يحتفل العالم كل عام في شهر نوفمبر/تشرين الثاني بيوم الخداج العالمي، تذكيرا بثلاثة عشر مليون طفل يبصرون النور قبل أوانهم. وفي إقليم شرق المتوسط، يولد 11 في المئة من الأطفال مبكرا، وهو ما يجعل مضاعفات الولادة المبكرة اليوم هي الخطر الأكبر على حياة الأطفال دون سن الخامسة. وفي الإقليم أيضا، يصطدم هذا العبء بالآثار المدمرة للنزاعات، إذ تضع ملايين الأمهات أطفالهن تحت وابل القنابل، بين خيام النزوح وآلام الجوع.
ففي غزة، يولد أكثر من أربعة آلاف طفل شهريا. ويولد واحد من كل ثلاثة أطفال خديجا أو ناقص الوزن أو يحتاج لعناية مركزة. وهذا ما كشفته الأشهر الستة الأولى من عام 2025. وفي السودان، تسبب النزاع في نزوح 14 مليون شخص؛ ويولد طفل واحد من كل ثمانية أطفال قبل أوانه بكثير، ويزداد احتمال الوفاة للأمهات أثناء الولادة بعشرة أضعاف المتوسط الطبيعي. وفي اليمن، حوَّلت سنواتُ الحصارِ الخداجَ إلى قاتل رئيس للرُّضع، وتفوق حالات الإملاص المتوسط العالمي بنسبة 50 في المئة. وهؤلاء الرُّضع- المولودون قبل أوانهم في غِمار الحرب- يكشفون عن رغبة قوية في البقاء من جهة، وعن هشاشة النُّظم الصحية التي ترزح تحت القصف، من جهة أخرى.
فالولادة لا تتوقف حتى أثناء الصراع. والنساء يحملن ويلدن تحت الحصار، بلا طعام، بلا ماء نظيف، بلا كهرباء. والمستشفيات التي كانت ملاذا آمنا باتت مدمرة أو مُظلِمة. وتُجرَى الولادات القيصرية على ضوء المصابيح اليدوية؛ ويُلف الخُدج برقائق الألومنيوم للتدفئة. وتناضل القابلات والأطباء ببطولة بلا موارد تُذكَر، للحفاظ على حياة المواليد.
وأصبح سوء التغذية أحد أشد الأسباب قسوة في دفع الأمهات إلى الولادة المبكرة. فالأمهات اللاتي يعانين من سوء التغذية يدخلن المخاض مبكرا، أو يفقدن أطفالهن في غضون ساعات. ويعتمد بقاء الخُدَّج في مناطق الحرب على إمكانية الوصول إليهم في المقام الأول. وعندما تُستهدف المستشفيات، أو يُمنع توفير الوقود، أو تُقطع سلاسل الإمداد، فإن الأمهات والمواليد هم الذين يدفعون الثمن.
وبعيدا عن ساحات القتال، يكشف العبء المرتفع للخداج عن أوجه قصور عميقة في بنية النظام الصحي: أمهات لا يحصلن على التغذية الكافية، ومستشفيات لا تستطيع تحويل الحالات الخطرة، وانخفاض حاد في أقسام رعاية المواليد، ونقص في العاملين المدرَّبين بكفاءة. وفي دولٍ مثل باكستان والصومال والسودان واليمن، تضع نساءٌ كثيرات أطفالهن بلا دعمٍ مهنيٍّ مؤهَّل، ويموت عددٌ كبير من الأطفال في صمتٍ، دون أن يُلتفت إليهم.
ولا يمكن للبلدان أن تعيد بناء نُظمها الصحية بينما تكافح من أجل البقاء. فالحل لا بد أن يأتي من المجتمع الدولي، من خلال التزامٍ إنسانيٍ دائم، ودعمٍ إنمائي مستقر، وإرادةٍ سياسية صلبة لا تعرف التراجع.
لذلك، تعمل منظمة الصحة العالمية واليونيسيف وصندوق الأمم المتحدة للسكان والشركاء، في إطار خطة العمل لجميع المواليد الجدد، على توسيع نطاق التدخلات المسندة بالبيانات الخاصة بالرُّضع الخُدج والمنخفضي الوزن عند الولادة، على نحو يتيح تعزيز البيانات، وتقديم الخدمات، وتدريب القوى العاملة، والتمويل في جميع برامج صحة الأمهات والمواليد.
تظهر بيانات منظمة الصحة العالمية انخفاضا يصل إلى 70 في المئة في الرعاية السابقة للولادة، والرعاية أثناء الولادة، ورعاية الحديثي الولادة في العديد من البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط
واليوم، تُطلق منظمة الصحة العالمية الدليل العملي لرعاية الأم لمولودها على طريقة الكنغر (الرعاية بتلامس البشرة)، الذي يعيد التأكيد على أهمية تلك الممارسة البسيطة المنقذة للحياة، باعتبارها رعاية روتينية يتعين تقديمها لجميع المواليد الخدج والمنخفضي الوزن. فهذا الشكل من الرعاية يجعل الأم قادرة على احتضان مولودها دفئا وتغذية من خلال التلامس الجلدي المباشر، ولا يتطلب ذلك أي معدات، بل التدريب فقط، وقدْرا من التفهُّم والتعاطف من جانب العاملين في الرعاية الصحية.
وفي وقت سابق هذا العام، اعتمدت جمعية الصحة العالمية القرار "ج ص ع77-5" الذي يدعو لتسريع العمل من أجل بقاء الخُدج على قيد الحياة. وينبغي أن يجد هذا الالتزام العالمي طريقه إلى الواقع، في صورة تمويلٍ مستدام، وممراتٍ إنسانية مؤمَّنة، وآلياتٍ تضمن المساءلة.
غير أن هذه الالتزامات ما تلبث أن تتراجع أمام واقع التخفيضات الكبيرة في المساعدات الإنمائية الرسمية، التي تنعكس سلبا على الخدمات الحيوية المقدمة للأمهات والمواليد. وتظهر بيانات منظمة الصحة العالمية انخفاضا يصل إلى 70 في المئة في الرعاية السابقة للولادة، والرعاية أثناء الولادة، ورعاية الحديثي الولادة في العديد من البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط.
وقد أبلغ الآن أكثر من 50 بلدا عن نقص في طواقم القبالة الماهرة وتوقف التدريب في مجال القبالة. وقد توقفت الحضَّانات عن العمل، لا بسبب الحرب، بل بسبب خفض الميزانيات. كما تسرَّب العاملون الصحيون بسبب توقُّف الرواتب، لا بسبب الخوف على أنفسهم.
وفي ظل أزمة التمويل، تبذل المنظمة وشركاؤها جهودا لمساندة البلدان في توجيه مواردها نحو الخدمات الحيوية للأكثر احتياجا، وحماية ميزانياتها الموجهة للصحة، وتحسين كفاءة الإنفاق والمشتريات، وضمان تكامل البرامج الممولة خارجيّا ضمن نظام الرعاية الصحية الأولية.
كل طفل خديج يولد في منطقة صراع هو مأساة وشهادة صمود في آنٍ واحد. ورغم استقباله الحياة بأنفاس مثقلة بالغبار والجوع، فهو يذكرنا بأن الحياة لا تنطفئ
وفي حالات النزاع والأوضاع الإنسانية، تظل حماية حياة الأمهات والمواليد في صدارة الأولويات؛ عبر تأمين الولادة الآمنة، وتقديم الرعاية للحديثي الولادة بما يشمل الرعاية بتلامس البشرة، وضمان تدفُّق المساعدات الإنسانية إلى من هم في أمسِّ الحاجة إليها. ويجب على الدول المانحة أن تضمن توفير التمويل في حالات الطوارئ والحماية للعاملين الصحيين، لأن الأطفال الخُدج في غزة والسودان واليمن لا يمكنهم الانتظار طويلا حتى يعم السلام.
وفي أوضاع التعافي من الأزمات، تكون المهمة الرئيسة هي إعادة البناء، عبر استعادة سلاسل الإمداد، وإعادة تأهيل وحدات الأمومة في المرافق الصحية، وتدريب مقدمي الخدمات في خطوط المواجهة. ويتطلب ذلك تمويلا يمتد سنوات طويلة، وليس دورات تمويلية قصيرة الأجل تنتهي حين تختفي الأزمة من عناوين الأخبار.
أما في البلدان المستقرة وذات الإمكانات العالية، فينبغي توجيه البوصلة نحو الوقاية والابتكار، عبر الارتقاء بجودة الرعاية السابقة للولادة، وتوظيف التقنيات الرقمية للرصد والمتابعة، وتعزيز البحوث التي تفتح آفاقا جديدة للنهوض بصحة الأمهات والمواليد. وتتحمل هذه البلدان أيضا واجبا أخلاقيّا وإنسانيّا يتمثل في مواصلة تمويل الصحة العالمية، والحيلولة دون أي تراجُع قد يسببه الإهمال أو ضعف الالتزام.
فكل طفل خديج يولد في منطقة صراع هو مأساة وشهادة صمود في آنٍ واحد. ورغم استقباله الحياة بأنفاس مثقلة بالغبار والجوع، فهو يذكرنا بأن الحياة لا تنطفئ، بل تنبعث من بين الركام، رغم الدمار والخراب.
وفي يوم الخداج العالمي، لا يدور السؤال عمَّا يمكن أن تفعله البلدان المنهكة بالأزمات والأعباء، فهي أصلا تخوض معركة البقاء كل يوم، وتحافظ على الحياة رغم قسوة الواقع. لكن السؤال الذي يواجهنا هو: ماذا سنفعل؟ هل سنواصل التمويل، ونضمن إمكانية الوصول، ونصون الكرامة التي تجعل البقاء على قيد الحياة ممكنا، أم سنقف مكتوفي الأيدي صامتين نشاهد الأطفال الخدَّج ينطفئون وينطفئ معهم كل أمل بغد أفضل؟