سبل مواجهة الموت

سبل مواجهة الموت

في كتابه "إنكار الموت" الصادر عام 1997 والذي حاز عنه جائزة "بوليتزر"، يقول عالم النفس الأميركي إرنست بيكر: "تتكوّن الثقافة من أوهام مشتركة تعمل على تخفيف القلق"، وفي موضع آخر يقول: "كلّ مجتمع يخلده التاريخ... هو سرّ مأمول أو كذبة مصيرية".

الشاعر الإنكليزي فيليب لاركن وصف في قصيدته "أوباد" (1977) رعب الموت قائلا:

"وهكذا لا يتبقى على حدود الرؤية

سوى بقعة ضبابية، تموج في انتفاضة دائمة

ينكص بسببها كل اندفاعٍ وحيرة

معظم الأشياء قد لا تحدث: عدا هذا فإنه سوف يحدث".

فالموت هو الحقيقة الوحيدة الثابتة وقمة المعرفة تتمثّل في إدراك الإنسان أنه يوما ما سيفنى.

لوصف تجربتنا البشرية مع الموت، سأستخدم استعارة مجازية من خلال لعبة "اللعبة"، وهي لعبة ذهنية شهيرة يقال إن منشأها لندن في منتصف تسعينات القرن الماضي، وتتضمّن ثلاث قواعد بسيطة:

- كل شخص في العالم يعرف لعبة "اللعبة" يجب أن يلعبها.

- عندما يفكر الشخص في "اللعبة" يخسر.

- يجب إعلان خسارة شخص واحد على الأقل كل مرة.

هذه القواعد، أو هذه اللعبة في حدّ ذاتها، تعبّر خير تعبير عن علاقتنا بالموت. فالبشر هم الكائنات الحية الوحيدة التي تدرك حتمية موتها. وعندما نبلغ سنا معينة يبدأ وعينا في التشكّل من خلال تطوير المفاهيم المجرّدة وفهم حقيقة موتنا (القاعدة الأولى). ثم نصل إلى حكمة مفادها أنه لكي نعمل بنجاح في هذا العالم يجب أن نتفاوض حول مسألة هلاكنا الحتمي ونمنعه من السيطرة على حياتنا (القاعدة الثانية). ونظرا إلى أنه لا يمكننا تجاهل حقيقة الموت، فيجب أن نحاول معالجتها بطريقة ما، من خلال التفكير في هذه الحقيقة، وفي مرحلة ما مناقشة أفكارنا مع شخص آخر (القاعدة الثالثة).

مع ذلك، كما يقول الكاتب الفرنسي فرنسوا دو لاروشفوكو في أحد مأثوراته: "لا الشمس ولا الموت يمكن النظر إليهما بثبات". فموضوع الموت يظلّ أشد التجارب الإنسانية غرابة وغموضا، وقد لا نعي معنى الحياة لأن الموت يقاوم ويتحدّى وسائل فهمنا العادية والعقلانية.

يظلّ موضوع الموت أشدّ التجارب الإنسانية غرابة وغموضا، وقد لا نعي معنى الحياة لأن الموت يقاوم ويتحدّى وسائل فهمنا العادية والعقلانية

كل ثقافة لها وجهة نظرها الخاصة عن الموت وطقوس تعاملها معه.

فبعض القبائل الأفريقية مثلا تعتبر الموت احتفالا بالحياة يستمر لمدة طويلة بعد وفاة الشخص، ذلك أن المواجهات القتالية في مواقف الحياة تجعلهم يتعاظمون في وجه الموت ويواجهونه بتحدّ، وفي  قبائل "كينجا" في تنزانيا يحتفل الناس بموتاهم من خلال ارتداء ملابسهم والرقص.

كما تتمتع قبيلة "أوروبو" في نيجيريا بواحد من أكثر الاحتفالات إثارة للاهتمام. فهم يتشاورون مع الأرواح لمعرفة السبب الحقيقي للوفاة، اعتقادا منهم أن هناك وفيات جيدة وأخرى سيئة. فالأشخاص الذين يموتون موتا "سيئا" يُدفنون بل يُرمون في الغابة لتلتهمهم الحياة البرية. يفعلون هذا حتى لا تجد الروح السلام وعندما يموت شاب صغير عاش حياة سليمة أخلاقيا، يُمنح المتوفى شرف الدفن.

في اليابان، يُعلّم الأطفال في سن مبكرة جدا أن الموت وشيك. كما يُعلّمون احترام كبار السن ويُذكّرون بدورة الحياة الطبيعية التي تبدأ من الولادة وتنتهي بالشيخوخة ومن ثم الموت.

بشكل عام، تتنوّع كيفية تعامل الناس والثقافات مع الموت، ولا تزال تمارس الطقوس القديمة حتى الآن، كمحاولات للتعامل مع الموت مثلما ذكر ويليام جيمس في كتابه "دراسة الطبيعة البشرية" الصادر في خمسينات القرن الماضي قائلا إننا "في نوبات مستمرة من العذاب اليائس في مواجهات مع الموت".

ماذا نشعر حين نفقد شخصا عزيزا؟

شخصنة  الموقف والشعور بالذنب لفقد شخص عزيز يعرقلان عملية تجاوز مرحلة الفقد. تشعر بالعجز لأننا لا نستطيع أن نمنع الموت، وأحيانا نتهم أنفسنا بالإهمال أو التقصير، وقد نشعر بديمومة الألم نتيجة الفقد وهو ما لا يمكن، فلا سعادة مقيمة ولا حزن دائم. وهناك أيضا الشعور باستبداد الحزن واكتساحه لجميع جوانب الحياة وغياب المتعة والبهجة في ملذات الحياة البسيطة وغياب الأمل، وهو ما يجعل التجاوز أمرا غير يسير.

من المعروف أن الحداد يمرّ بخمس مراحل: الإنكار والغضب والمساومة والحزن ثم القبول. أما ديفيد كيسلر الذي ألّف كتابه "إيجاد المعنى" بعد فقده المفاجئ لابنه، فأضاف الى المراحل السابقة مرحلة مهمة سادسة وهي "إيجاد المعنى"، مؤكدا ضرورة الافادة من حقيقة الموت لإضفاء معنى على حياتنا، والتعبير عن الحزن بواقعية مناسبة والبحث عن مساندة اجتماعية في وقتها، واحترام لحظات الحزن دون إنكار أو تأجيل، فمن أسباب طول رحلة الحداد تأجيلها.

قد نشعر بديمومة الألم نتيجة الفقد وهو ما لا يمكن، فلا سعادة مقيمة ولا حزن دائم، وهناك أيضا الشعور باستبداد الحزن واكتساحه جميع جوانب الحياة وغياب المتعة والبهجة في ملذات الحياة البسيطة وغياب الأمل


تحدّث كلّ من بيكر وفرويد رائد التحليل النفسي عن الموت. فركز الأول على إنكار الموت معتبرا أن "البطولة رد فعل على ذعر الموت"، في حين أكد فرويد الدافع المحرّك داخل الكائن الحي الباحث عن المتعة، والذي أطلق عليه "إيروس" أو غريزة الحياة مقابل غريزة الموت. لم يركز فرويد على القلق من الموت إذ يرى أن اللاوعي يجعلنا نشعر بأننا خالدون من خلال "الأمل وطول الهوى" اللذين جُبل عليهما الإنسان.

في بعض المجتمعات نسمع عبارة "يمكنني الآن أن أموت سعيدا"، وعلى الرغم من أننا في المجتمعات العربية لا ننظر إلى الموت من هذا المنظار، إلا أنّ هذه العبارة فيها بعض الحلّ، طالما أننا لا ننشد الخلود ولا يمكننا ذلك بأيّ حال من الأحوال، لكنّ الإحساس بأننا عشنا حياتنا بطريقة جديرة من خلال تبني مشاريع بناءة مثل تكوين أسرة، وصداقات، والقيام بأعمال خيرية، وممارسة أعمال إبداعية، يساعدنا على التكيف والتعايش مع هذه الحقيقة.

font change
مقالات ذات صلة