الدراما وذاكرتنا التاريخية

منذ أن نشأت الدراما بأنواعها، كان التاريخ أحد أهمّ موضوعاتها، لا فرق في هذا بين الشعر والمسرح منذ ما قبل الميلاد، والسينما والتلفزيون في مطلع القرن العشرين. وليست الدراما التاريخية مصدرا تاريخيا، ولكنها نافذة نطل منها على التاريخ ومصادره ومدوناته

الدراما وذاكرتنا التاريخية

التاريخ "تسجيل ووصف وتحليل للأحداث على أسس علمية محايدة؛ للوصول إلى حقائق وقواعد تساعد في فهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل"، ويلي التاريخ الذاكرة الجمعية التي تعتمد على الرواية الشفوية للأحداث والوثائق المكتوبة.

منذ أن نشأت الدراما بأنواعها، كان التاريخ أحد أهمّ موضوعاتها، لا فرق في هذا بين الشعر والمسرح منذ ما قبل الميلاد، والسينما والتلفزيون في مطلع القرن العشرين. وليست الدراما التاريخية مصدرا تاريخيا، ولكنها نافذة نطل منها على التاريخ ومصادره ومدوناته، تجسد لنا وقائعه بطريقة درامية شريطة صحة الواقعة ودقتها وتساعد الدراما التاريخية على بناء الذاكرة الجمعية للشعوب والأمم؛ لهذا تختلف عن الأفلام الوثائقية المحكومة بالسرد التاريخي والعرض الأرشيفي الصارم.

إنّ توثيق الأحداث للأجيال يدخل في مفهوم الذاكرة الوطنية؛ وقد ظهر في المجتمعات الحديثة "بفعل نمو المذاهب القومية، ونشأة الدولة الوطنية التي أسست المتاحف، وأقامت دور الأرشيف والمكتبات الوطنية، وكرّست الاحتفال بالأحداث والشخصيات بإقامة الأعياد الوطنية والنُصب التذكارية". وإنتاج المسلسلات الدرامية التاريخية لا يكون بهدف التسلية، أو تحقيق المتعة للمشاهدين فقط، ولكنه عملية تسعى إلى تحقيق كثير من الأهداف السياسية والثقافية والمجتمعية، ومنها توعية الأجيال بأفعال المستعمرين والمحتلين لبلدان المشاهدين، ودور آبائهم وأجدادهم في مقاومتهم.

وكان تنظيم الإخوان (المسلمين)- الذي أنشأته بريطانيا وزرعته في بلادنا العربية وما زالت ترعاه، وتحمي أعضاءه بمنحهم إقامة دائمة على أرضها- هو الأرض الخصبة التي عبثت في بلادنا على جميع المستويات، وفي كنفهم تربى كثير من الإرهابيين، مثل أسامة بن لادن، وجهيمان (أبرهة هذا العصر الذي اقتحم المسجد الحرام في مطلع القرن الرابع عشر الهجري)، وقد كشفت إحدى وثائق بن لادن التى أفرجت عنها وكالة الاستخبارات الأميركية، عن علاقة تنظيم القاعدة بجماعة الإخوان الإرهابية. وذكرت شبكة (سكاي نيوز) البريطانية أنّ ما جاء في الوثائق يؤكد أنّ كل التنظيمات الإرهابية خرجت من رحم الإخوان، غير أنّ الأخيرة أتقنت التلون وتبادل الأدوار.

وكان مسلسل "العاصوف" الذي عرضته "ام بي سي" (mbc) وهو مسلسل يحكي قصة التحولات الاجتماعية والفكرية التي طرأتْ على المملكة العربية السعودية، وخصوصا مدينة الرياض خلال خمسة عقود من الزمان، كان قد تناول في رمضان 2022 قصةَ اقتحام الإرهابي (جهيمان) وعصابته المسجد الحرام بمكة المكرمة قبل 40 عاما، وكان ينبغي أن يخصص مسلسل كامل لتلك الحادثة الآثمة؛ إذ لا تكفي حلقة واحدة في مسلسل للتعبير عنها؛ وذلك لرصد التحولات الفكرية والدينية التي شهدتها بلادنا نتيجة لفكر الصحوة الذي هيمن على الوطن زمنا طويلا بتأثير فكر الإخوان المسلمين الإرهابي، وأدى إلى نشوء التطرف الديني على تلك الصورة التي كشف عنها اقتحام البيت الحرام.

تنعش الأعمال التاريخية ذاكرة الأجيال. وتؤكد أن العثمانيين الأتراك كانوا مستعمرين نهبوا ثروات الأمة العربية، وكانوا سببا فى وقوع النكبة الفلسطينية، عندما منح السلطان عبد الحميد الثاني اليهود امتيازا يقضي بأن يدخلوا ويخرجوا من فلسطين دون قيود

إنّ الأحداث الكبرى جديرة بإنجاز عمل درامي احترافي؛ نصّا ورؤية فنية ومعالجة باذخة، وفي هذا العام أُنتج مسلسل "سفر برلك" ويعني بالعربية التهجير الإجباري، ويروي المسلسل ما تعرض له أهل المدينة من ترهيب وتهجير وتجويع وقتل، مع خيوط درامية لقصة أربعة أصدقاء عرب في جامعات إسطنبول يثورون على ظلم السلطنة العثمانية ووحشية ممارساتها بحقهم. ويتناول فترة صدور فرمان الخدمة العسكرية الإلزامية وحالة النفير العام التي أصدرها السلطان العثماني آنذاك (عام 1914). 


وتُعَدُّ "سفر برلك" واحدة من الجرائم المروّعة التي ارتكبتها الدولة العثمانية في حق الإنسان العربي في القرن الماضي. وتم التستّر عليها طويلا بسبب هيمنة خطابِ الخلافةِ المزوّرِ الذي كان يسوّقه العثمانيون الجدد، من الإخوان (المسلمين) وأتباعهم.


وفي السياق التاريخي فإن الجريمة حدثت وقائعها قبل أكثر من مئة عام هجري بحق أهالي المدينة المنوّرة (تقع غربي المملكة العربيّة السعوديّة، وتبعد حوالي  400 كم عن مكة المكرمة، وهي أول عاصمة تاريخيّة في الإسلام، وثاني أقدس بقعة على الأرض بعد مكة المكرمة)، عندما اقتحمها الجنود الأتراك قادمين من إسطنبول، مدجّجين بالسلاح لتهجير سكانها وترحيلهم قسرا إلى خارج الجزيرة العربية. 


يحكي بعض المؤرخين والمؤلفين من أبناء المدينة المنورة، التاريخ الأسود للمستعمرين الأتراك، وذلك عندما نادى الشريف حسين بن علي شريف مكة باستقلال العرب عن حكم الدولة العثمانية. وعلى أثر ذلك عُين فخري باشا حاكما على المدينة المنورة، وهو من حزب (الاتحاد والترقي) الذي يمجد العرق التركي ويحتقر العرب، فخضعت المدينة المنورة، لحصار من عام 1916 إلى 1919. وكانت المدينة المنورة في ذلك الحين جزءا من الدولة العثمانية.

وقد ترك فخري باشا تاريخا أسودَ في ذاكرة أهلها؛ حيث نكل بهم وشردهم، ونهب الوثائق والآثار النبوية ورحلها إلى تركيا. وحوّل المسجد النبوي إلى ثكنة عسكرية، وعندما حاصرته القوات العربية عام 1916م هدد بنسف الحجرة النبوية، وكانت نتيجة المعركة استسلامه للقوات العربية. ورُحِّل هو وقواته إلى مصر.


وقد عمّ الترويع التركي بلدانا عربية أخرى، مثل مصر و فلسطين وسوريا، وقد جُسدت معاناة مواطني هذه البلدان دراميا بالمسلسل التلفزيوني "إخوة التراب" ومسلسل "ممالك النار". وكذلك لبنان الذي صور معاناة الأهالي في فيلم سينمائي بعنوان "سفر برلك" من بطولة الفنانة فيروز عام 1967. 


إن هذه الأعمال تنعش الذاكرة الجمعية للأجيال. وتؤكد أن العثمانيين الأتراك كانوا مستعمرين نهبوا ثروات الأمة العربية، وكان وجودهم خرابا ودمارا للدول العربية، فجعلوها ضعيفة متخلفة ولقمة سائغة أمام المستعمريين الغربيين، وكانوا سببا فى وقوع النكبة الفلسطينية، عندما منح السلطان عبد الحميد الثاني اليهود امتيازا يقضي بأن يدخلوا ويخرجوا من فلسطين دون قيود. 

font change
مقالات ذات صلة