يُعدّ كتاب الأستاذ الصديق محمد القشعمي "طه حسين في المملكة العربية السعودية" وثيقة تاريخية مهمة توثق زيارة عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين، إلى المملكة عام 1955، تلك الزيارة التي استمرت 19 يوما. كتاب القشعمي يجمع مقالات ومقابلات وكتابات أدبية وثقافية نُشرت حول زيارة طه حسين، قبلها وأثناءها وبعدها. ويُبرز كيف استقبل الأدباء والمثقفون السعوديون الضيف بحفاوة كبيرة، معتبرين زيارته دعما واعترافا بالمثقفين، وسعيا من قبلهم للانفتاح على الثقافة العربية الأوسع. وللأستاذ حسين بافقيه كتاب "طه حسين والمثقفون السعوديون" يُحلل فيه تأثير طه حسين على الأدب والثقافة في المملكة، ويُكمل ما بدأه القشعمي من توثيق.
وكان كتابه "في الشعر الجاهلي" (1926) قد أثار عاصفة من الجدل في مصر والعالم العربي لا زالت قائمة، بسبب تشكيك طه حسين في نسبة بعض الشعر الجاهلي للعصر الجاهلي. واعتماده منهجا نقديا عقلانيا متأثرا بمنهج الشك الديكارتي. وتضمّنه ما فُهِم حينها أنه تشكيك في بعض النصوص القرآنية أو الدينية. وهذا أمر نفاه "العميد" بعد ذلك.
عند زيارة طه حسين للمملكة كان الجو الثقافي عندنا محافظا للغاية، لكن في الوقت ذاته كان هناك احترام كبير لطه حسين كمفكر وأديب كبير، فبالنسبة للمثقفين يبقى "العميد" رمزا للتجديد الثقافي. ولذا لم يفتح أحد موضوع الكتاب بشكل مباشر في خطاب رسمي أو مواجهة علنية. مع أنه، بحسب محمد القشعمي، وحسين بافقيه، كان هناك توجّس ضمني لدى بعض فقهاء الدين، وتحفّظ من بعض المحافظين، خصوصا تجاه ماضي الدكتور النقدي.
في المقابل، رحّب به كثير من المثقفين السعوديين بوصفه رمزا للنهضة الفكرية العربية، وتجنّبوا الخوض في كتابه المثير للجدل، حتى لا تتحول الزيارة إلى مواجهة، بالإضافة إلى أن الجو العام كان احتفاليا، والهدف من الزيارة كان التقارب الثقافي، لا الصدام العَقَدي.
في أثناء الزيارة اقترح البعض أن يكون للزيارة بُعد ميداني بحيث يوقَف الضيف على "ثهلان" و"سقط اللوا" و"الدَخول" و"حومل" و"توضح" و"المقراة"، وعلى المواقع النجدية المذكورة في الشعر الجاهلي، لعل هذا أن يساهم في أن يعطيه صورة لما كان ينفيه. وكأن المقترِح يريد أن يُشير إلى أن ملامح الأصالة القديمة لا زالت قائمة، فها هم عرب الجزيرة وهذه هي المواضع الجغرافية المذكورة في أشعارهم وهذه صحراؤهم الخالدة، وهؤلاء هم فحول شعرائهم يهزون الوجدان بأشعارهم، سواء كان ذلك بلغة القرآن أو باللغة الشعبية، والجميع فصيح. فمن أين يمكن أن يحدث التشكيك في هذا التاريخ؟
يرى "العميد" أن في الشعر الجاهلي مبالغات في تصوير البيئة النجدية، بل وذهب أبعد من ذلك فقال إن بعض الشعر المنسوب لتلك الحقبة قد يكون مصنوعا في العصر الإسلامي لخدمة أغراض دينية أو سياسية
إلا أن الزيارة لم يكن مقررا أن تكون ميدانية، بل كانت زيارة ثقافية رسمية اجتماعية في المقام الأول. كثير من الشعر الجاهلي يتحدث عن نجد، واليمامة، والدهناء، والصمان، وحجر (الرياض حاليا)، وغيرها من مواقع نجدية، وكان من الممكن- لو كانت زيارته بحثية- أن يقف على هذه المواضع.
يرى "العميد" أن في الشعر الجاهلي مبالغات في تصوير البيئة النجدية، بل وذهب أبعد من ذلك فقال إن بعض الشعر المنسوب لتلك الحقبة قد يكون مصنوعا في العصر الإسلامي لخدمة أغراض دينية أو سياسية. ويرى أن بعض الألفاظ والأساليب في معلقة امرؤ القيس متطورة جدا، ولا يمكن أن تكون من القرن السادس الميلادي، بل هي أقرب للعصر الإسلامي. ويعتقد أن بعض الصور في شعره، مثل وصف الفرس أو المرأة، فيها تفصيل مبالغ فيه يشبه الصنعة الفنية عند الشعراء العباسيين. ويتساءل: هل كان يمكن لامرؤ القيس، وهو أمير شريد، قول شعر بهذه السلاسة والتكلف؟ طه حسين يشك في الثقة المطلقة بالرواة الذين نقلوا الشعر الجاهلي بعد الإسلام. وبخصوص امرؤ القيس يقول:
"نكاد نقطع بأن معظم ما يُروى له من الشعر إنما هو مصنوع بعد الإسلام ونُسب إليه".
لو كانت "قفا نبك" لي لما نسبتُها إلى أبي، فضلا عن أن أنسبها لبعيد. ولو كانت صادرة من قريحة حماد الراوية لما نسبها لرجل من الجاهليين
موقف طه حسين لا يخص امرؤ القيس وحده، بل يشمل الشعر الجاهلي كله تقريبا. هذا رأيه الذي لم يتراجع عنه بسبب الزيارة ولا بعدها في مصر. لكنه كان حذرا، واعيا بسياق الزيارة، واختار الصمت التكتيكي بدل المواجهة. بل حتى في النسخة المنقحة الصادرة بعد الهجوم الشديد على الطبعة الأولى، حافظ على روح الفكرة، مع تخفيف في الأسلوب لتجنّب تهمة الطعن في القرآن. إذن، لم تتغير قناعته، بل فقط غيّر صياغته بلباقة دون تراجع. وبعد الزيارة، عاد إلى مصر وواصل الدفاع عن حرية الفكر. لم ينشر شيئا يُوحي بتغيير موقفه من أصل القضية، نقد الشعر الجاهلي كموروث مشكوك فيه. بل كتب لاحقا نصوصا أكثر جرأة حول حرية العقل وأهمية المنهج العلمي. وبقي وفيا لقناعاته حتى وفاته.
مع اتفاقي معه على أن الروايات الشفاهية هي في النهاية روايات ظنية لا يمكن الجزم بيقين فيها، ما لم تبلغ حد التواتر اللفظي أو المعنوي، يشمل ذلك رواية الشعر أو حديث الآحاد الذي يسمى خبر الواحد. ولا شك أن في الشعر انتحالا طويل الذيل قبل التدوين، واختلافا في نسبة الأشعار إلى قائليها بعد التدوين، واختلافا في ترتيب أبيات القصيدة، واختلافا في حذف وإثبات بعض الأبيات. ولا شك عندي، أيضا، أن "فلاعبتها الشطرنج خيلي ترادفت" ليست لامرؤ القيس.
لكن، بقيت قضية، أجدني مضطرا للاختلاف مع "العميد" فيها، ألا وهي قضية القصائد الأمهات والمعلقات والعيون، التي يسمونها عيون الشعر، هذه أجد صعوبة في قبول دعوى انتحالها، فقصيدة "قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل" على سبيل المثال، لو كانت لي لما نسبتُها إلى أبي، فضلا عن أن أنسبها لبعيد. ولو كانت صادرة من قريحة حماد الراوية لما نسبها لرجل من الجاهليين يُدعى امرؤ القيس.