ليست المثالية الألمانية مذهبا فلسفيا واحدا، ولا مدرسة مغلقة يمكن اختزالها في مجموعة أطروحات محددة، بل هي مسار طويل تشكل في عمق التجربة الفكرية الألمانية، وعبّر عن محاولة متواصلة لفهم الوجود انطلاقا من المعنى لا من المادة، ومن الداخل لا من الخارج. ولهذا فإن النظر إليها بوصفها مرحلة تاريخية منتهية يظلم حقيقتها، كما أن استعادتها بوصفها نسقا جاهزا لم تعد ممكنة. إنها بالأحرى حركة فكرية بدأت حدسا صوفيا، ثم صارت مشروعا فلسفيا نقديا ونسقيا، قبل أن تتحول بعد هيغل إلى أفق خفي يرافق التفكير الحديث والمعاصر في المعنى والتاريخ والإنسان.
يمكن رد الجذر الأعمق للمثالية الألمانية إلى التصوف الألماني، وتحديدا إلى تجربتي مايستر إكهارت ويعقوب بوهمه، حيث وضعت البذرة الأولى لفكرة ستغدو لاحقا جوهر المثالية، وهي أن الحقيقة لا تعطى بوصفها موضوعا خارجيا، بل تنكشف في عمق الذات. عند إكهارت، لا يكون المطلق كائنا مقابل الإنسان، بل حاضر في باطن النفس، والذات لا تبلغ حقيقتها إلا بالتجرد من التعلق بالأشياء. هذا التصور يجعل المعنى سابقا على الموضوع، والباطن أسبق من الظاهر، ويمنح الروح مركزية تتجاوز الحس والعالم المادي.
أما بوهمه، فقد عمق هذا الجذر الصوفي للمثالية حين فهم الوجود بوصفه انكشافا داخليا للصراع والمعنى داخل المطلق نفسه، لا مجرد صدور ساكن. عند بوهمه، لا تفهم الحقيقة كمعطى جاهز، بل كحركة توتر وتجل، وهي فكرة ستجد صداها لاحقا في الجدل الهيغلي وفي تصور الواقع بوصفه صيرورة لا جوهرا ثابتا. ورغم أن هذا الفكر صوفي في لغته، فإنه يحمل نواة مثالية واضحة، ستعاد صياغتها لاحقا بلغة فلسفية عقلية.
وقامت مثالية لايبنتز على تصور يرى أن الواقع في جوهره ليس ماديا، بل عقلي معنوي. العالم عنده مؤلف من "مونادات" غير مادية، هي وحدات إدراك وقوة، لا تمتد في المكان ولا تتفاعل سببيا، بل يعكس كل منها الكون من منظوره الخاص. بهذا المعنى، لا يكون الوجود كتلة صماء، إنما نظام دلالي عقلاني محكوم بمبدأ السبب الكافي والانسجام المسبق. ومبدأ السبب الكافي عند لايبنتز يعني أن لا شيء يوجد أو يحدث بلا علة أو مبرر عقلي يفسر لماذا هو على هذا النحو لا على نحو آخر، وهو ما يجعل الوجود قابلا للفهم بوصفه نظاما عقلانيا لا محض تتابع اعتباطي للأحداث. غير أن هذه المثالية تظل ميتافيزيقية قبل - نقدية، لأنها تتحدث عن بنية العالم كما هو في ذاته، لا عن الشروط التي تجعل معرفته ممكنة.
لم يعد السؤال كيف نعيش الحقيقة، بل ما الشروط التي تجعل المعرفة ممكنة أصلا؟
مع كانط، يدخل هذا الحدس مرحلة جديدة وحاسمة، إذ لم يعد السؤال كيف نعيش الحقيقة، بل ما الشروط التي تجعل المعرفة ممكنة أصلا؟ في المثالية "الترانسندنتالية" الكانطية، لا يعود العقل متلقيا سلبيا للمعطيات الحسية، بل يصير فاعلا ينظم التجربة ويمنحها بنيتها. العالم المعروف ليس هو العالم في ذاته، بل العالم كما يظهر داخل أفق الذات العارفة. وهل يمكن شيء غير ذلك؟
ورغم أن كانط وضع حدودا للعقل حين ميز بين الظواهر والأشياء في ذاتها، فإنه في الوقت نفسه، وخلافا للماديين، جعل الذات مركز العملية المعرفية، وفتح بذلك الباب أمام الانتقال من مثالية تصف جوهر الواقع إلى مثالية تحلل دور الذات في تأسيس معناه، وهو الانتقال الذي سينجز لاحقا مع المثالية الألمانية بعد كانط.
هذا الباب هو ما عبره فلاسفة ما بعد كانط. فقد رأى فيخته وشلنغ وهيغل أن الحديث عن شيء في ذاته خارج كل وعي يدخل الفلسفة في تناقض لا يمكن حله. فإذا كان كل ما يعرف لا يعرف إلا داخل الوعي، فما معنى افتراض واقع مستقل لا يمكن بلوغه. من هنا انطلقت المثالية المطلقة، التي ترى أن الواقع نفسه ليس إلا تجليا للوعي أو للروح أو للفكرة.
عند فيخته، بلغت مركزية الذات أقصاها. الأنا لا تستقبل العالم، بل هي تضعه بوصفه مجالا لنشاطها. الواقع ليس معطى جاهزا، إنما نتاج فاعلية الذات. هذه الرؤية كشفت بوضوح أحد أعمدة المثالية الألمانية، وهو أن العقل ليس مرآة، بقدر ما أنه قوة منتجة، لكنها في الوقت نفسه عرضت الفكر الفلسفي لخطر اختزال العالم في نشاط الأنا.
أما شلنغ، فقد حاول تجاوز هذا التطرف بإعادة الاعتبار للطبيعة. الطبيعة عنده قوة خلاقة تعبر عن نفسها تلقائيا، لا مادة صامتة، والعقل ليس إلا طورا من أطوارها. المطلق لا يحاط به عبر مفهوم عقلي، لكنه يكشف بالحدس، ويتجلى في الفن بوصفه ذروة انكشاف الحقيقة. بهذا المعنى، أعاد شلنغ وصل المثالية بجذرها الصوفي، وفتح مسارا سيؤثر لاحقا في الرومانسية، وفي نيتشه، وفي هايدغر.
مع هيغل، بلغت المثالية الألمانية ذروتها النسقية. غدا المطلق عقلا تاريخيا يتطور عبر الجدل، ولم يعد المطلق حدسا أو إرادة طبيعية. الواقع لا يفهم بوصفه مجموعة أشياء ثابتة، إنما بوصفه حركة تناقضات تنتج تجاوزا دائما. التاريخ عنده مسار انكشاف العقل لذاته، والدولة والفن والدين والفلسفة كلها لحظات في هذا المسار. هنا تحقق الطموح النسقي الكامل، حيث اندمجت المعرفة والأخلاق والسياسة والتاريخ والدين في بناء واحد. غير أن هذه الذروة كانت في الوقت نفسه لحظة أزمة. فالنسق الذي يدعي تفسير كل شيء يهدد بابتلاع الفرد، وتهميش الجسد، وإقصاء كل تجربة حية لصالح الكلي. من هنا بدأت المثالية الألمانية، بعد هيغل، تفقد صورتها التأسيسية، لكنها لم تفقد تأثيرها.جاء نيتشه ليقلب هذا الإرث من الداخل حين رفض العقل الشمولي، وهاجم كل نسق يدعي الإحاطة بالوجود، لكنه لم يعد إلى مادية ساذجة. العالم عنده ليس حقيقة موضوعية صلبة، إنما صيرورة قوى وتأويلات لا تدعي امتلاك الحقائق. والمعنى لا يكتشف، بل ينتج. بهذا المعنى، ظل نيتشه وفيا لجذر مثالي عميق، هو أولوية المعنى على المادة، وإن جاء ذلك في صيغة نقدية حادة تقوض فكرة المطلق العقلي.
جاء نيتشه ليقلب هذا الإرث من الداخل حين رفض العقل الشمولي، وهاجم كل نسق يدعي الإحاطة بالوجود، لكنه لم يعد إلى مادية ساذجة
أما هايدغر، فقد أعاد فتح السؤال من مستوى أعمق. لم يعد السؤال عن العقل أو الذات، بل عن معنى الكينونة نفسها. ومع ذلك، فإن تفكيره يظل مشبعا بإرث المثالية الألمانية، خصوصا في ربط الفهم بالتاريخ، وفي رفض الفصل بين الذات والعالم. فالإنسان ليس ذاتا تقف إزاء موضوع، بل كائن منفتح على العالم، يعيش المعنى قبل أن يصوغه نظريا. والكينونة لا تعطى إلا داخل أفق تاريخي، وهذا الوعي بتاريخية الفهم هو أحد أثمن ما ورثه الفكر المعاصر من المثالية الألمانية.
بهذا المعنى، يمكن القول إن المثالية الألمانية لم تختف بعد هيغل، بل تغيرت وظيفتها. فقد انتقلت من مشروع يؤسس إلى مخزون مفاهيمي يعاد تشغيله كلما عاد سؤال المعنى، أو الحرية، أو التاريخ. الفلسفات اللاحقة، من الظاهراتية إلى التأويل، ومن نقد الحداثة إلى ما بعد الميتافيزيقا، لم تستطع تجاوز هذا الإرث، بل أعادت صياغته بطرق مختلفة.
هذا التحول يتضح بجلاء في الفكر الألماني في القرن الحادي والعشرين. فمثلا، عند يورغن هابرماس، نجد قطيعة معلنة مع الميتافيزيقا الهيغلية، لكن مع احتفاظ صريح بجوهر مثالي أساسي، وهو أن العقل ليس أداة تقنية، بل ممارسة تاريخية تواصلية. العقل عنده يتجسد في اللغة والحوار والسعي إلى التفاهم بدلا من أن يقيم في ذات منعزلة. هنا تتحول المثالية من عقل مطلق إلى عقل متجسد في العالم الاجتماعي، أي مثالية بلا مطلق، لكنها لا تزال وفية لفكرة أن المعنى لا يختزل في العلم التجريبي أو التقنية.
ويظهر هذا الإرث بصورة أوضح عند أكسل هونيث، وكتابه "الصراع من أجل الاعتراف" حيث تعاد صياغة الفكرة الهيغلية المركزية، أن الذات لا تتحقق إلا عبر الآخر. في "نظرية الاعتراف"، تتجاوز الحرية كونها حالة داخلية، إلى كونها مسارا اجتماعيا تاريخيا، ولا تعود الصراعات صراعات مصالح مادية فحسب، إنما تمتد لتغدو صراعات من أجل الكرامة والمعنى والاعتراف. هنا تعود المثالية الألمانية في صورتها المعاصرة، عقلا وتاريخا ومعنى، من دون نسق شامل ولا روح مطلقة.
حتى عند مفكرين ألمان معاصرين يعملون على الأخلاق والتقنية ونقد الحداثة، ممن يعلنون القطيعة مع المثالية، يظهر هذا الأثر الخفي حين يرفض اختزال الإنسان إلى بيانات أو وظائف، وحين يفهم العقل بوصفه قدرة على إعطاء معنى لا مجرد عملية حسابية.
كل تفكير يقول إن التقنية تهدد المعنى الإنساني، أو إن العلم لا يكفي لفهم الإنسان، يحمل في عمقه بقايا مثالية ألمانية
باختصار، كل تفكير يقول إن التقنية تهدد المعنى الإنساني، أو إن العلم لا يكفي لفهم الإنسان، يحمل في عمقه بقايا مثالية ألمانية.