معارض الكتب... مختبرات القراءة المفتوحة

معارض الكتب... مختبرات القراءة المفتوحة

استمع إلى المقال دقيقة

ليست معارض الكتب طاولة بيع فحسب، بل بنية مدنية تتدرب فيها المدن على تقاليد المعرفة المشتركة.

قبل أن تغوي الشاشات الإبهام بالانزلاق على أيقونات لا تنتهي، كانت العواصم تهيئ ساحاتها لمواسم الكتب: تلمع الأرصفة، وتفتح بوابات الحدائق، وتدفع مواكب العناوين مثل زفة تمشي على الورق. منذ ميلاد "معرض القاهرة الدولي للكتاب" عام 1969، تشكل طقس حديث يربي الذائقة، ويصنع ذاكرة لقاءات وندوات وصداقات عابرة للحدود، ويؤكد أن التقليب باليد جزء من قرار الاقتناء وطقس اجتماعي لا تعوضه خوارزميات التوصية.

‏الكتاب رفيق عمر ومرآة زمن، ولذلك تشبه المعارض الأعراس: تتزين بها المدن، ويتقاطر إليها الزوار من كل ناحية، وتغدو بيتا واسعا للكاتب والناشر والقارئ. كثير من الأدباء العرب لا يلتقون أقرانهم إلا في هذه المواسم التي تجمع النقد والمرح والتجربة الحية. وهنا يتجلى بعد غير مرئي: الاحتكاك المباشر، واختبار الغلاف والرائحة والملمس، وتحويل الرغبة إلى اقتناء واع يعضد سلسلة القيمة كاملة.

وتضيف المعارض اليوم بعدا آخر: مختبرات الكتابة والترجمة، مساحات توقيع تعيد للجسد حضوره، و"صالونات ممرات" تتكون تلقائيا حول فنجان قهوة ونصيحة قارئ مجهول.

ونجاح المعرض لا يقاس فقط بالزوار والمبيعات، بل بكيفية حراك الناس في داخله: لوحات إرشاد واضحة، خرائط رقمية، مناطق هدوء للقراءة، مساحات آمنة للأطفال، وممرات مهيأة لذوي الإعاقة البصرية والسمعية والحركية. حين يجد الزائر مقعدا وركنا لإعادة التقاط الأنفاس، يرتفع متوسط زمن البقاء، وتتضاعف فرص الاكتشاف. إدخال تقنيات بسيطة—رموز QR لكتالوغات الأجنحة، تطبيقات جدولة شخصية، إشعارات فورية للجلسات—يجعل التجربة سلسة ويخفف الإرهاق المعرفي، ويمنح الناشر بيانات أفضل لتخطيط مشاركته المقبلة.

الكتاب رفيق عمر ومرآة زمن، ولذلك تشبه المعارض الأعراس: تتزين بها المدن، ويتقاطر إليها الزوار من كل ناحية، وتغدو بيتا واسعا للكاتب والناشر والقارئ

وفي السنوات الأخيرة، راكمت المنطقة خبرة مؤسسية لافتة: الشارقة استقبلت في دورتها الأخيرة أكثر من 1.8 مليون زائر، وشارك فيها ما يزيد على 2500 ناشر من 112 دولة؛ وفي أبوظبي اجتمع عام 2025 نحو 1400 ناشر من 96 دولة مع برنامج تجاوز ألفي فعالية. لم يعد المعرض "بازار أغلفة"، بل صار سوق حقوق وتفاوض وترجمة، حيث ينتقل العنوان من رف محلي إلى لغات وقارات. ورش الترجمة المباشرة و"مكاتب الحقوق" باتت محركات فعلية لتحريك النصوص بين الثقافات، وتوفير فرص للمترجمين الشبان، وتعليم الناشرين أبجديات التعاقد العابر للحدود.

وقد غدت العاصمة السعودية الرياض عنوانا لزخم البيع في العالم العربي. تظهر الأرقام أن "معرض الرياض الدولي للكتاب" يحقق أعلى المبيعات عربيا على نحو متكرر، مع حضور تجاوز المليون زائر، وبيع مباشر تخطى 28 مليون ريال في دورة 2024، ومشاركة فاقت ألفي دار ووكالة. هذا الوهج التجاري لا ينفي رصانة البرنامج الثقافي؛ بل يثبت قدرة السوق القارئ على تحويل الشغف إلى سلوك شراء يدعم المؤلف والمحرر والمطبعة والمكتبة. وتظهر حكمة التنظيم حين تحفظ مساحة للكتب الجادة بجوار الأوسع رواجا، وحين تصمم مسارات موضوعية تسهل على الزائر التقاط "خيط قراءة" لا ينقطع بانتهاء المعرض.

إلا أن قطاع النشر الأكاديمي والعلمي والمهني يتطلب لغة عرض مختلفة: فهنا يشتري الأساتذة والباحثون والمؤسسات لا الأفراد فقط. إن تخصيص أروقة للكتب المرجعية، ومنصات للبيانات وقواعد المعلومات، وجلسات تتناول النشر المفتوح والوصول الحر، يربط المعارض بالجامعة والمختبر والمستشفى. هكذا تبنى شراكات اقتناء مؤسسية، وتفتح قنوات تحديث سنوي للمناهج، وتستعاد الثقة في الكتاب المتخصص الذي يرفع معايير المهنة والبحث.

وقد غدت العاصمة السعودية الرياض عنوانا لزخم البيع في العالم العربي. تظهر الأرقام أن "معرض الرياض الدولي للكتاب" يحقق أعلى المبيعات عربيا على نحو متكرر

وفي التحديات الراهنة، أن الناشر قديما أقرب إلى "معد معرفة" يراهن على الأثر الطويل، أما اليوم فتعاظمت المخاطر وتبدلت عادات التلقي، فصار كثيرون يطاردون العناوين السريعة والمنتجات الموسمية. يدفع الكاتب الثمن الأكبر: تفاوض صعب ونسب متواضعة. عالميا استقر العرف على 10–15 في المئة للنسخة الورقية (مع تفاوتات)، و25 في المئة من صافي عائدات الناشر للكتاب الإلكتروني؛ نسبة تنتقد لعدم عكسها الكلفة المنخفضة للإصدار الرقمي.

المرآة الدولية تفضح ضيق هامش المؤلف عربيا وتستدعي عقودا عادلة ومحاسبة شفافة. المعارض هنا مساحة تفاوض ميدانية: لقاء مباشر يختصر رسائل البريد ويظهر جدارة المشروع أمام ناشر متردد.

font change