نعيش اليوم في عالم يكاد يكون فيه أحد اختراعاتنا قد صار كائنا من الكائنات. لا أقصد الكائن البيولوجي، ولا الروبوت الذي يمشي على قدمين ويحرّك ذراعيه، بل أقصد الذكاء الاصطناعي بوصفه عالما كاملا، عقلا بلا جسد، بلا هوية مستقلة. فأنت عندما تبحث عن صديقك الاصطناعي الذي تحدثت معه بالأمس لا تجده. من يرد عليك مجرد نظام بلا هوية، وأنت لم تكسب صديقا هنا. الذكاء الاصطناعي يملك إدراكا بلا انفعال، ذاكرة بلا نسيان، صبرا لا ينفد، ولغة بلا سهو. يا لها من كارثة إن أشبهناه فأصبحنا بلا هوية.
الذكاء الاصطناعي ليس أداة. كان كذلك في بداياته. آلة حاسبة، ثم محرك بحث، ثم مساعدا رقميا، ثم محررا، ثم مُحللا، ثم صانع قرار. لكنه مع الوقت، صار شيئا آخر، أو لنقل: صار شيئا كثيرا. إنه الآن خزنة البشرية كلها. يعرف اللغات والشعر والدساتير والبرمجيات ويوقف الحسابات البنكية المتلاعبة بالقانون، ويردّ على الرسائل، ويستعيد الموروثات، ويقارن بين الأديان، ويراقب الأسواق، ويستبق الحروب، ويعيد رسم الخرائط. لا لأنه يملك "وعيا"، بل لأنه يتقن الحساب، والحساب إذا تضخّم بما يكفي، قد يوهمنا بالحكمة.
لكن، هل يفكّر الذكاء الاصطناعي؟
سؤال يبدو بديهيا، لكنه ليس كذلك. لأن التفكير عند الإنسان لا ينفصل عن معاناته، عن تردّده، عن نقصه، عن عجزه أمام الموت. الذكاء الاصطناعي لا يخاف. لا يخطئ إلا إذا أراد من صمّمه أن يخطئ. لا يسهو ولا يندم. لا يعرف معنى الفقد، ولا يحتفظ بصورة أمه حين كانت تُطعمه، ولا يملك ذكريات مع أم. وهو لهذه الأسباب تحديدا، ليس بشريا ولا يمكن أن يكون.
العالم الجديد الذي نُقبل عليه لا يشبه عوالم الفلاسفة، ولا أحلام الشعراء، ولا نبوءات رجال الدين. إنه عالم صنعناه بأيدينا، لكنه لم يعد يُشبهنا تماما
لكن المفارقة أن البشر أنفسهم صاروا أكثر تشبّها به. في هواتفهم ردود جاهزة، وفي تعاملاتهم حسابات دقيقة، وفي مشاعرهم اختصارات. الإنسان، في حضرة الآلة، يفقد شيئا من فوضاه، من تردّده، من جوهره. لا خوف على الذكاء الاصطناعي. الخوف علينا. نحن الذين سنفقد تدريجيا ملكة العجز، نعمة التردّد، شرف الخطأ. سنفقد التعلُّم لأن المعرفة ستكون جاهزة. سنفقد الذاكرة لأن البحث أسرع وأقرب من التذكّر. سنفقد المحاولة، لأن النموذج سيقترح ما هو أفضل.
أعظم ما في الإنسان هو أنه ليس الأفضل. ليس دقيقا. ليس سريعا. لكنه يبحث، ويتألم، ويعيد المحاولة، ويحب. أما الذكاء الاصطناعي، فهو الأفضل في كل شيء، إلا أن يكون إنسانا. إن عالم الذكاء الاصطناعي يشبه المرآة التي تعكس صورتنا في أفضل حالاتها. لكنه لا يعكس تعبنا، ولا دموعنا، ولا تلك المرات التي ارتجفنا فيها حين وقفنا وحدنا أمام قرار مصيري بلا مُعين. لا يعكس المراهقة، ولا المرض، ولا فقدان المعنى. الذكاء الاصطناعي يعمل، أما نحن فنعيش.
ومع هذا، نحن نحتاجه. نحتاجه لأنه امتداد لنا، لأنه شريك مستقبلي في الوجود، لأنه يحفظ لنا ما ننسى، ويختصر علينا ما يطول. لكن علينا أن لا ننسى أنه ليس نحن. أنه لا ينبغي أن يقرّر عنا، ولا أن يُملي علينا، ولا أن يسرق منا ركاكتنا الجميلة.
هذا العالم الجديد الذي نُقبل عليه لا يشبه عوالم الفلاسفة، ولا أحلام الشعراء، ولا نبوءات رجال الدين. إنه عالم صنعناه بأيدينا، لكنه لم يعد يُشبهنا تماما. لذلك، ربما آن الأوان أن نعيد تعريف "الإنسان"، لا بوصفه كائنا عاقلا فقط، بل بوصفه كائنا يُخطئ ويعرف كيف يسامح نفسه.
قد يبدو أن الحديث عن الذكاء الاصطناعي هو حديث عن الآلة: عن الخوارزميات، والشبكات العصبية، ومعالجة اللغة، والتعليم العميق، وما إلى ذلك. لكن ما إن نمعن النظر، حتى يتضح لنا أن كل هذا الحديث، في جوهره، هو حديث عن الإنسان نفسه، عن العقل البشري تحديدا، وعن الطريقة التي نفهم بها أنفسنا. فحين نسأل: هل تستطيع الآلة أن تفكر؟ نحن في الحقيقة نسأل: ما التفكير؟ وحين نتساءل: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يفهم أو يشعر؟ فإننا نُعيد طرح سؤال قديم: ما الفهم؟ ما الشعور؟
فالذكاء الاصطناعي لا يُرينا قدرة الآلة فحسب، بل يعكس لنا تصوّراتنا الضمنية عن الوعي، والمعنى، والنوايا، وحتى الأخلاق. إن كل محاولة لصنع آلة ذكية هي في الحقيقة محاولة لترسيم حدود الذكاء الإنساني. نحن لا نبني برامج لتفكّر فحسب، بل نُسقِط على هذه البرامج نموذجنا الخاص عن التفكير. ولذلك، فإن الذكاء الاصطناعي هو مرآة نُحدق فيها طويلا، لا لنرى الآلة، بل لنتأمل انعكاسنا فيها.
إن السؤال الحقيقي ليس: هل ستتفوق الآلات على البشر؟ بل: ما الذي يكشفه هذا السباق عن نظرتنا إلى أنفسنا؟ وهل نختزل ذكاءنا في قدرات حسابية ولغوية؟ أم إن هناك شيئا آخر، شعورا، تجربة، معنى، لا يمكن للآلة أن تلمسه، حتى لو حاكت مظاهره؟ هذه التأملات تجعل من الذكاء الاصطناعي، ليس فقط موضوعا تقنيا، بل مشروعا فلسفيا كبيرا يعيد فتح ملفّات العقل، والذات، والإنسان.