داخل جماهيرية العقيد.. الزمن الليبي يسير ببطء

داخل جماهيرية العقيد.. الزمن الليبي يسير ببطء

[caption id="attachment_719" align="aligncenter" width="620" caption="داخل جماهيرية العقيد.. الزمن الليبي يسير ببطء "]داخل جماهيرية العقيد.. الزمن الليبي يسير ببطء [/caption]لم يكن الذهاب إلى ليبيا سهلا أبدا حتى قبل أن تنتشر أغلفة الرصاصات الفارغة والجثث في شوارع مدنها، ويمتلئ هواؤها بالثورة. ولكن قبل أشهر عدة فقط، كانت ليبيا تعد نموذجا لتجربة إعادة تشكيل المجتمعات العربية، قبل أن تصبح صومال شمال أفريقيا.

فربما يكون الغرب قد أعاد تقييم ليبيا جزئيا بعد إعلانها تخليها عن برنامجها النووي في 2003، ولكن حارسات قائد الثورة والخيمة المضادة للرصاص التي تبدو مقارنة بصالونات الدبلوماسية الأوروبية والأميركية أمرا غريبا، كان ذلك، وأكثر، يحرج شركاءه. إلا أن القذافي الذي كان يشتهر بمناهضته للغرب رفض أن يفهم الإشارة. فكان يقدم عرضا غريبا كلما استطاع ذلك، ومن أبرز تلك المواقف كان ظهوره في الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي ألقى خلاله بخطاب مطول استحوذ من خلاله على الانتباه على نحو فاق محمود أحمدي نجاد وباراك أوباما. ويذكر أن مترجم الأمم المتحدة سقط منهارا من الإرهاق.

وفي بداية ذلك العام، زرت بلد القذافي. وكان والداي – الأكاديميان - قد زاراها في الثمانينيات وعادا بقصص حول دولة قبلية حصينة تعاني من العقوبات تطل فيها مدن بدائية على مياه بحر متوسط زرقاء متلألئة تخرج من الصحراء. وحتى في ذلك الوقت كان الصحافيون غير مرحب بهم إلا إذا كانوا من المدافعين عن الإصلاح. ولكن بوابات تلك الجمهورية الشعبية كانت مفتوحة أمام جيش من المستشارين الذين يطبقون المعرفة الغربية في ثامن دولة على مستوى العالم من حيث احتياطي البترول.

ومن خلال دعوة وجهها إلي صديق دبلوماسي، سافرت إلى مطار طرابلس الدولي المزدحم. وكان المطار الضيق لدولة من العالم الثالث بدأت بالكاد التعافي من سنوات الحظر التجاري لا يستطيع احتواء طوابير العمال القادمين من جنوب شرقي آسيا الذين يتزاحمون لختم جوازات السفر.

كانت تلك هي العلامة الأولى على صحوة ليبيا القوية، ولكن بدلا من القصة المباشرة حول التنمية الاقتصادية، كانت هناك أدلة جديدة تثبت أن البناء النشط كان مجرد جزء من مشروع أكبر تديره النخبة الليبية من التكنوقراط ومن يدعمها في الغرب والتي تستهدف إعادة تحويل ليبيا إلى دولة إسلامية نموذجية. وفي ظل عدد السكان الذي يصل إلى 6 ملايين نسمة، كان هناك اعتقاد بأن ليبيا يجب أن تتطور على نحو أسهل من جارتها (مصر) ذات الـ85 مليون نسمة.

وقد بدت طرابلس 2009 - مركز الديناميكية الأفريقية التي تمتلك أكبر احتياطي للبترول في أفريقيا - مثل شبه الجزيرة العربية في السبعينيات. في دولة محا قائدها المناهض للاستعمار الترجمات اللاتينية من إشارات الطرق ومحا اللغات الغربية من المناهج التعليمية، كان الأثر الوحيد للغرب ما زال هو المعمار الزخم الذي يعود إلى عهد الفاشية وماكينات الكابوتشينو العتيقة والأشجار المزروعة لمقاومة التصحر والتي خلفها الإيطاليون المستعمرون.

وبعدما عقد الزعيم الليبي معمر القذافي سلاما مع الغرب، قام ابنه وعقله الإصلاحي، سيف الإسلام، باستدعاء عدد من الليبيين المهاجرين إلى طرابلس على أمل أن يساهموا في إصلاح ليبيا. وكان أحدهم هو محمود جبريل - الذي حصل على درجة الدكتوراه من جامعة بتسبرغ - الذي تفاقمت درجة إحباطه من عملية إصلاح النظام بتعيينه رئيسا للمجلس التنفيذي في المجلس الانتقالي الليبي المعارض في مارس (آذار). وأخيرا في فبراير (شباط) 2010، قاد «المجلس الوطني للتنمية الاقتصادية»، وهو مركز أبحاث تابع لـ«مونيتور غروب» الاستشارية التي يقع مقرها في كامبريدج والتي أسسها سيف الإسلام.

يقول ماندوليوس كنكيس المهاجر اليوناني الذي يعيش في مدينة بنغازي: «يعمل المستشارون الأميركيون والبريطانيون لكي يجعلوا من ذلك البلد نموذجا للمنطقة»، «ففي الوقت الذي أصبحت فيه مناهضة أميركا ظاهرة في العالم العربي، ينظرون إليها كبلد يمكن أن يهيمن عليها الغرب سياسيا مقابل بعض المكافآت البسيطة مثل البنية التحتية».

وكانت واحدة من المستشارين الأميركيين الذين التقيت بهم في طرابلس في 2009 تعمل مع وزارة الإسكان على مشروع تكلفته مليارات عدة من الدولارات يمثل المرحلة المقبلة في تحول ليبيا من دولة شبه بدوية إلى مجتمع متحضر. وكان والدها دبلوماسي أميركي نافذ ولكنها لم ترغب في الإفصاح عن اسمها. وعندما كانت في ليبيا كانت تعيش في مجمع سكني فاخر خارج طرابلس وكانت تتحرك مع النخبة الحكومية.

كانت رؤية جبريل تعتمد على تبني النموذج الغربي بالكامل في ما يتعلق بالحقوق المدنية، «النموذج الذي أراه هو جنوب أفريقيا» ذلك ما قاله في حوار بمجلة «التايم» في 2009 في إشارة إلى دستور ما بعد التمييز العنصري والذي تضمن حرية التعبير وحرية الملكية الخاصة والمساواة بين الجنسين. «يجب أن يكون هناك إطار قانوني لتوزيع السلطات والحق في حرية التعبير».

وكانت مهمة التحضر على الطراز الغربي جلية في 2009. فقد كانت الاستخبارات الأميركية تعمل مع رئيس الاستخبارات الليبية موسى كوسا لتطبيع العلاقات بين الدولتين وهو ما كان يمثل بداية موجة من التبادل الاقتصادي والدبلوماسي والثقافي.

وقد كلفت الحكومة الليبية مستشار ريغان السابق ومدرس الإدارة بهارفارد ميشال بورتر بوضع دليل للتنمية. وقد أصدر «ليبيا في فجر عصر جديد»، وهو تقرير صدر عام 2006 ويوصي بالسماح للقطاع الخاص بالحصول على قدر أكبر من الحصة التي تسيطر عليها الحكومة.

وكان نصير بورتر هو سيف الإسلام القذافي، ابن الزعيم الليبي والحاصل على تعليمه في كلية لندن للاقتصاد والذي كان ينظر إليه كخليفته. وقد كون سيف علاقة مع كبار الأساتذة بهارفارد وعمل مع هيئة استشارية في كامبريدج يطلق عليها «مونيتور غروب» وقد التقى ابنه الآخر المعتصم بهيلاري كلينتون في واشنطن في 2009 بعد أشهر عدة من لقاء أبيه بالجيل الثاني من صناع السياسة في جامعة «جورج تاون» من خلال اتصال عبر الأقمار الاصطناعية. فقد كتب المدير السابق لكلية لندن للاقتصاد أنتوني غيدنز في صحيفة «الغارديان» بعد رحلة لليبيا: «إذا كان القذافي جادا بشأن الإصلاح كما أعتقد فيمكن أن تصبح ليبيا نرويج شمال أفريقيا».

ولكن بعض أفراد النخبة الليبية كانوا ينظرون بتشكك للإصلاحات بل وللزعيم نفسه الذي كان يقال إنه عرقل العديد من المبادرات وأنه كان يحبط المدافعين عن الليبرالية ويدفعهم للتخلي عن مساعيهم.

«إن الهدف الأميركي ليس آيديولوجيا دينية وليس حركة طالبان أو تنظيم القاعدة فالأمر يتعلق أساسا بتغيير ثقافة الحضارات الأخرى»، ذلك ما قاله خليفة مهداوي رئيس القبيلة التي شاركت في الحفاظ على التراث الصحراوي لليبيا، والذي تبنى وجهة نظر متشائمة بشأن جهود تحويل ليبيا إلى دولة مرحبة بالاستثمارات وموالية للغرب، وقد ظل مهداوي وفيا للقذافي خلال الأزمة الحالية. «لقد نجحوا في آسيا مع الصين واليابان، اللتين حولوهما إلى نظامهم الاقتصادي ولكن ذلك النظام ينهار إذا ما أصبح في اتصال مباشر مع الناس البسطاء في أفغانستان وليبيا الذين يعيشون وفقا لمبادئ تنتمي لقرون مضت».

وبرر مهداوي ذلك بقوله إنه إذا ما كانت السياسات كافة تعتمد على الثقافة في الأساس فإن الوسيلة الوحيدة للحد من الغزوات الغربية يكون عبر تأييد ثقافة ليبيا الوطنية والاحتفاء بها. كما كان ينظر بقلق للدول الخليجية والتي يرى أنها فقدت التواصل مع جذورها البدوية في طريقها للتنمية وكان يخشى أن تلقى ليبيا المصير ذاته.

وقد ظهر الرفض الشعبي للانفتاح الثقافي نحو الغرب في رد الفعل العنيف للجماهير في بنغازي تجاه ما عرف بـ«أول حفل روك» الذي كان يؤديه المغني البريطاني بوب غيلدوف. وكان الهدف من الحفل الذي نظمه سيف الإسلام الإصلاحي هو تعريف الليبيين بالانفتاح الثقافي. ولكن في الوقت الذي انشغل فيه المسؤولون عن الحفل بإلقاء الخطب، هاجت الجماهير وطاردت سيف وغيلدوف وقذفوهما بالحجارة.

«لقد كانت تجربة اجتماعية لجلب الثقافة الغربية لليبيا» ذلك ما أخبرني به رجل الأعمال ابن النخبة الليبية في طرابلس. «وقد أخفقت التجربة على نحو مذهل».

في 2007، تكرر الغضب من الغرب مرة أخرى عندما هاجت الجماهير الغاضبة داخل بنغازي خلال ذروة الجدل حول الرسوم الدنماركية وأحرقوا القنصلية الإيطالية. وحتى بعد التأييد الغربي الواضح لقيادة المعارضة، سرعان ما انقلب السكان المحليون على الصحافيين الأجانب.

لقد أصبحت مهمة التحديث الغربية تاريخا الآن بعدما مزقت الثورة والقمع البلاد، واستخدام الأسلحة التي وفرها الغرب لقمع الانتفاضة. كما أخفقت مقاطع الفيديو الساخنة على «يوتيوب» والتعليقات الخالية من السياق التي تأتي من شبكات الأخبار الدولية في تحقيق العدالة للبلد الذي عرفها. وبعد ذلك بعامين، كانت كلمات أحد العمال ما زالت تتردد في ذهني: «ليست الحضارة أبنية معدنية وسيارات حديثة الطراز، فتلك مجرد حداثة»، ذلك ما قاله عندما كنا نمر أمام ملصق ثوري باهت مكتوب عليه: «الديمقراطية ليست هي حرية التعبير ولكنها حكم الشعب للشعب». «فالحضارة هي ما لديك في عقلك».

إياسون أثاناسياديس
font change