، ومثلما أدى الغزو العراقي إلى إطلاق "القاعدة" في العراق وانتشار العنف المصاحب لها، خلقت انتفاضة سوريا ووقوعها في الفوضى ظروفا مناسبة تماما لـ "داعش" والسعي إلى إقامة "دولة" مزعومة. وقد غذّى حكم نوري المالكي المروع في العراق والعنف المرعب للنظام السوري أكبر تدفق للمقاتلين الأجانب شهده العالم على الإطلاق، ما منح "داعش" فرصة غير مسبوقة للسيطرة على الأراضي في سوريا والعراق، واعلان نفسه حركة عالمية.

لم يكن أمرا مفاجئا، التدخل الدولي بهذه السرعة لمواجهة "داعش" والقضاء على "الدولة" في الباغوز شرق سوريا، في أوائل عام 2019. بيد أن ما حدث في العراق وسوريا هو أن "داعش" شكّل سابقة، ويواجه العالم الآن تحديا عالميا حقيقيا لهذا التنظيم. في أفريقيا، يعد توسع المجموعة مصدر قلق بالغا بشكل خاص. باختصار، لم يكن أي من هذا ليحدث لولا غزو العراق عام 2003.

font change