رغم أن بيتهوفن وهيغل وُلدا في السنة نفسها، 1770، وأن بيتهوفن تُوفي عام 1827 بينما عاش هيغل حتى 1831، فإن هيغل لم يذكر بيتهوفن مرة واحدة في أي من كتاباته أو محاضراته، حتى تلك التي خصصها للجمال.
هذا الصمت الغريب أثار اهتمام كثير من الفلاسفة والمؤرخين، لأن الاثنين يمثلان ذروة الروح الألمانية في القرن التاسع عشر، كل في مجاله. وقد التقى الرجلان زمنيا في فيينا لفترة وجيزة، وكان بيتهوفن وقتها قد صار موسيقارا مشهورا، فيما كان هيغل لا يزال في بداياته، ومع ذلك، لا يوجد دليل على أن أحدهما التفت إلى الآخر. والسؤال هنا ليس بيوغرافياً، بل فلسفي، كيف يمكن لفيلسوف الجمال الذي رأى في الفن لحظة من لحظات تطور الفكرة المطلقة، أن لا يُصغي إلى أهم تعبير موسيقي عن الروح الأوروبية في زمانه؟
وما يزيد هذا الصمت غرابة أن هيغل، في أواخر حياته، وبعد أن أنهى كتاباته الكبرى، "ظاهريات الروح"، و"المنطق"، و"فلسفة الحق"، تفرغ لمحاضرات فلسفة الجمال والفن في برلين، مستعرضا فيها كل فن على حدة، من العمارة حتى الشعر. ومع أن السيمفونية التاسعة كانت قد عُزفت، وأصبحت موسيقى بيتهوفن حدثا ثقافيا مشهودا في أوروبا، فإن هيغل لم يرَ فيها ما يستحق التحليل، وكأنها لم تدخل بعد أفق الفكرة.
قد يبدو أن السبب الجوهري يعود إلى قيمة الموسيقى نفسها. ففي محاضراته في فلسفة الفن، صنف هيغل الفنون من الأدنى إلى الأعلى بحسب قدرتها على تجسيد الفكرة، فوضع العمارة في القاع، يسبقها النحت، ويسبقه الرسم، وتسبقه الموسيقى، وفي القمة يأتي الشعر. فالموسيقى عنده تعبر عن العاطفة لا عن الفكرة، وهي فن الزمان الداخلي لا المكان الخارجي، ولهذا فهي ناقصة فلسفيا لأنها لا تُجسد المفهوم بشكل محسوس. ولهذا أيضا، حتى حين كتب عن المأساة اليونانية أو الفنون الدينية، كان يراها أسمى لأنها تُفكر وتدخل في جدل داخلي، بينما الموسيقى تشبع العاطفة فقط، وتبقى في حدود الشعور. من هذا المنطلق، لم يكن بيتهوفن ممن يُجسد الروح المطلقة في لحظة وعيها بذاتها.
ربما كان يرى في الموسيقى الرومانسية، ومن ضمنها موسيقى بيتهوفن، تعبيرا عن انفعال داخلي لا عن تطور الوعي، فهي وجدانية، ذاتية، تتغذى من القلق لا من الفكرة، ومن الألم لا من الديالكتيك. بينما كان هو أقرب إلى التراجيديا الكلاسيكية التي تتصارع فيها الإرادات تحت أنوار العقل، وليس إلى السيمفونيات التي تُطلق صرخات النفس في فضاء غير محدد.
فلسفة هيغل، بمنطقها الشامل، لا تترك إلا مساحة ضئيلة للفرد، فضلا عن أن ترى في تجربته الفنية والوجدانية أساسا للحقيقة. ولهذا لم يكن ليسمع موسيقى بيتهوفن
حين يتجاهل هيغل بيتهوفن، لا يكون السبب جهلا أو تجاهلا مجردا، بل اختلاف جذري في معنى الفن نفسه. الفن كتجسيد للفكرة عند هيغل، أو الفن كتعبير عن الإرادة أو الحياة عند من جاءوا بعده. ولهذا فإن غياب بيتهوفن عن فلسفة هيغل لا يعني غيابه عن الفلسفة، بل يعني أن فلسفة الجمال الهيغلية لم تكن قادرة بعد على سماع هذا الصوت الجديد، الذي لم يكن صوت الفكرة بل صوت الإنسان الفرد في لحظة التمزق، والبطولة، والاندفاع نحو المجهول. فبيتهوفن يُجسد العبقرية الفردية التي تصرخ في وجه المعاناة وتكتب مأساتها الخاصة بصوتها الفريد، بينما لا يملك هيغل مكانا واسعا لمثل هذه الذات الفردية المنعزلة عن المسار الكلي للعقل. فالروح عنده تتطور تاريخيا عبر تجلياتها الكبرى، الفن والدين والفلسفة، لا عبر المعاناة الخاصة للفرد. وحتى العبقرية عنده، ليست ذاتا مستقلة، بل لحظة من لحظات تحقق المطلق في التاريخ. فالفرد ليس أساسا بل نتيجة لحركة الروح. هيغل لا يبدأ من الذات كما فعل ديكارت أو كانط، بل من العقل المطلق الذي يتعين تدريجيا في الطبيعة والذات والتاريخ حتى يبلغ وعيه الكامل. والفرد، ككائن حر أو مفكر، ليس هو الأصل، بل مجرد نتيجة لهذه الحركة.
هكذا نرى أن فلسفة هيغل، بمنطقها الشامل، لا تترك إلا مساحة ضئيلة للفرد، فضلا عن أن ترى في تجربته الفنية والوجدانية أساسا للحقيقة. ولهذا لم يكن ليسمع موسيقى بيتهوفن لأن الألم في موسيقى بيتهوفن لا يُدرَك عقلا بل يُعاش وجدانيا، والوجدان عند هيغل لا يرقى وحده إلى المعرفة. هيغل يريد الفكرة الشاملة، لا التجربة الخاصة، ويريد صوت المطلق، لا صرخة الإنسان. ومن هنا، لم يكن صمته عن بيتهوفن نسيانا، بل تعبير دقيق عن حدود الفلسفة الهيغلية نفسها.
هذا الموقف تغير مع شوبنهاور، وبعده نيتشه، فقد انقلبا على هذا التصور ورفعا الموسيقى إلى مرتبة عليا، لأنها لا تحاكي بل تكشف، لا تُفكر بل تُعبر عن جوهر العالم. وهكذا بقي صوت بيتهوفن يتردد، وظل يعبر العصور بوصفه صدى الإنسان الذي لم يبلغه المطلق، وجرس الذات التي لم تنتظر من ينظر لها. ولهذا، حين جاء شوبنهاور ونيتشه، لم يُعيداه إلى الفلسفة فحسب، بل منحاه ما لم يمنحه إياه هيغل، مقام الكشف لا التمثيل، والنبض لا الفكرة، والعذاب الصامت لا الفكرة الناطقة. وهكذا، وجد صوت الإنسان، أخيرا، من يُصغي إليه.