في أعماق الثقافة الأميركية الحديثة، يتخفى إرث قديم تحت أسماء براقة مثل: الوعي الكوني والطاقة الإيجابية وقانون الجذب وقوة التفكير. يظن الناس أنهم أمام فلسفة جديدة أو علم في طريق التكوين، بينما هم في الواقع أمام عودة صامتة إلى الميتافيزيقا السحرية القديمة، تلك التي رأت أن العالم ليس ماديا صرفا، بل نسيج من قوى حية تتجاوب مع الوعي والإرادة. فالفكر، في نظر هذه الموجات الجديدة، ليس مجرد انعكاس للواقع، بل طاقة فاعلة تصنع الواقع نفسه. وهنا تكمن المفارقة، لقد غير السحرة الجدد اللغة، لكنهم لم يغيروا العقيدة. بحث سريع في تاريخ الفلسفة والدين والتصوف يوضح أن هذا كله قديم.
في جوهر هذه الرؤية يقبع مفهوم "العالم غير المرئي" أو ما يسمى أحيانا "الذاكرة الكونية" وهو حقل خفي يعتقد أنه يحتفظ بصور جميع الكائنات والأحداث، كأنه ذاكرة شاملة للوجود. فيه تسجل كل الأفكار والانفعالات، ومنه يستمد الإلهام والتنبؤ والرؤى. فالمنوم المغناطيسي والممارس الروحي ومدرب الطاقة، يزعمون أنهم يلامسون هذا الحقل ويفتحون "عين العقل" عليه. ومن خلاله تفسر ظواهر مثل التخاطر والرؤى السابقة والإلهام المفاجئ، التي تقدم اليوم في أميركا بوصفها معجزات علم النفس أو ثمارا لتطوير الذات، لكنها في حقيقتها استمرار لفكرة قديمة جدا آمنت بها المدارس الباطنية منذ العصور الهلينستية، بل قبل ذلك.
وإذا كان العلم الحديث لم يثبت وجود مثل هذا الوسط، فإن ملايين الأميركيين اليوم ومن ورائهم العالم، يتعاملون معه كيقين روحي جديد. في كتبهم ودوراتهم وأفلامهم ومواقعهم الإلكترونية، يكررون المبدأ نفسه، أن للإنسان قدرة على توجيه قوى الكون عبر تركيز الإرادة والفكر. هذه العقيدة تمنح أسماء شتى: "قانون الجذب"، "سر النجاح"، لكنها جميعا تنبثق من النبع ذاته الذي شرب منه الهرمسيون والخيميائيون والقباليون من قبل: أن الوعي الفردي صورة مصغرة عن الوعي الكوني، وأن الانسجام بينهما يفتح الباب للسيطرة.
لقد تغير المسرح ولم يتغير النص. فالساحر الذي كان يتمتم بالأسماء المقدسة في الكهوف القديمة، صار اليوم مدربا للتحفيز الذاتي أو معالجا بالطاقة أو كاتبا في التنمية البشرية. لم تعد أدواته عصا وتعاويذ، بل لغة علم النفس وقوانين الطاقة والإرادة. فبدل أن يقول "أنا أحضّر"، يقول "أنا أجذب". وبدل أن يتحدث عن "الروح الكونية"، يقول "اللاوعي الجمعي". لكن النغمة واحدة: الإرادة الإنسانية هي الملك. ومن يتقن توجيهها يصبح سيدا على نفسه وعلى واقعه.
غير أن هذه العقيدة، وقد خلعت عنها رموزها الدينية، تحولت في السياق الأميركي إلى نزعة فردانية مهووسة بصنع الثروات. فبدل أن تكون الإرادة سبيلا إلى الانسجام مع الوجود، صارت وسيلة لاحتكار الوجود ذاته. وبدل أن يكون الحقل الخفي ميدانا للتأمل في سر الحياة، صار مختبرا لإنتاج المال. لم يعد السعي نحو معرفة الله أو الذات العليا، بل نحو النجاح في الوظيفة، أو شفاء الجسد، أو تحقيق الرغبات. إنها خيمياء بلا روح، تستبدل الذهب الداخلي بذهب المصارف، وتحول ما كان طريقا إلى الإله إلى وصفة للرضا الذاتي والاكتفاء النفسي.
الساحر الذي كان يتمتم بالأسماء المقدسة في الكهوف القديمة، صار اليوم مدربا للتحفيز الذاتي أو معالجا بالطاقة أو كاتبا في التنمية البشرية
ولأن أميركا هي أرض البرغماتية، فقد وجدت هذه الرؤى سوقها الطبيعية هناك. فكل فكرة روحية تترجم فورا إلى منهج عملي، أو كتاب في التنمية، أو دورة مدفوعة الثمن. وقد يكون من يقدم الدورة فقيرا يلاحقه صاحب البيت لأنه لم يدفع الإيجار، ومع ذلك يقرر سيطرته على الحياة بكل ثقة، كما قيل له.
لم يعد السحر يقدم بوصفه معرفة محظورة، بل بوصفه علما يعد بالنجاح والثراء والعافية. وانتقل السحر من السر إلى العلن، ومن الرموز الغامضة إلى لغة بسيطة تسوق عبر الشاشات. حتى تلك المفاهيم التي كانت تهمس في غرف الجمعيات الباطنية كالاهتزازات الطاقية وتوافق الذبذبات، صارت تدرس اليوم كعلوم مرتبطة بفيزياء الكوانتم في الجامعات الخاصة، أو تقدم ضمن برامج التوازن الذهني في الشركات الكبرى.
ولعل أخطر ما في هذه الموجة أنها تستعير مظهر الروحانية بينما تفرغها من معناها. فالمتصوف الحقيقي يرى في الإرادة بابا للفناء في المطلق، بينما الساحر الجديد يرى فيها أداة للسيطرة. الصوفي يذوب في الله حتى يفقد ذاته، أما الساحر الحديث فيؤلّه ذاته حتى يقصي الله. كلاهما يتحدث عن "القوة الداخلية"، لكن أحدهما يقصد بها النور الإلهي الذي يحرر، والآخر يقصد بها سلطة النفس التي تقيد.
لقد أعاد السحر الجديد صياغة العلاقة بين الإنسان والكون في قالب نفسي تسويقي فائق الجاذبية. صار الإيمان بالقدر يستبدل بالإيمان بالنية، والاتكال على الله يستبدل بالثقة بالنفس، والتأمل الروحي يستبدل بتمارين التنفس والتركيز. حتى المفردات تغيرت: لم يعد هناك دعاء، بل توكيد ذهني، ولم يعد هناك تسليم، بل برمجة إيجابية. هذه التحولات اللغوية لم تكن بريئة، بل هي ما مكن هذا الفكر من اختراق الوعي الجماعي الحديث دون مقاومة، لأنه بدا كامتداد للعلم لا كبديل عنه.
إن السحر الجديد في أميركا ليس في الشعوذة، بل في قدرته على إقناع الناس بأن الكون يعمل وفق أهوائهم، وأن كل ما عليهم هو أن يطلبوا فيستجاب لهم. ومع أن هذا الإيمان يمنح شعورا بالتمكين، فإنه في العمق يعيد الإنسان إلى وهمه الأول: أنه مركز الوجود. فحين يتخيل أن الكون يستجيب لإرادته، يغيب عنه أنه هو نفسه جزء من هذا الكون، وليس سيدا عليه. وهكذا يستبدل التوحد بالوجود بالهيمنة عليه، ويتحول الوعي الكوني إلى مرآة لغرور الإنسان.
الساحر المعاصر يبتسم أمام الكاميرا، ويقتبس من علم الأعصاب، ويبيعك كتابا في التفكير الإيجابي، بدل أن يبيعك جرعة من إكسير الخلود
لقد أزيلت الطقوس والرموز، لكن الفكرة باقية، إرادة الإنسان تستطيع أن تصنع قدره، وهذا هو السحر بعينه، وإن كتب هذه المرة بلغة التحفيز والتنمية الذاتية، لا بلغة التعويذة والخاتم والطلسم. الجديد فقط أن الساحر المعاصر يبتسم أمام الكاميرا، ويقتبس من علم الأعصاب، ويبيعك كتابا في التفكير الإيجابي بدل أن يبيعك جرعة من إكسير الخلود. لكنه في جوهره ما زال يحمل الحلم ذاته الذي راود الإنسان منذ فجر الخلق، أن يكون سيد الحياة، لا خادما لها، وأن يمسك بمفاتيح الكون كما لو كانت أدوات في يده.