يتحضّر رؤساء العالم لإلقاء كلمات أوطانهم من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، اليوم الثلاثاء 23 سبتمبر/أيلول. إنه فصل الخطابات، وسجال البلاغات، وإبراق الرسائل للعموم، وتذكير الإنسانية بأبرز القضايا الشاخصة، وفي مقدمتها الشرق الأوسط، بما يحمله من تعقيدات الحرب والدمار في غزة وسياسات الاستيطان في الضفة. وعلى العالم أن يتذكر أن الراحل ياسر عرفات خاطب العالم داعيا للسلام من تلك المنصة في عام 1974 قائلا: "جئتكم يا سيادة الرئيس وبندقيّة الثّائر في يدي، وفي يدي الأخرى غصن الزّيتون، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي...". كان عرفات يؤمن بأن هناك فرصة للعودة لفلسطين، وقد تحققت له مع اتفاق أوسلو الذي هو اليوم في أخطر مصائره. لا بل إن القضية الفلسطينية بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 دخلت أحرج لحظاتها، فما فعلته "حماس" أمر يُمكن تفسير ردة فعل إسرائيل عليه، لكنه من طرف "حماس" لا يمكن تفسيره.
وقد اختارت الأمم المتحدة عنوانا للمناقشة العامة الثمانين، والتي ستستمر حتى 27 سبتمبر/أيلول: "معا نحقق الأفضل: ثمانون عاما وأكثر من أجل السلام والتنمية وحقوق الإنسان". ذلك هو وعد المؤسسة الأممية ورسالتها التي تأسست لأجلها بعد الحرب العالمية الثانية، لكن إسرائيل حطّمت تلك الرسالة مرارا ورفضت الانصياع لقراراتها.
في فلسطين، يقلّب الرئيس محمود عباس شاشات الأخبار في مقرّ المقاطعة، باحثا عن بصيص أمل في تصريح أميركي يوقف الحرب، التي أدانها عباس مبكرا منذ أن أقدمت "حماس" على عمليتها قبل عامين. وبالتأكيد لم يكن في حسبانه أن البلايا ستتكاثف عليه وعلى قضيته العادلة، وأن الحصار سيشتدّ حتى يمنعه من الحصول على فيزا للسفر إلى نيويورك لإلقاء كلمته أمام الأمم المتحدة، وأول الآمال في الأخبار جاءت من كندا وبريطانيا وأستراليا في الإعلان مبكرا عن الاعتراف بدولة فلسطين، وكلما ارتفعت أصوات المعترفين زادت عُقد نتنياهو واشتط في غضبه وجنونه. وفي اللحظات التي ستُلقى فيها أهم الخطابات المتضمن بعضها اعترافات بدولة فلسطين– وهو اعتراف مستحق وردّ فعل طبيعي من الدول والشعوب الحية– ستكون غزة قد غرقت أكثر في أبشع حالات الدمار وخلق الظروف التي تدفع الغزيين للتهجير القسري.
ليس عجيبا أن نشهد صراعا مختلفا في الشرق الأوسط، ولا أعجب منه موقف الغرب، وفي مقدمته أميركا، هي حروب التوراة في نظر الاحتلال، وحرب وجود وشهادة بالنسبة لـ"حماس"
تحارب الولايات المتحدة "حماس" وتدعم إسرائيل في حربها معها، باعتبار "حماس" قوة متطرفة، وفي الوقت نفسه تحاصر رمز الاعتدال الفلسطيني وتحجب عنه حق الوصول إلى منصة الأمم المتحدة. وقد تداركت المؤسسة الأممية المنع الأميركي بمنح الرئيس أبو مازن فرصة الحضور الافتراضي. وفي المقابل، تحمي أميركا الوجود الإسرائيلي فتؤيد نتنياهو بكل شيء. ترسل وزير خارجيتها ماركو روبيو لا لتأنيب نتنياهو على سلوكه الفظيع مع الوسيط القطري، بل ليصلي معه عند حائط المبكى، متضامنا لا أكثر. وهناك عند الحائط المقدس يُستعاد الدين وحلم "إسرائيل الكبرى"، بينما يُطالَب الفلسطيني بأن ينسى حقه في دولته والاستعداد للهجرة.
ليس عجيبا أن نشهد صراعا مختلفا في الشرق الأوسط، ولا أعجب منه موقف الغرب، وفي مقدمته أميركا، هي حروب التوراة في نظر الاحتلال، وحرب وجود وشهادة بالنسبة لـ"حماس" التي لم يعد عندها ما تخسره، وفي المقابل يبدو نتنياهو أكثر تأزما من قبل مع توالي الاعترافات بدولة فلسطينية، مؤكدا أنه "سيواجه الأمم المتحددة"، ويعضد وزيره السابق سموتريتش بالقول: إن الرد على الاعتراف بدولة فلسطينية سيكون بضمّ الضفة الغربية.
والمسافرون من عمّان من الضفة يتحدثون عن ضمّ إسرائيلي عملي تحقق حتى في المناطق المصنفة (أ) التي من المفترض أنها خاضعة للسيادة الفلسطينية بموجب اتفاق أوسلو، فالشرطة الإسرائيلية هي التي تنظّم مخالفات السير، وتخطط كي لا يعود أي مواطن فلسطيني إلى بيته إلا بإذن، ومن لا يحمل إذنا يفقد إقامته ويهجَّر.
فالحصار يطوّق كل الفلسطينيين، وفي مقدمتهم رئيسهم، الرجل المعتدل الذي قال في مقابلة مع قناة "العربية" مؤخرا: "إن أفضل إنجاز للنضال الفلسطيني كان اتفاق أوسلو". لأنه نقل النضال من الخارج إلى الداخل وأتاح بناء المؤسسات في طريق الدولة الموعودة. لكنه يدرك أن الأمر عند نتنياهو مختلف، فالأخير يرى أن أسوأ ما تحقق في تاريخ إسرائيل هو اتفاق أوسلو.
ما الحل إذن لردع الاحتلال وإحياء خيار السلام؟ للأسف لا أفق قريبا. فالحرب ستستمر بنتائجها حتى عام 2026، وقد رتب أهل غزة ساعتهم وفق هذا الميقات، فيما الضفة تزداد ضيقا على أهلها، وتبدو عودة احتلالها واقعا متحققا، إلا إذا رُدع نتنياهو عبر الحليف الأميركي الذي لا بديل عن صوته لإيقاف الحرب، ولعل الجهد الذي تقوم به وتقوده المملكة العربية السعودية بالتعاون مع فرنسا من أجل استئناف الجهد الدولي لاستعادة حل الدولتين، قد يكون أفضل سُبل المواجهة الممكنة لردع إسرائيل.
بلا شك، سيخاطب الرئيس أبو مازن العالم مذكّرا أنه رئيس دولة، مكررا إدانته للغطرسة الإسرائيلية وقتل الأبرياء، مطالبا بإنصاف شعبه. وفي المقابل، سيصعد نتنياهو أمام السيد أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة ليعرض خرائطه الجديدة، ويؤكد عزمه محاربة "التطرف الفلسطيني" في غزة، غير آبهٍ بمن يعترف بدولة فلسطين، فهو القوة المتحكمة على أرضها.