الدين والثالوث المصري الإيراني التركي

الدين والثالوث المصري الإيراني التركي

اجتماع ثلاثي بين الرئيس التركي عبد الله غول والرئيس المصري المعزول محمد مرسي والرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد في  افتتاح مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي الذي عقد في 6فبراير 2013(القاهرة) اجتماع ثلاثي بين الرئيس التركي عبد الله غول والرئيس المصري المعزول محمد مرسي والرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد في افتتاح مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي الذي عقد في 6فبراير 2013(القاهرة)

بالنظر إلى اتجاهات العلاقات الإقليمية بمنطقة الشرق الأوسط، قد يتراءى لكثيرين منذ الوهلة الأولى أن الدين يعد، ولو نظريا على الأقل، أحد أبرز عناصر التقريب والتلاقي بين القوى الرئيسة في تلك المنطقة، والتي ستقتصر هذه السطور على تناول ثلاث منها فقط على سبيل المثال وليس الحصر، هي مصر وتركيا وإيران، على اعتبار أن ثلاثتهم دول مسلمة، ترتبط فيما بينها بوشائج حضارية وثقافية تضرب بجذورها في عمق التاريخ البشري الحديث، كما كان لجميعها إسهام واضح وملموس في بناء الحضارة الإسلامية وترسيخ دعائمها العقائدية والفكرية، التي باتت تشكل مرجعية دينية وثقافية لجموع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
غير أن مسحة الخصوصية الثقافية والحضارية التي تميز تجربة كل دولة من هذه الدول الثلاث على حدة، والتي أفرزت تأثيرات عميقة على فهمها للإسلام وممارسته وتأثرها به في سياساتها على الصعيدين المحلي والدولي، قد أتاحت بدورها فرصا لبروز مساحات من التنوع، الذي بلغ حد الاختلاف والتباين في أحيان كثيرة ومواضع شتى. وهو الأمر الذي مهد السبيل تدريجيا لتحول الدين من عنصر تقريب إلى عامل تفريق بين القوى الإسلامية الثلاث.


• الاختلاف المذهبي بين إيران الشيعية المذهب وكل من تركيا ومصر، أجج هواجس ومخاوف هائلة لدى المصريين والأتراك، حيال المد الشيعي


فما من شك في أن الاختلاف المذهبي بين إيران الشيعية المذهب وكل من تركيا ومصر، وهي دول سنية الهوى والمذهب، قد أجج هواجس ومخاوف هائلة لدى المصريين والأتراك، حكومات وشعوبا، حيال ما يمكن أن يسمى بالمد الشيعي، خصوصا بعد أن آل نظام ولاية الفقيه في إيران الخمينية على نفسه منذ اندلاع الثورة الإسلامية في عام 1979 تبني مبدأ التشييع وتصدير الثورة إلى دول الجوار العربي والإسلامي.



العلاقات المصرية التركية





وعلى صعيد العلاقات المصرية التركية، فيبدو جليا أن تلاقي المذاهب الدينية لم يكن كافيا للحيلولة دون بروز بواعث الجفاء وعدم الانسجام. فرغم أن البلدين يتفقان في المذهب السني، وإن كانت تركيا حنفية ومصر شافعية، فإن تركيا الحالية بقيادة حزب العدالة والتنمية تقدم نموذجا للإسلام الحداثي الليبرالي المعتدل المتصالح مع الغرب والعلمانية والديمقراطية، هذا في الوقت الذي لم يكن تيار الإسلام السياسي في مصر، بمختلف مشاربه من سلفيين و«إخوان مسلمين» وجهاديين وتكفيريين سابقين، ميالا لانتهاج ذلك النهج.
وهو الأمر الذي ظهر بجلاء إبان زيارة أردوغان قبل الأخيرة للقاهرة والتي أكد خلالها أن حزبه ليس إسلاميا وإنما هو ليبرالي علماني، ما أدى إلى استياء إسلاميي مصر وتقليصهم من فرط الحفاوة اللافتة التي قابلوا بها الزعيم التركي في مستهل زيارته، كما تجلى أيضا في أجواء البرود التي تخيم على العلاقات بين القاهرة وأنقرة خلال السنة التي تسنى لجماعة الإخوان المسلمين وذراعها السياسية المتمثل في حزب الحرية والعدالة حكم مصر، رغم المبادرات التركية الجذابة والعروض السخية التي لم يسل لها لعاب نظام الرئيس المعزول مرسي.

على خلاف ذلك، اكتست العلاقات بين تركيا وإيران سمتا فريدا، فرغم الصراعات التاريخية بين الدولتين العثمانية السنية والصفوية الشيعية على النفوذ والزعامة، ثم المنافسة الحالية على الأدوار الإقليمية بين طهران وأنقرة، تسنى للبلدين التوصل إلى صيغة من العيش المشترك وحسن الجوار القائمين على توازن القوى والمصالح فيما بينهما. ولم تحل مخاوف أنقرة من المد الشيعي الإيراني دون توثيق العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية بين البلدين، حتى أضحت تركيا بمثابة رئة إيران التي تساعدها على الصمود والبقاء، سواء إبان الحرب العراقية الإيرانية (1980 - 1988)، أو تحت وطأة العقوبات الدولية والعزلة الغربية اللتين يكابدهما الإيرانيون منذ سنوات بجريرة برامجهم النووية المريبة.

وإذا كانت المعطيات السابقة تشي بأن التلاقي العقائدي ليس كافيا وحده لضمان تعزيز التعاون بين الدول، فإن التنوع المذهبي هو الآخر لا يمكن أن يفضي بالضرورة إلى نفور سياسي أو تناقض في المصالح. ويمكن لدول المنطقة استلهام تجارب عالمية ناجعة كثيرة في هذا السياق كالاتحاد الأوروبي والنافتا والإيبيك والآسيان والبريكس وغيرها، والتي تسامت دولها فوق الاختلافات الدينية والإثنية لتتبنى نموذجا للمصالح المتلاقية.



الثالوث المصري التركي الإيراني





ويمكن في هذا السياق للثالوث المصري التركي الإيراني أن يعمل على بلورة حزمة من المصالح المشتركة على غرار ما فعلت تركيا السنية مع إيران الشيعية، تكون قاعدة للانطلاق نحو تفاهمات وشراكات استراتيجية إقليمية أوثق وأشمل تتسع لاستيعاب فاعلين إسلاميين بارزين كالسعودية، على أن يمضي ذلك قدما بالتوازي مع تفعيل الحوار وإحياء جهود التقريب بين المذاهب الإسلامية.
فلقد ارتكنت العلاقات التركية الإيرانية منذ منتصف القرن السادس عشر على أساس براجماتي صلب تجلى في حسن الجوار القائم على تحييد الخلافات المذهبية واحتواء التوترات المتجددة، فضلا عن توازن المصالح المستند على توازن القوى بين الطرفين، اللذين تجمعهما علاقات تجارية متنامية، علاوة على التنسيق في المسائل الأمنية المتعلقة بأفغانستان وباكستان كما حركات التمرد المسلح التي تقض مضاجع نظامي أنقرة وطهران، إلى جانب توافق جيواستراتيجي يتأتى من اعتبار تركيا لإيران فاعلا رئيسا يصعب الولوج المستقر من دونه إلى وسط آسيا وجنوبها، واعتبار إيران لتركيا جسرا آمنا يبقي على وشائج التواصل بين طهران والغرب في أصعب الظروف.
وفى ظل التداعيات اللافتة للثورات العربية التي أظلت منطقة طالما شكلت مسرحا مهما للتنافس بين أنقرة وطهران، برأسها أطلت علامات الاستفهام متسائلة عن إمكانية تأثر أسس العلاقات التركية الإيرانية بتلك التداعيات.

  شاب تركي مؤيد للجماعة الاسلامية ، ويحمل ملصق لصور زعيم حركة حماس اسماعيل هنية ، الرئيس المصري المعزول محمد مرسي و رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان
شاب تركي مؤيد للجماعة الاسلامية ، ويحمل ملصق لصور زعيم حركة حماس اسماعيل هنية ، الرئيس المصري المعزول محمد مرسي و رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان

في خضم التحولات المفصلية التي تجتاح منطقة الشرق الأوسط، لاحت في الأفق نذر تنافس بين مشروعين، أولهما، إيراني يسوق لنظام حكم ثيوقراطي ويقود «محور الممانعة» والتصدي لما يعتبره مؤامرات غربية وهيمنة أميركية وإسرائيلية، ولا يتورع عن التدخل في شؤون دول الجوار مستخدما أدوات صلبة وناعمة في آن. وثانيهما، تركي يستخدم القوة الناعمة كالديمقراطية والتنمية الاقتصادية والجمع بين الإسلام والعلمانية والحداثة من دون تدخل في شؤون الغير، وهو نموذج تحديثي يستند على ثالوث الجيش والإدارة والاعتدال الإسلامي. وفي حين لا يلقى المشروع الأول رواجا عربيا أو دعما غربيا، يحظى الآخر بمستوى ما من القبول العربي والتأييد الغربي.



وقد بدت ملامح التنافس بين المشروعين واضحة في غير موضع بدءا من القوقاز وآسيا الوسطى، مرورا ببلاد الشام والعراق ودول مجلس التعاون الخليجي وانتهاء بأفريقيا. وفى الآونة الأخيرة، وتحديدا خلال جولة أردوغان بشمال أفريقيا، بدأت إيران تلمس تحركا محموما من قبل حكومة العدالة لتسويق نموذجها المدعوم غربيا بغية تقليص المد الإيراني، إذ ترى إيران في احتضان أنقرة للمعارضة السورية محاولة لفرض نظام سوري موال للأتراك يقود بدوره إلى تكرار سيناريو معركة جال ديران عام 1514 التي هزم فيها الشاه إسماعيل الصفوي أمام السلطان العثماني سليم الأول وفتحت الطريق أمام العثمانيين للسيطرة على الجنوب عبر مرج دابق عام 1516، ثم الحجاز ومصر في السنة التالية ومن بعديهما العراق عام 1534.

وبناء عليه، طالب المستشار العسكري لمرشد الثورة الإيرانية تركيا بضرورة إعادة النظر في مسعاها لتسويق ما اعتبره «علمانية مسلمة غير متوقعة ولا يمكن تصورها» في العالم العربي، وهددها بأنها ستواجه مشكلات مع شعبها ومع جيرانها، كما ستقوم كل من سوريا والعراق وإيران بإعادة تقييم علاقاتها معها، إذا لم تتراجع.


• التأثير المحتمل للثورات العربية على العلاقات التركية الإيرانية ربما لا يصل إلى مستوى يعرج بها من حالة التنافس التاريخي إلى حالة الصراع


ورغم الزخم الواضح في بواعث التوتر بين أنقرة وطهران جراء الثورات العربية، ثمة مؤشرات عدة تشي باستمرار السمت التفاهمي لعلاقاتهما. فبقدر ما يطوي ذلك الربيع بين ثناياه من تحديات، يمكن القول إنه لم يخل من محفزات للإبقاء على ذلك السمت.
فمع حالة الضبابية الشديدة التي باتت تلف المشهد الشرق أوسطي، قد لا تجد أنقرة وطهران بدا من الاستقواء ببعضهما بعضا على خلفية عدم ثقتهما في واشنطن وتل أبيب ومخططاتهما بشأن إعادة هندسة المنطقة. ففي حين تتطلع أنقرة من جانبها إلى توسيع دائرة عمقها الجيواستراتيجي قدر المستطاع ليكون رصيدا مهما يعزز موقفها التفاوضي مع حلفائها الغربيين ويعظم من فرص ولوجها إلى فردوسها الأوروبي، وظهيرا موازيا أو خيارا بديلا تلوذ به حالة إخفاق أو تعثر رهاناتها على الغرب، وهو ما يفسر إخراج وثيقة الأمن القومي التركية للعام 2010 كل من روسيا وسوريا وإيران واليونان من خانة العدو الخارجي، تحرص طهران في مسعى آخر على الاحتفاظ بنافذة استراتيجية حيوية تطل من خلالها على المجتمع الدولي، سواء لأغراض المناورة أو التقارب ما استطاعت لأحدهما أو لكليهما سبيلا، وتبقى عبرها الباب مواربا أمام أي صفقة جديدة محتملة بأي وقت بين النظام الأكثر براجماتية في طهران ونظرائه على الجانب الآخر، سواء أولئك المترقبين في كل من واشنطن وتل أبيب، أو هؤلاء القلقين المترددين بشأن التقارب معها في سائر بلدان العالم العربي والإسلامي.


التصالحي والمصلحي




ومن رحم ذلك التصور، انبلجت مبادرات وخطا التقارب بين أنقرة وطهران مؤخرا. فعلى مستوى التحرك الثنائي، لم يوصد الجانبان كلية باب الحوار مع دول قوقازية وغربية حول مشروع «نابوكو» لنقل النفط والغاز من وسط آسيا إلى أوروبا عبر تركيا وإيران دون المرور بالأراضي الروسية. وعلى الصعيد التركي، عمدت حكومة العدالة إلى طمأنة طهران بشأن نشر رادارات للدرع الصاروخية الأطلسية في تركيا وتعزيز إجراءات بناء الثقة معها مؤكدة أنها لا تستهدف إيران، كما شدد وزير الخارجية التركي خلال استقباله علي فتح الله، مساعد وزير الخارجية الإيراني لشؤون آسيا والمحيط الهادي مطلع شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2012، أن أحدا لا يستطيع تهديد أمن إيران عبر الأراضي التركية، التي أكد أنها لن تكون ركيزة للدفاع عن أمن إسرائيل. وإبان زيارة وزير الخارجية الإيراني لتركيا قبل نهاية الشهر ذاته، شكك أوغلو في إمكانية تورط طهران بمؤامرة لاغتيال السفير السعودي بواشنطن.

أما الجانب الإيراني، فلم يتورع بدوره عن إظهار حرصه على توثيق عرى التعاون مع الشريك التركي، فخلال الاجتماع الوزاري الأخير لوزراء الدول الثماني الإسلامية في شهر أكتوبر 2012، دعا وزير التجارة والصناعة الإيراني كلا من مصر وتركيا لتعزيز الشراكة بين البلدان الثلاث. وفى مسعى منها لتقليص الفجوة بينها وبين أنقرة حول الوضع الراهن في سوريا، أدانت طهران أعمال القتل والعنف هناك داعية نظام بشار الأسد لتبني إصلاحات وإطلاق المعتقلين السياسيين، وسحب الجيش من المناطق السكنية، وتأسيس مجلس سياسي لمعالجة الأوضاع، واتخاذ ما يلزم لإجهاض العبث في مستقبل سوريا والمنطقة. وأكد وزير الخارجية الإيراني حرص بلاده على الوقوف مع الشعب السوري لنيل حقوقه في الحرية والديمقراطية. وهي مؤشرات تحول مهمة في موقف طهران إزاء نظام دمشق قد تفسر ما أوردته مصادر سوريا عن تهديدات بشار الأسد لإيران باطلاع الولايات المتحدة على خريطة مخازن الأسلحة التابعة لحزب الله في لبنان حال توقف طهران عن دعم نظام الأسد.

وتأسيسا على ما سبق، يجوز الادعاء بأن التأثير المحتمل للثورات العربية على العلاقات التركية الإيرانية ربما لا يصل إلى مستوى يعرج بها من حالة التنافس التاريخي المحكوم والمحدد السقف إلى حالة الصراع أو المواجهة، وإن أسهم في توسيع دوائر ومجالات هذا التنافس وتعلية سقفه بعض الشيء، طالما أن معادلة توازن القوى والمصالح التي تحكم العلاقات بين البلدين لم يطلها أي تغيير جوهري قد يخل بها.
غير أن التوجه التصالحي والمصلحي الطموح بين القاهرة وطهران وأنقرة، المستوحى من النموذج التركي الإيراني في التنسيق وسط بواعث الخلاف المتنوعة، يستوجب أن يستبقه ويواكبه إجراءات متبادلة ومتزامنة وجادة لبناء الثقة المهترئة وتبديد المخاوف والشكوك المتراكمة، علاوة على مساع جماعية حثيثة لتذويب الخلافات المزمنة وتسوية المشكلات العالقة على أسس عادلة، والتنسيق بين الأدوار والتطلعات الإقليمية المنفردة لكل طرف، بما يحول دون تدخل أي منها في شؤون الآخر.

ووسط هذه المساعي الجماعية النشطة، تبدو مصر، المرهقة من تبعات وأعباء حراكها الثوري المضني المنهمر منذ قرابة أعوام ثلاثة، في مسيس الحاجة إلى تكثيف جهودها لتدارك ما فاتها والتماس كل السبل الكفيلة بتقليص الفجوة المتنامية في موازين القوة الشاملة بينها وبين سائر شركائها الإسلاميين الشرق أوسطيين، لا سيما تركيا وإيران.





font change