في القرن العشرين لم تدخل الفلسفة إلى المجال الإسلامي الحديث بوصفها نشاطا إنسانيا مفتوحا للنقاش، بل بوصفها شيئا مريبا ارتبط في الوعي العام بالحداثة الغربية والاستعمار. هذا الدخول المشحون جعل العلاقة بها علاقة قلق وخوف، قبل أن تكون علاقة فهم وحوار. فبدل أن تستقبل الفلسفة باعتبارها أفق تفكير ومساءلة، جرى التعامل معها باعتبارها خطرا كامنا أو تهديدا مستترا. ولهذا مر التعامل الإسلامي المعاصر مع الفلسفة بمرحلتين واضحتين، مرحلة الرفض الصريح ثم مرحلة الاحتواء، غير أن المرحلة الثانية لم تكن تجاوزا للأولى بقدر ما كانت استمرارا لها بصيغة أقل مباشرة.
في المرحلة الأولى ساد خطاب رافض رأى في الفلسفة تهديدا للعقيدة وهوية الجماعة. قدمت الفلسفات الحديثة بوصفها كيانا واحدا متجانسا معاديا للدين، واختزل تاريخا طويلا ومعقدا من التفكير الإنساني، وبعيدا عن هذه الظنون، في صورة مؤامرة فكرية. لم ينظر إلى الفلسفة بوصفها مجالا تتصارع فيه أسئلة ومناهج واتجاهات، بل جبهة واحدة ذات نوايا مبيتة. وهذا الرفض لم يكن فلسفيا في جوهره، لأنه لم ينطلق من قراءة النصوص ولا من مساءلة الأفكار من داخلها، بل كان خطاب تحصين ودفاع، هدفه حماية الجماعة من السؤال، لا تمكينها منه.
ومع الزمن تبينت استحالة إقصاء الفلسفة من الجامعات والمجال الثقافي. فرض حضورها واقع التعليم، وفرضته تحولات العالم، فانتقل الخطاب من الرفض إلى محاولة الاحتواء. غير أن هذه المحاولة لم تنطلق من رغبة حقيقية في التفلسف، بل من شعور بالإكراه الثقافي. وجرى التعامل مع الفلسفة بوصفها مشكلة ينبغي التحكم بها، لا تجربة وجودية عظيمة ينبغي عيشها. وهنا بدأت عملية تحييد السؤال الفلسفي بدل الانفتاح عليه.
في هذا السياق تمثل صوت أنور الجندي نموذجا بارزا لهذا التحول. لم يعد مشروعه يكتفي بإدانة الفلسفة، بل سعى إلى إعادة تصنيفها وإخضاعها ضمن خطاب شامل عن الغزو الفكري والبدائل الإسلامية. في هذا الخطاب تعرض الفلسفة الغربية لا بوصفها تاريخا متشعبا من الأسئلة والاحتجاجات الداخلية، بل بوصفها كتلة واحدة ذات جوهر مادي هدام. والأخطر من ذلك تبني منطق البدائل الجاهزة، فلكل نظرية مقابل إسلامي، ولكل مفهوم وافد مفهوم أصيل يحل محله. هكذا جرى تحويل الفلسفة من تجربة تفكير إلى جدول مطابقة، ومن نشاط نقدي إلى مادة فرز.
بهذا المسار تحولت الفلسفة إلى ملف أيديولوجي، تقرأ عبره نوايا الغرب لا أسئلته الإنسانية المشتركة، ويدان قبل أن يفهم. لم تعد الفلسفة ممارسة حية تربك وتفتح أفقا جديدا، بل مادة اتهام أو توظيف. وغاب تماما أن الفلسفة ليست مجموعة نتائج، بل منهج تفكير، وليست منظومة جاهزة، بل حركة تساؤل دائمة تناوش العقل الجامد.
ومع هذا التحول ظهرت مشكلة أعمق، هي غياب التجربة الفلسفية الشخصية. فالخطاب الإسلامي المعاصر تحدث عن الفلسفة طويلا من موقع المراقب أو القاضي، لا من موقع الممارس. لم تعش عندنا الفلسفة بوصفها تجربة ذهنية تغير طريقة النظر إلى الذات والعالم، بل نوقشت كظاهرة ثقافية أجنبية. وهذا الفارق جوهري، لأن من رفض السؤال ولم يعشه لن يدرك خطورته ولا ضرورته.
ثم تطور خطاب الاحتواء إلى صيغة أكثر تعقيدا وأشد تأثيرا، لا ترفض الفلسفة صراحة، بل تدعي إعادة تأسيسها من الداخل. في هذه الصيغة تستعمل أدوات الفلسفة نفسها، المنطق واللغة والتحليل المفهومي، لكن ضمن شرط مسبق، وهو أن التفلسف لا يكون مشروعا إلا إذا التزم بإطار أخلاقي ديني قبلي. وبهذا انتقلنا من رفض الفلسفة إلى ترويضها، ومن تحريم السؤال إلى ضبط مساره سلفا.
هنا تلتقي مشاريع أعداء الفلسفة، رغم اختلاف الأسلوب. الأول واجهها من الخارج بلغة صدامية، والآخر احتواها من الداخل بلغة فلسفية أنيقة، لكن كليهما تعامل معها على أنها شيء يجب إخضاعه
المشكلة هنا ليست أخلاقية ولا دينية، بل فلسفية خالصة. فالفلسفة لا تؤدي وظيفتها داخل منظومة مغلقة النتائج، وحين يقاد السؤال لكي يصل إلى نتيجة محددة، يفقد معناه. وحين يصبح التفلسف مشروطا بالامتثال، يتحول إلى تبرير متقن لما تقرر من قبل. قد يبدو مسار الاحتواء أقل عدائية وأكثر عمقا لغويا، لكنه في الجوهر يعيد إنتاج الإغلاق نفسه بلغة أكثر تهذيبا.
وهنا تلتقي مشاريع أعداء الفلسفة، رغم اختلاف الأسلوب. الأول واجهها من الخارج بلغة صدامية، والآخر احتواها من الداخل بلغة فلسفية أنيقة، لكن كليهما تعامل معها على أنها شيء يجب إخضاعه لا أن يمارس بوصفه تجربة حرة. ويزداد الخلل عمقا مع مشكلة أخرى ملازمة لهذا المسار، وهي الثقة المطلقة بما هو قائم. في هذا الخطاب تصنع هالة تقديس للموروث، لا يعامل فيها بوصفه جملة اجتهادات تاريخية، بل بوصفه حقيقة مكتملة لا يطالها السؤال. هالة التقديس لم تكتف بالنص بل زادت عليه وأحاطت بتفسير المجتهدين. ومع هذه الهالة يغلق باب النقاش الحقيقي، لأن النقاش يفترض إمكانية المراجعة، بينما ينظر إلى الشك المنهجي بوصفه تهديدا لا أداة معرفة. وهكذا يتحول اليقين من نهاية رحلة التفكير إلى شرط سابق عليه.
ويرافق ذلك خلط شائع بين الفلسفة والفلاسفة. تكفير الغزالي لابن سينا والفارابي مد بساطه فشمل كل الفلاسفة. وهكذا ينقض التفكير الفلسفي كله بسبب آراء بعض الفلاسفة، وكأن الفلسفة ذات عقيدة واحدة. ويجري الخوف من نتائج السؤال قبل فهم السؤال نفسه، لأن ما يخيف في الفلسفة ليس منهجها، بل مآلات التفكير الحر حين يترك دون وصاية. وكما جرى تحييد الفلسفة عبر تحويلها إلى مادة تعليمية معقمة، صارت تدرس بوصفها تاريخ مصطلحات أو أسماء مدارس، لا بوصفها ممارسة حية تقلق الطالب وتطوره. وهكذا تحتوى الفلسفة داخل الصفوف، لكنها تمنع من التأثير في طريقة النظر إلى العالم.
في العمق، لا يتعلق الخوف من الفلسفة بما تقوله، بل بما تنتجه، أي فردا مفكرا مستقلا. فالفلسفة بطبيعتها تناقش المرجعية المعرفية، وتفتح باب الفردانية النقدية، وهذا ما يجعلها مقلقة في سياقات تفضل الانضباط على السؤال. لهذا كانت محاولة الاحتواء ضارة لأنها تناقض ما وجدت له الفلسفة تاريخيا. الفلسفة لا تؤسس عقائد جديدة، ولا تقدم بدائل لاهوتية تنافس الأديان، بل هي فن صناعة السؤال، وممارسة دائمة لاختبار اليقينيات وكشف حدودها. هي أفق للتفكير لا مخزن للأجوبة، ومساحة للمخاطرة لا جهاز ضبط. الفلسفة ليست خطابا يقدم ولا مضمونا يدار، بل تجربة تقوم على فتح الأسئلة لا إغلاقها. يمكن الالتفاف عليها بتأجيلها أو ترويضها أو عرضها في صورة تعليمية منزوعة القلق، لكن هذا لا ينتج تفلسفا حقيقيا. فحين يشترط على التفكير أن يطمئن سلفا إلى نتائجه، يتحول من بحث إلى تبرير. عندئذ تتلاشى روح الفلسفة، ولا يبقى إلا كلام منسق يؤدي وظيفة الطمأنة لا وظيفة الفهم.
وينبغي أن لا يفوت أن إقصاء الفلسفة أو احتواءها يضر بالدين نفسه، لأن إغلاق باب السؤال لا يحفظ الإيمان بل يجمده، فيبقى أهل كل نحلة بما لديهم فرحون بلا تحرير للقضايا ولا فهم. فالدين الذي يفصل عن التفكير النقدي يتحول من تجربة معنوية حية إلى منظومة دفاعية تحارب الشك بدل أن تستوعبه. ومع غياب المساءلة العقلية، تختزل القضايا الدينية الكبرى في إجابات جاهزة، ويتراجع البعد الوجودي العميق لصالح خطاب شعبي سطحي. وبهذا لا يحاصر السؤال الإلحادي فقط، بل يلغى السؤال الإيماني نفسه، وهو ما يفقد التدين حيويته وقدرته على مخاطبة إنسان العصر.
هذا الاحتواء لا يضر بالدين فقط، بل يضرب في الصميم قدرتنا على فهم عالمنا نفسه. فالعلم الحديث الذي بهر العالم بإنجازاته لم ينشأ في فراغ، بل كان استجابة تاريخية طويلة لتساؤلات صاغها الفلاسفة حول الطبيعة والمعرفة والسببية والزمان والمكان والعقل، عبر القرون المتتابعة، ولم يتوقف نقاشهم حولها قط. كل نظرية علمية جاءت نتيجة سؤال فلسفي، من النسبية إلى العوالم المتوازية.
ما فعله العلم أنه حول الأسئلة الفلسفية إلى مشروعات اختبار وتجريب. لم يلغ السؤال الفلسفي، بل افترضه دائما في الخلفية، لأن العلم نفسه ميتافيزيقي وما كان آينشتاين إلا ميتافيزيقياً كبيراً. من دون الفلسفة لن نفهم معنى العلم، بل سنكتفي باستعماله. ومن دونها تتحول المعرفة إلى تقنية، والتقنية تتحول إلى قوة بلا بصيرة. ولهذا فإن محاولة تحييد الفلسفة أو إخضاعها لا تحمي المجتمع من القلق، بل تجرده من أعظم أدواته في التفكير النقدي وفهم تحولات الحياة.
إنقاذ الفلسفة من الاختطاف والاحتواء ليس دفاعا عنها فحسب، بل دفاع عن العقل نفسه، وعن حقه في السؤال الحر، وعن قدرته على المشاركة في صنع المستقبل
الفلسفة ليست ترفا ثقافيا، ولا خصما للدين، ولا منافسا للعلم، بل هي المجال الذي يتعلم فيه العقل كيف يسأل قبل أن يطمئن، وكيف يراجع قبل أن يسلم، وكيف يفكر خارج منطق اليقين المغلق. ومتى أغلق هذا المجال، خسرنا القدرة على إنتاج معنى حي، وبقينا أسرى استجابات جاهزة لعالم لا يكف عن طرح أسئلة جديدة. لهذا فإن إنقاذ الفلسفة من الاختطاف والاحتواء ليس دفاعا عنها فحسب، بل دفاع عن العقل نفسه، وعن حقه في السؤال الحر، وعن قدرته على المشاركة في صنع المستقبل لا الاكتفاء بمراقبته بشك وخوف وبدائل مضطربة.