الأعياد ونوستالجيا الذاكرة

الأعياد ونوستالجيا الذاكرة

لا بأس، وبما أننا في موسم الأعياد، بأن نتحدث قليلا عن المشاعر والانفعالات باعتبارها نافذة تطلّ على العقل، والعقل هو سلطان تلك المشاعر ومن يضفي على الحياة بأسرها العمق والمعنى، بما فيها مشاعر الحزن. والحزن ليس دائما سيء، بقدر ما أن الفرح ليس دائما متحررا من بعض مشاعر الحزن والحنين. فالحزن والفرح بعد واحد في مقياس المشاعر، نتنقّل بينهما بدرجة هنا ودرجة هناك، حسب ما يمر بنا من أحداث، وقد يمتزج الاثنان معا ليولّدا ما يسمى "الحلاوة المرّة"، عندما تمر بنا صورة أو حادثة حالية أو من الماضي. فالانفعالات هي وسيلتنا للتفاعل والتواصل، وبعض الناس يظهرون مشاعرهم بأريحية، في حين يتجنب البعض الآخر الإفصاح عنها، لكنّ ملامح وجوههم تستعير انفعالات المتنبي في موسم العيد:

عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ

بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ

أَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ

فَلَيتَ دونَكَ بيدا دونَها بيدُ

كثيرا ما يتردّد هذان البيتان على لسان الكثيرين في موسم الأعياد، إذ غالبا ما يبرع العربي في التسلي عن هموم حاضره بالعودة إلى الماضي والحنين في قالب من الألفاظ والأهازيج والأغاني القديمة"“يا ليلة العيد أنستينا وجددت الفرح فينا" كما تغنّي أم كلثوم.

ما يكابده الإنسان العصري بشكل عام من غياب لثقافة الفرح الحقيقي بمعنى "فخامة العيش البسيط" لانحيازه نحو الاستهلاك، ليس خافيا على أحد. وفي البلدان العربية، ورغم الاستعدادات المادية لاستقبال عيد الفطر باعتباره مكأفأة للروح التي تسامت عن حاجات الطعام والشراب والرغبات الدنيوية طوال الشهر، يتبدّى الماضي بصورة معظمة ومفخمة، إذ لا يكاد يخلو مجلس من مجالس العيد والاحتفالات من ذكر الموت والفقد خاصة، والحنين للحظة سعادة سابقة أو مخاوف من فقد لحظة راهنة. فلماذا يغزونا الحزن في المناسبات السعيدة؟ وما الذي يحرك الحزن فينا؟

في زمن محكوم بالسرعة، تدعو الحاجة إلى ما يسمى بـ الحنين التصالحي Restorative Nostalgia فيبدأ استحضار أحباب رحلوا وقيم قديمة لم تعد هنا، لاسيما عند كبار السن أو من فقدوا أحبتهم أو أوطانهم، ولأدباء المهجر وقفات حول هذا النوع من الحنين لترميم الماضي وإعادة اختراع التقاليد والعودة إلى الأصول، استحضارا للهوية الوطنية أو الجماعية والتشاغل المؤقت بشظايا الذاكرة تلك. وهو ما تختصره سفيتلانا بويم حين تقول إن "حداد النزوح والعودة بالزمن، هو من صميم الحياة المعاصرة” كدرع ضد التحديات الوجوديةلمن يعانون من انحسار في معنى الحياة.

تقفز الذاكرة إلى خسائر الماضي، سواء أكانت دمية مكسورة أو "عيديّة" لم ترق إلى مستوى التوقعات، وهناك من يتحسر على انتهاء رمضان ويبدأ في جلد ذاته لعدم أدائه ما يكفي من عبادات مستكثرا على نفسه سعادة اللحظة


والإنسان بطبيعته شديد الاشتياق إلى الشيء الذي ألفه سواء أكان وطنه أو غير وطنه، لاسيما إذا ارتبطت بذلك المكان ذكريات إنسانية معينة، فكما يقول المتنبي:

خُلِقتُ أَلوفا لَو رَحَلتُ إِلى الصِبا    لَفارَقتُ شَيبي موجَعَ القَلبِ باكِيا

أو كما يقول المغني الأميركي جيم كروتش، صاحب أغنية "الزمن في زجاجة":

"لو كان يسعني حفظ الزمن في زجاجة

فأوّل ما أودّ فعله

أن أحفظ كلّ يوم حتى تمضي الأبدية"

وكوننا اجتماعيين بالفطرة، فإننا نعقد المقارنات باستمرار. فحين يروى أحدهم حادثة سعيدة وقعت له تتنبه ذاكرتنا إلى ما ليس لدينا ونعتقد أننا لا نملك مثل هذا الحظ أو ذلك القدر من السعادة فنشعر بالحزن أو بخيبة الأمل. وعندما لا يرقى حدث أو إنجاز ما إلى مستوى آمالنا أو تطلعاتنا تتلاشى السعادة بفعل استحضار بعض الهفوات، وهذا نتيجة لما تقوم به "الذاكرة الدلالية" Sementic Memory والتي تعمل في اتجاهين متعارضين، إن ذكرت كلمة عيد نستحضر الفقد، والفرح يستحضر الحزن، وإن ذكرت كلمة اجتماع تستحضر الفراق. وهكذا هو عمل الذاكرة اذ تستفيد مما هو قائم للتوق إلى ما هو غير قائم،  أو كما غنى جون لينون "ها قد جاء عيد الميلاد، فماذا فعلت/ عام مضى وعام آخر يبدأ"، فتقفز الذاكرة إلى خسائر الماضي، سواء أكانت دمية مكسورة أو "عيديّة" لم ترق إلى مستوى التوقعات، وهناك من يتحسر على انتهاء رمضان ويبدأ في جلد ذاته لعدم أدائه ما يكفي من عبادات مستكثرا على نفسه سعادة اللحظة.

فليس من المستغرب إذن أن تشعر بالحزن في أوقات سعيدة، لأن الأفكار السعيدة تثير الأفكار الحزينة فتنشط تلك المتناقضات لا شعوريا من خلال تمثلات وارتباطات للمفاهيم والأشياء في القاعدة المعرفية التي لدينا. فتُسرق بعض السعادة من خلال فقدها قبل الأوان، وهذا الحنين لـ "اللحظة الهاربة" أو "الحنين الاستباقي" هو ما يسرق اللحظات السعيدة.

ولكن هل ينطوي هذا الحنين على خطر أم أن له فوائد نفسية واجتماعية؟

في ورقة علمية بعنوان: "التاريخ النفسي للحنين" أكّد عدد من الباحثين في علم النفس الاجتماعي والثقافي خطأ وقع فيه من قبلهم من علماء في القرنين التاسع عشر والعشرين، باعتبار الحنين مرضا نفسيا مرتبطا بالاكتئاب والأمراض المزمنة، فقد أكدت الأبحاث الحديثة بأن تحفيز ذاكرة الماضي والحنين للصور التي تربطنا بالماضي يقوّيان المشاعر بأن الحياة ذات جدوى وإن شابها فقد وبعض حزن. وذهبوا إلى أبعد من ذلك وهو المطالبة بعمل برامج خاصة لكبار السن لتحفيز الذاكرة باعتبار الحنين إلى الماضي منبع لمعنى الحياة ويعمل كدرع ضد التحديات الوجودية لدى كبار السن خاصة.

وبحسب إحصائية لمصلحة الإحصاءات العامة بالسعودية، يقارب عدد المسنين في المملكة مليونا وثلاثة آلاف مسن، أي ما نسبته 5٪ من إجمالي عدد السكان، وقد حفظت المادة السابعة والعشرون من النظام الأساسي حقوق المسن، من خلال ما تقدمه وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية لفئة كبار السن في دور الرعاية الاجتماعية والإيوائية والجمعيات الخيرية من فعاليات وأنشطة ترفيهية ورياضية موسمية يتكثف عملها بشكل كبير في المواسم والأعياد بإشراف جهاز وظيفي يضم كافة التخصصات للقيام بالخدمات المنوطة به لخدمة المقيمين في الدار مثل الاستمتاع بقراءة الصحف والمجلات والاستماع للإذاعة، وحضور بعض الندوات، كما تتوافر في مثل هذه الدور فرص الأشغال اليدوية والهوايات للمقيمين غير القادرين، كوسيلة لشغل وقت الفراغ، بالإضافة إلى العديد من الأنشطة الترفيهية والرياضية، كما تقوم الدور بتنظيم حفلات السمر الترويحية والخروج في نزهات إلى الحدائق والمنتزهات العامة، وكذلك زيارة بعض المعارض والمهرجانات السنوية وغيرها. والجدير التنويه إليه هو التركيز أيضا على تحسين جودة الحياة والرفاه النفسي للكبار من خلال إطلاق مبادرة تهتم بتاريخهم الزاخر بالذكريات والخبرات والإنجازات والقصص الملهمة يصب فيها المسنّ ذكرياته وتباريحه التي توثّق في كتب كـ "سير ذاتية لكبار لسن" تسجل كمراجع للجيل التالي وتجعل المسن يشعر بقيمة حياته معناها.

عند مواجهة الحزن في الأوقات التي يفترض أن تكون سعيدة مثل الأعياد، يمكننا استخدام الدافع الاستباقي لتذوق الحاضر وعيش اللحظة، فتذوّق الحاضر يبني أساسا لذكريات الحنين ويعزز التفاؤل


ماذا يمكننا أن نفعل عندما يهدّد الحزن استمتاعنا الكامل بالمناسبات السعيدة؟

عند مواجهة الحزن في الأوقات التي يفترض أن تكون سعيدة مثل الأعياد، يمكننا استخدام الدافع الاستباقي لتذوق الحاضر وعيش اللحظة. فالأبحاث الحديثة تدعم القول بأن تذوق الحاضر يبني أساسا لذكريات الحنين ويعزز التفاؤل. فعيش اللحظة ومساعدة من حولنا على الاستمتاع بها واستيعابها كحقيقة لحظية يحفز الاستفادة منها والفوز بلحظة سعادة.

font change
مقالات ذات صلة