يوم اكتشفت اللعبةَ السحريّة

يوم اكتشفت اللعبةَ السحريّة

كنت في صغري مولعة باللعب بالحجارة. أبني منها قصورا وأبني كائنات خيالية. أصنع من قطع القماش دمى أعطيها أسماء وأقيم بينها علاقات أو خصومات.

كنت أرسم العالم كما يبدو حولي. وكان ذلك زمن الحرب العالمية الثانية وأخبار الهزائم والانتصارات تملأ واجهات الصحف. لم تكن وسائل الإعلام المصوّر المتحرّك أو التلفزيون، قد عُرِفَت. لكنْ كانت هناك صحف ومجلاّت تكتب تعليقات طريفة على نتائج المعارك. كنت، وأنا دون العاشرة، أتمسك بقراءة مجلة ساخرة اسمها "المضحك المبكي" تترصّد التناقضات. وقد ضحكتُ كثيرا من تعليق لها على معركة خسرَتْ فيها إيطاليا سيطرتها على جنوبها، إذ قالت المجلة: "إيطاليا صارت تحتاج إلى نصف نعل" في إشارة إلى انهزامها وخسارتها في إحدى المعارك في شبه الجزيرة الجنوبيّ الذي تشبه صورته على الخريطة القدَم أو (الجزمة).

اليوم صارت الحرب "لعبة" العالم كلّه.

ولعلّ أفظعَ الحروب وأكثرَها دموية تلك التي أنتجت أعظمَ قدرٍ من حكايات الأهوال والأخبار الغريبة، وأعطت في الوقت نفسه قدرا هائلا من النتاج الفكريّ النظريّ الذي يتكلّم على السلام والأخوّة الإنسانيّة، ويُنظِّر لعالم بلا حروب وبلا صراعات. أظنّها الحرب العالمية الثانية التي عاصَرْتُها وقرأتُ عن بعض وقائعها في صحف ذلك العهد. وكنت وأنا في حوالى العاشرة من العمر أستغرب وأهلع وأطرح الأسئلة.

الغريب أنّ قيم البطولة والدفاع عن الوطن والإنسانيّة تُنسَب إلى القاتل الأكبر الذي يُعتَبَرُ البطلَ الأكبر. الغريبُ أيضا أنّ الإنسان (من الطرفين) ينسى سلاحَه الأعظم والأسْلَم وهو العقل. طبعا اللجوء إلى العقل يقتضي اقتناعَ الطرفين المتخاصمَين بصلاحية هذا السلاح أو هذا العلاج، وبنجاعة المفاوضات وحتميّة صيانة الحقوق؛ ويفترض، قبل كلّ شيء، وجود العاقلين القادرين أو النافذين في الطرفين. وإن كان يقتضي، في الوقت نفسه، الاحتياط والتحصُّن بالقوة الرادعة.

كيف لا يعرف المعتدي أو الظالم أنّ المُعتَدى عليه والمَسلوبَ حقُّه لن يسكت إلى الأبد، وأنّ قضيّة الخلاف ستبقى قائمة حتى تؤجّلها حربٌ جديدة وقوافلُ ضحايا جديدة؟


ما من حرب استمرّت ولا من خصومة. الجميع يعرف ذلك، ويعرف أنّ السلام آتٍ وحتى المصالحة قادمة. فلماذا كانتّ الحروب؟ ولماذا تستمرّ؟

سيجيبني قارئ بأنّ الحرب موجودة منذ بدء التاريخ. وأنّها كانت جوابا عن ظروف ظالمة أو تلبية لمطامع. مع ذلك، أقدر أن أقول: معظم تلك الحروب كان يمكن تفاديها وإنقاذ آلاف الأرواح من الطرفين المتصارعَين، فضلا عن إنقاذ المنجزات الحضارية، دون أن نذكر القيم والمبادئ الإنسانيّة.

لكن هل المعيارُ الإنسانيّ العاقل النبيلُ الرحيم هو الذي يحدّد علاقات الجماعات كلّما نشب صراع؟ وما دورُ الحكّام ودورُ أساطير الحروب والبطولات ودورُ الأفكار المتطرّفة بل العصبيّات والمطامع وحتى المصالح الاقتصادية في لا منطقها؟ وما دور التقاليد وأوهام المجد والربح والسيادة؟ بل ما دور الغرائز وعقائد القتال؟

كيف تستمرّ هذه اللعبة القاتلة؟ وكيف لا يعرف المعتدي أو الظالم أنّ المُعتَدى عليه والمَسلوبَ حقُّه لن يسكت إلى الأبد، وأنّ قضيّة الخلاف ستبقى قائمة حتى تؤجّلَها حربٌ جديدة وقوافلُ ضحايا جديدة؟ أم أنّ المسألة متعلّقة بمطامع وعصبيّات، وحتى بقائد المعركة الذي يتشوّق إلى انتصار يحقّق له مجدا وأوسمة ودخولا في التاريخ؟

إنه سؤالٌ محيِّر: الدعوة إلى السلام ـــــ شرطَ ضمان الحقوق ـــــ هي المنطق الإنسانيّ الرفيع. لكن ما ضمان قناعة الآخر بهذا المبدأ وما الذي يردعه عن الاعتداء؟ من جهة ثانية، كيف يسكت أو يُسالِم الشعبُ الذي سُلِبَت أرضُه وحقوقُه؟ وكم سيدوم انتصارُ الظالم وركونُ المظلوم؟

إنّه السؤال الإشكاليّ الذي يفرض على الإنسانيّة بحوثا وحلولا.

هل كرسيُّ الحكم يصيب الحاكم (أو الحكّام) بفقدان الذاكرة وفقدان المنطق والرؤيا؟ وهل الصراعاتُ الدامية غريزةٌ طاغية يحرّكها وهمٌ جنونيّ بالنصر الحاسم والنهائيّ؟ ألا يعرفون أنّ صاحب الحقّ لن يسكت طويلا أو يتنازل عن حقّه مهما كان الثمن ومهما طال الزمن؟ أم يتوجّب على كلّ بلدٍ أو جماعة أن يذوق ويلات الحرب وفجائعها قبل أن يكتشف قدرة العقل والمفاوضات على بلوغ النتائج دون عبور هذه الجهنّم البشرية؟

في هذا كلّه ما يعلّم أن الحرب مصنعُ الويلات للمنتصر وللخاسر، وإن تأخّر اكتشاف ذلك واكتشاف التاريخ الذي تَجَرّح، وتلكّأ شفاءُ الأعماق التي أُصيبت، وترميمُ الأسس التي اهتزّت، وفهمُ طبيعة الخسارة.

font change