فلسطينيو سوريا: حرب أهلية فتشرد... وجوع في اليرموك

حالة الفقر المستشري في سوريا لا تغري بعودة الفلسطينيين إليها. وقد يكون الفقر مضاعفا في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين

AP
AP

فلسطينيو سوريا: حرب أهلية فتشرد... وجوع في اليرموك

تكفي معرفة أن عدد الفلسطينيين في سوريا لم يتغير منذ اندلاع ثورتها عام 2011 ومن ثم الحرب فيها، وظل 570 ألف نسمة، لندرك أن كارثة قد حلّت بهم. وكان عددهم (80 ألفا) منذ لجوئهم إلى سوريا عام 1948 قد تضاعف مرات عدة. حتى يمكن المجازفة بالقول إن كارثة حلت بهم خلال الأزمة السورية: نشوب ما يشبه حربا أهلية فلسطينية مصغرة.

الحصيلة الفلسطينية في سوريا بسبب أزمتها الراهنة، مخيفة: أكثر من أربعة آلاف من القتلى الفلسطينيين. 636 قُتلوا تحت التعذيب. 3075 معتقلا في سجون النظام. لكن العدد أكبر؛ فهناك عدد ضخم من المفقودين لم توثق أسماؤهم.

ويصف ابن مخيم اليرموك عبد رحّال الهارب إلى مخيم برج البراجنة في لبنان، الأحوال قبل الأزمة السورية، فيقول إنه "لم يكن هناك فرق بين سوري وفلسطيني في المخيم، حتى عندما كان يُؤتى بشهيد من أهالي المخيم قُتل في لبنان، يسير الجميع في جنازته. الآن الزمن تحوّل، فالموالي للنظام يتهم الفلسطينيين بقتال الدولة، والمعارض يتهمهم بأنهم شاركوا في قتل الشعب السوري. صار من الصعب العيش في سوريا".

ويجزم عبد رحال بأنه لن يعود أبدا إلى مخيم اليرموك مهما كانت التسهيلات. فما عاشه هناك سبب له أمراضا نفسية، اضطرته لتعاطي أدوية عديدة. وهو لم يغادر مخيم برج البراجنة منذ ثلاث سنوات، بسبب حالته العصبية إذا غادر المخيم. ويقول إن القرار بعدم العودة سببه أيضا أن "فلسطينيين فُقدوا بعد أن عادوا إلى سوريا".

مكان للصورة الأولى

عائلة محمد العبواني هي الأخرى تسكن مخيم برج البراجنة، بعد أن كانت تعيش في شارع حيفا بمخيم اليرموك. خرجت من المخيم إثر قصف جامع عبد القادر الحسيني. فقدت عددا من أبنائها ولا تدري شيئا عن مصيرهم، إضافة إلى مقتل عدد منهم.

ويقدّر الفلسطيني الناشط في هولندا محمد شاويش، في حديثه لـ"المجلة"، عدد الفلسطينيين السوريين في أوروبا بنحو 120 ألفا. يقول إن "فلسطينيي سوريا اللاجئين في أوروبا محبطون، خصوصا النخب منهم. وتسود بينهم فكرة الخلاص الفردي بعد أن كان العمل الجماعي هو الغالب. ودور الفلسطينيين الأساسي في أوروبا هو مساندة الفلسطينيين الذين بقوا في سوريا في ظل هذه الأوضاع الصعبة. وهناك محاولات للاجتماع على أساس عشائري أو عائلي أو حتى حسب المخيم، فعلى سبيل المثال جرى تشكيل لجنة مخيم حمص، لكنها محاولات ضعيفة حتى الآن".

AFP
نحو 20 في المئة من المخيم مدمر، و40 في المئة بيوته بحاجة لترميم، والخدمات ضعيفة

جوع في مخيم اليرموك

رغم السماح بالعودة إلى مخيم اليرموك، إلا أن العائلات العائدة لا يتجاوز عددها الألف، فنحو 20 في المئة من المخيم مدمر، و40 في المئة بيوته بحاجة لترميم، والخدمات ضعيفة.

ورغم افتتاح عدد من الفصائل الفلسطينية مقرات لها، إلا أن الوضع الأمني غير مستقر في المخيم، كما ينقل بعض من زاروه لـ"المجلة". وبعض القرارات الرسمية توحي بأن النظام قرر تحويل المخيم إلى حي من أحياء دمشق بما ينزع عنه هويته الفلسطينية، حسبما يرى مراقبون، وينفي النظام تلك التهم.

لم يكن هناك فرق بين سوري وفلسطيني في المخيم... الآن الزمن تحوّل، فالموالي للنظام يتهم الفلسطينيين بقتال الدولة، والمعارض يتهمهم بأنهم شاركوا في قتل الشعب السوري. صار من الصعب العيش في سوريا.

عبد رحّال– لاجئ فلسطيني في مخيم اليرموك

حالة الفقر المستشري في سوريا لا تغري بعودة الفلسطينيين إليها. وقد يكون الفقر مضاعفا في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين كما تحدث لـ"المجلة" بعض مندوبي الجمعيات الخيرية التي وفدت إليها بعد الزلزال (فبراير/شباط 2023). قالوا إن الكثير من الفلسطينيين بدوا شاحبين، وطلبوا طعاما فقط "والملامح تشي بجوع أو سوء تغذية يهدد حياتهم الصحية".

ويوضح مدير شؤون الأونروا في سوريا مايكل إيبيي أنه "قبل النزاع كان 6 في المئة فقط من لاجئي فلسطين من بين الأشخاص الأشد عرضة للمخاطر في سوريا. اليوم يعيش 4 من كل 5 لاجئين من فلسطينيي سوريا في حالة فقر". وبسبب رغبة الفلسطينيين في مغادرة سوريا، أصدرت الأونروا قرارا عام 2018 بعدم توفير بدل مأوى وغذاء لأي فلسطيني يغادر سوريا إلى لبنان، ويُقدر عدد هؤلاء بعشرة آلاف. وهم أيضا لا يُمنحون إقامة في لبنان، مما يجعلهم عرضة للاستغلال في العمل.

مصائر مأساوية

أعادت الأزمة السورية تشكيل العلاقات الفلسطينية- السورية، والفلسطينية- الفلسطينية؛ فعلى الصعيد الشعبي خلقت الأزمة توترا غير مسبوق بين الفلسطينيين والسوريين. ومخيم اليرموك الذي كان يضم الجميع بلا تشنجات مناطقية، تغير ومعه سوريا كلها.

تروي ليلى ابنة العراقي الذي قاتل سابقا في صفوف الثورة الفلسطينية، والمتزوج من فلسطينية، أنها عاشت في مخيم اليرموك بسلام، لكن "بعد أشهر من المعارك انتقلتُ إلى الحجر الأسود، وهناك بدأت لأول مرة أتعرض لمضايقات بسبب مذهبي الشيعي، بذريعة تدخل حزب الله في الأزمة السورية. وهنا قرر أبي أن نذهب لنعيش في كربلاء العراقية مع أعمامي. وفي اليوم التالي لوصولنا، سمعنا عمي يقول لأبي، إنه لا يجوز له الزواج من فلسطينية سنية، فغضب أبي وقرر العودة إلى سوريا". زلزال أصاب مجتمعات الشرق برمتها".

AFP
فلسطينيون يشاركون في مسيرة بمناسبة الذكرى السابعة والخمسين لتأسيس حركة فتح في مخيم اليرموك جنوب العاصمة السورية دمشق، في 7 يناير 2022

الفصائل الفلسطينية التي قاتلت إلى جانب النظام في سوريا، حظيت ببعض الامتيازات. فلسطينيون كثيرون يحاولون الحصول على بطاقات من هذه الفصائل لتسهيل تنقّلهم وأعمالهم. أما "لواء القدس" في النيرب فقد زاد عدد عناصره، لتصبح النسبة الأكبر فيه من السوريين، مع استمرار نفوذ الفلسطينيين. وأوكلت إليه مهام من الجانب الروسي الذي اجتذبه من الإيرانيين، وخاض به قتالا في البادية ضد تنظيم داعش.

واستطاعت حركة فتح العودة التنظيمية إلى سوريا، فافتتحت مقرات لها هناك، بفعل أنها كانت أقرب إلى النظام السوري خلال الأزمة، من دون المشاركة في القتال رسميا. أما حركة حماس فخسرت حظوتها التي كانت قبل الأزمة. وتبدو أن محاولات ترتيب علاقتها مع النظام السوري لا تسير بخطى ثابتة وواثقة. بل إن هناك عراقيل كثيرة تقف في طريق عودة حضورها إلى سابق عهده.

أما في الشمال السوري، بجزئه الواقع تحت سيطرة المعارضة، فتُقدّر أعداد العائلات الفلسطينية هناك بنحو 1480 عائلة، وهم محرومون جميعا من خدمات الأونروا. ومعظمهم قدم من مخيم اليرموك والمنطقة الجنوبية لدمشق صيف 2018. وعاشوا بداية في مخيم دير بلوط في خيام بُنيت بعدها جدران من الطوب. وقد تأثّر هؤلاء مباشرة بالزلزال فتوفيت منهم عائلات بكاملها، وتشردت عائلات أخرى. ويقول صحافي يعيش هناك لـ"المجلة" إن أخطر ما يقع اليوم نتيجة الفقر والاضطراب النفسي وقلة التعليم، هو اتجاه عدد من الشباب الفلسطينيين في تلك المنطقة إلى تنظيمات متشددة، كانت غريبة عن المشهد الفلسطيني في سوريا.  

لا يبدو أن الوضع الفلسطيني في سوريا يمكن أن يعود إلى ما قبل عام 2011، تاريخ اندلاع الأزمة السورية. والحلول المتاحة لأوضاع الفلسطينيين هناك، مرتبطة بالحل السوري الشامل، المتعثّر في خطواته الأولى. وهذا يدفع إلى القول إن التغريبة الفلسطينية لن تصل قريبا إلى حلقتها النهائية.

مخيم اليرموك الأكبر بين المخيمات، والأكثر سكانا، والأعمق تداخلا مع المجتمع السوري، والذي يُسمى "عاصمة الشتات الفلسطيني" الذي يبعد 8 كلم عن وسط دمشق

حرب أهلية فلسطينية

بعد أقل من أسبوع على انطلاق أحداث درعا سنة 2011 كانت صحيفة "الوطن" السورية تتهم الفلسطينيين في مخيم المدينة بأنهم "يقفون خلف أعمال الشغب". وبعدها بأيام صرحت بثينة شعبان، المستشارة الإعلامية والسياسية للرئيس السوري، بأن "أشخاصا أتوا البارحة من مخيم الرمل (للاجئين الفلسطينيين) إلى قلب اللاذقية وكسروا المحال التجارية وبدأوا بمشروع الفتنة".

وعلى الجانب الآخر، كانت المعارضة السورية تتهم قوى فلسطينية، وخصوصا القيادة العامة، بالمشاركة في قمع الحراك الشعبي السوري. وبدأ النزوح الفلسطيني الأول من مخيمي درعا والرمل، لكن العين كانت على مخيم اليرموك الأكبر بين المخيمات، والأكثر سكانا، والأعمق تداخلا مع المجتمع السوري، والذي يُسمى "عاصمة الشتات الفلسطيني" الذي يبعد 8 كلم عن وسط دمشق. وهو ضمّ بعد تأسيسه عام 1957 فلسطينيين وسوريين وجنسيات أخرى فيما بعد. وكان الاندماج مبكرا، فنشأت لهجة هجينة في المخيم، فلسطينية- سورية. اندماج كانت كلفته عالية. فرغم التفاعل الفلسطيني السوري، والغلبة العددية السورية (600 ألف من أصل 800 ألف) بقي للمخيم وجهه الفلسطيني، بأسماء حاراته: لوبية، صفد، المغاربة، الجاعونة، طبرية. وكلها أسماء فلسطينية. ومقبرة الشهداء في سوريا لا تنافسها بعددهم من الفلسطينيين سوى مقبرة شهدائهم في بيروت.

AFP
حالة الفقر المستشري في سوريا لا تغري بعودة الفلسطينيين إليها. وقد يكون الفقر مضاعفا في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين

وحان وقت الاستثمار عام 2011: سُمح لأول مرة للفلسطينيين بالتظاهر عند حدود الجولان في ذكرى النكبة (15/5/2011) فاستُشهد 4 منهم، ومرة أخرى في ذكرى النكسة في 5/6 فاستُشهد 23 فلسطينيا، منهم 12 من مخيم اليرموك. دفع الشعور بالمرارة والاستغلال عشرات آلاف المشيعين إلى مهاجمة مجمع الخالصة التابع للقيادة العامة، فقُتل 14 من المشيعين، وأُحرق المجمع. واقترب المخيم أكثر باتجاه الانخراط في الأزمة السورية. عوامل عدة عرقلت الحوار الفلسطيني للوصول إلى حياد المخيم:

أولها موقعه الذي جعله مدخلا لهجوم المعارضة على دمشق. أو هجوم الجيش السوري على المناطق الجنوبية لدمشق والتي كانت تحت سلطة المعارضة.

ثانيها التفاعل والعلاقات والمصاهرات بين اللاجئين الفلسطينيين والسوريين، والتي جعلت من المستحيل رسم خطوط فاصلة بين الطرفين

 تظاهرات السوريين في المخيم، بينما المعارضة السورية تتهم القيادة العامة بالقتال إلى جانب النظام في مواقع عديدة داخل سوريا.

الأهم من كل ذلك غياب المرجعية الفلسطينية السياسية القادرة على معالجة أزمات كُبرى. فالفصائل الفلسطينية فشلت في اجتراح حلول لأزمة مخيم نهر البارد بلبنان الذي تسللت إليه جماعة شاكر العبسي الإسلاموية الإرهابية من سوريا سنة 2007 وإنقاذه،  رغم تواضع مشكلته مقارنة بأزمة مخيم اليرموك وتشعباتها. 

الفصائل الفلسطينية فشلت في اجتراح حلول لأزمة مخيم نهر البارد بلبنان الذي تسللت إليه جماعة شاكر العبسي الإسلاموية الإرهابية من سوريا سنة 2007 وإنقاذه، رغم تواضع مشكلته مقارنة بأزمة مخيم اليرموك وتشعباتها

ويصف عبد رحّال، القادم من مخيم اليرموك إلى مخيم برج البراجنة في ضاحية بيروت الجنوبية، تلك المرحلة: بداية قصف المخيم الفلسطيني- السوري في أغسطس/آب 2012 بقذائف الهاون. لكن الحدث الأكبر في حياته كان في 16/12/2012 حين قصفت طائراتٌ مسجد عبد القادر الحسيني بالمخيم. هرع من بيته في شارع عبد الرحيم الحاج محمد (قائد ثورة 1936)، إلى المسجد الذي لا يبعد سوى أمتار. كان المشهد أفظع من أن يحتمله شاب في الثامنة عشرة من عمره: أشلاء 36 مدنيا تناثرت في المكان، إضافة إلى مئات الجرحى.

تندلع بعدها المعارك بين الجيش السوري الحر من جهة والجيش السوري والقيادة العامة من جهة أخرى، وتتمكن المعارضة من السيطرة على المخيم، ويبدأ النزوح الواسع. أراد عبد رحّال البقاء بالمخيم، لكن حادثة أخرى دفعته للفرار إلى لبنان. حين مرّ أمام حاجز للجيش السوري بداية يناير/كانون الثاني 2013، قُبض عليه، وتعرّض لتعذيب شديد خلّف كسورا وعطبا دائما في كتفه، بتهمة التعامل مع المعارضة. لكن تدخلات واتصالات قادت إلى إطلاق سراحه. فاعتقلته عناصر حاجز المعارضة في المخيم، بتهمة التعامل مع النظام. بعد إطلاق سراحه، فر إلى لبنان.  

كان يصعّب خيار حياد الفلسطينيين في الحرب السورية: فصائل انحازت للنظام (القيادة العامة، فتح الانتفاضة، حركة فلسطين حرة). وتشكلت فصائل عسكرية فلسطينية موالية للمعارضة (كتائب الشيخ أحمد ياسين، كتيبة الشهيد ياسر عرفات، كتائب شهداء الأقصى، أكناف بيت المقدس، وغيرها). ودار ما يشبه حربا أهلية فلسطينية مصغّرة. وحدثت انشقاقات في صفوف القيادة العامة وجيش التحرير الفلسطيني في منتصف عام 2012. لم يكن الانشقاق الأول في جيش التحرير، بل سبقه انشقاق في العام 1976 حين أمر قائده في بيروت محمود أبو مرزوق، وحداته بالانضمام إلى منظمة التحرير ردا على أمر سوري بمهاجمتها. وفي عام 1983 انشق 215 جنديا من جيش التحرير رفضا لقتال المنظمة في طرابلس.

لم يبق في مخيم اليرموك سوى بضعة آلاف، عاشوا حصارا منذ منتصف عام 2013 حتى منتصف عام 2018. حصار شبيه بذلك الذي تظاهروا لإسقاطه عام 1985 عن المخيمات في لبنان. بلغ عدد من اعتُقلوا في مخيم اليرموك نحو 500 شخص، فيما تجاوز العدد في كل مخيمات سوريا 1800 شخص. أما عدد القتلى فهو كبقية أسرار الدولة. الفارون من مخيم اليرموك حملوا آلامهم ورحلوا، إما نازحين في سوريا، وإما لاجئين إلى لبنان وتركيا وأوروبا.

في الشمال السوري بحلب، الصدفة أوجدت جوارا قلقا بين مخيم النيرب والمطار الملاصق له، ضاعفت من أهمية المخيم. يحدثنا محمد اللاجئ الفلسطيني من النيرب إلى مخيم شاتيلا (51 عاما)، عن تلك المرحلة، ومحاولات المعارضة السورية اقتحام المطار عبر المخيم، بينما يحاول النظام صدّها ودعوة أهالي المخيم إلى مآزرته. كان المخيم يعيش فلسطينية فريدة في الواقع السوري في حالة شبه انفصال عن محيطه. لا تزاوج إلا في حالات نادرة. ولا عمال سوريين داخل المخيم. ربما يستدعي الأمر تفسيرا تاريخيا اجتماعيا، لكنه الواقع الذي كان قبل اندلاع الثورة عام 2011. 

في الشمال السوري بحلب، الصدفة أوجدت جوارا قلقا بين مخيم النيرب والمطار الملاصق له، ضاعفت من أهمية المخيم

حدث الاشتباك الأول بين المعارضة السورية المسلحة ومسلحين في مخيم النيرب، وقُتل ثلاثة معارضين وثلاثة من أهالي المخيم، سارعت عائلات محسوبة على المعارضة السورية إلى دفع دية القتلى الفلسطينيين. هدأت الأمور، قبل أن يقع الحدث الذي سيحدّد تموضع المخيم. في يوليو/تموز 2012، يُخطف 17 مجندا من جيش التحرير قرب مدينة مصياف، ثم يُعثر على جثثهم قرب مدينة إدلب. فصائل فلسطينية مؤيدة للنظام تتهم المعارضة السورية، والأخيرة تنفي وتدين على لسان المجلس الوطني السوري المعارض. تحولت جنازة هؤلاء المجندين إلى منصة لإطلاق دعوات الثأر، ليبدأ مباشرة توزيع السلاح، وتشكيل "كتيبة أسود القدس" التي ستصبح فيما بعد "لواء القدس"، وحدثت هجرة واسعة من مخيم النيرب إلى تركيا ولبنان.

حينما كانت فلسطين سوريا الجنوبية

ألقى التاريخ دوما بحمله على العلاقات السورية الفلسطينية. فسوريا التي لم ترض إلا أن تكون الأخت الكبرى لفلسطين، لتكون الوصية على شؤون الفلسطينيين، الذين قبل بعضهم بذلك، وتمرّدت عليه أكثريتهم. من دون نكران خصوصية العلاقات الفلسطينية- السورية.

فالفلسطينيون سموا بلدهم في مؤتمراتهم المبكرة سوريا الجنوبية، وطالبوا بوحدة معها كمحطة للوحدة العربية الشاملة.

وحين أراد سلطان باشا الأطرش أن يُطلق الثورة السورية (1925) بدأ ببعث رسالة إلى مفتي فلسطين وقائد حركتها الوطنية الحاج أمين الحسيني، يطلب فيها منه ألف ليرة ذهبية، فأمنها المفتي بسرعة من البنك العثماني ("فلسطين والحاج أمين الحسيني" لزهير مارديني). وفي العام التالي انتدب مؤتمر مكة الحسيني لرئاسة "اللجنة المركزية لإغاثة منكوبي سوريا" (دراسات في الدين والتربية وفلسطين والنهضة). وفي العام 1929 شكل السوريون الدروز غالبية أفراد أول ثورة فلسطينية مسلحة.

وشكل استشهاد الشيخ السوري عز الدين القسام على أرض فلسطين أواخر عام 1935 مناسبة لانطلاق الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939). وفي نهايتها لجأ إلى سوريا الكثير من الفلسطينيين. فصحراء تدمر ضمت معسكرا لتدريب القادمين من فلسطين، قبل أن تصير بعد عقود رمزا لسجن مات فيه عشرات وربما المئات من الفلسطينيين في عهد حافظ الأسد.

AFP
منظر عام لأحياء مدمرة في مخيم اليرموك المدمر جنوب العاصمة السورية دمشق، خلال احتفالات الذكرى 57 لتأسيس حركة فتح في 7 كانون الثاني 2022

وحين انفجر الصراع العسكري الصهيوني- الفلسطيني واسعا عام 1948، صارت فلسطين قبلة كثير من القادة السوريين على اختلاف توجهاتهم الآيديولوجية (أديب الشيشكلي، عبد الحميد السراج، مصطفى السباعي، زهير الشاويش، أكرم الحوراني، صلاح الدين البيطار، ميشال عفلق). وحتى فوزي القاوقجي قائد جيش الإنقاذ الذي وُلد في طرابلس الشام (1890-1977) لا يمكن فصله عن البيئة السورية التي أنشأ فيها يوما ما سماه آنذاك (1925) "حزب الله".  

صارت فلسطين اسم شارع، وسجن، وفرع أمني شهير في سوريا. ولم يتساهل البعثيون مع أي محاولة استقلال للقيادة الفلسطينية عن إرادة البعث.

فلسطين وظيفة بعثية

استقبل السوريون 80 ألف فلسطيني سنة 1948، وأمر الرئيس شكري القوتلي بتأمين حاجاتهم والأعمال المناسبة لهم، وتنظيم أوضاعهم. وقد وفّر التعامل السوري الطمأنينة النسبية للاجئين الجدد، وجاء القانون الأشهر الذي يقنّن أوضاعهم عام 1956، حاملا الرقم 260 وينص على: "يُعتبر الفلسطينيون المقيمون في أراضي الجمهورية العربية السورية بتاريخ نشر هذا القانون كالسوريين أصلا في جميع ما نصت عليه القوانين والأنظمة النافذة، وبحقوق التوظيف والعمل والتجارة وخدمة العلم، مع احتفاظهم بجنسيتهم الأصلية". وتنص المادة الثالثة من القانون على حق اللاجئ الفلسطيني المقيم في سوريا على: التوظيف في جميع إدارات الدولة، والانتساب لجميع النقابات المهنية، والعمل بالتجارة والصناعة. وهكذا تساوى اللاجئ الفلسطيني بالمواطن السوري في الحقوق والواجبات كافة ما عدا حقّي الترشح والانتخاب. وهذا ما كان سببا في انخراط الفلسطينيين في النكبة السورية الكبرى.

ومع وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى سدّة الحكم في سوريا (1963)، ورث الوضعَ الفلسطيني واستغله: أسَس أحزابا فلسطينية وأدارها. أنشأ معسكرات تدريب وحرّم على الفلسطينيين العبور من سوريا إلى إسرائيل. وأباح لهم التسلل إلى الأردن ولبنان. ورفع "البعث" علم فلسطين وطاف به الشرق، على اعتقاد راسخ بأن رفع هذا العلم يحرر حامله من المساءلة، ويمنحه رخصة قيادة، ويعطيه بوليصة تأمين ضد أي استجواب، ويطهره من آثامه.

صارت فلسطين اسم شارع، وسجن، وفرع أمني شهير في سوريا. ولم يتساهل البعثيون مع أي محاولة استقلال للقيادة الفلسطينية عن إرادة البعث. فكان اعتقال ياسر عرفات وخليل الوزير (1966)، ثم جورج حبش (1968). ولم يكن الاندماج أقل قسوة في مناسبات أخرى. فقضى قائد قوات الصاعقة (فرع البعث الفلسطيني) ضافي الجمعاني (1927-2020) 23 عاما في السجون السورية (1971-1994) بسبب ولائه لصلاح جديد، خصم حافظ الأسد.

والقومية التي تجمع حكام سوريا الجدد بالفلسطينيين وباقي العرب عرّفها البعثيون بما يصعّب الأسئلة ويُعجز المنطق والمحاججة: "القومية حب قبل كل شيء، قدر محبب، ما أحلاه قدرا قاسيا ولكنه محبب شهي، يريد الله أن نكون كلنا أبطالا، ولا راد لإرادة الله" (عفلق "في سبيل البعث"). لذلك فإن الشعارات والمزايدات المتعلقة بتحرير فلسطين ستصل حدّها الأقصى مع البعث بلا رادع. وفيما كانت تسوء العلاقة بالقيادة الفلسطينية، خصوصا منذ عام 1976، وخلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت صيف 1982 (يمكن العودة للتفاصيل في كتاب "تحت الحصار" لرشيد الخالدي)، وصولا إلى انشقاق حركة فتح بدعم سوري عام 1983، ثم حرب المخيمات في لبنان (1985-1987).

font change