جهاز يراقب العطش... وينقذ الحياة

تكنولوجيا قابلة للارتداء

Matija Jankovic, UT Austin
Matija Jankovic, UT Austin
مستشعر معاوقة حيوية لاسلكي يلبس على الذراع ويستخدم للتقييم المتنقل والمستمر لترطيب الجسم بالكامل أثناء الأنشطة اليومية

جهاز يراقب العطش... وينقذ الحياة

في زمن تتداخل فيه حدود الجسد مع حدود التقنية، لم تعد أجسادنا تكتفي بالشعور، بل باتت تخبرنا بشكل فعلي عن احتياجاتها. ولم نعد ننتظر العطش لنشرب، ولا التعب لنعرف أننا استنزفنا، فقد صرنا نعيش في عصر يمكن فيه الجسم أن يرسل إشاراته على شكل بيانات.

هل شربت كمية كافية من الماء اليوم؟ قد تظن أن جسدك سيخبرك بالعطش حين يحتاج، لكن الحقيقة أكثر تعقيدا. الجفاف لا يصرخ دائما، بل يهمس بخفوت في أعماق العضلات والأنسجة، ونحن – في زحام الحياة – نادرا ما نصغي. اليوم، قد لا تكون الإجابة في شعورك، بل على ذراعك.

بفضل مستشعر حيوي مبتكر يُرتدى كسوار، بات في الإمكان تتبع حالة ترطيب الجسم لحظة بلحظة، من خلال قياسات كهربائية دقيقة تمر عبر الذراع وتترجم ما لا يُقال إلى بيانات. هذه التقنية، التي أثبتت دقة تضاهي أجهزة المستشفيات الضخمة، ليست مجرد أداة طبية، بل ثورة هادئة في طريقة فهمنا لأجسادنا.

حجر الأساس

لطالما كان الترطيب حجر الأساس في صحة الإنسان. فالماء يشكل ما بين 45% إلى 70% من كتلة الجسم، ويؤدي أدوارا لا حصر لها، من نقل الأكسجين والمواد المغذية، إلى تنظيم درجة الحرارة، وحتى التخلص من الفضلات.

يُعرَّف الجفاف بأنه نقص في إجمالي ماء الجسم وهو حالة شائعة ولكن غالبا ما يتم التغاضي عنها. يمكن أن ينشأ الجفاف من عدم كفاية تناول السوائل، أو التعرق المفرط، أو القيء، أو الإسهال.

ويمكن أن تتصاعد الأعراض الأولية، مثل الصداع وجفاف الفم، إلى حالات أكثر خطورة إذا تركت دون علاج. ويتم قياس شدة الجفاف بنسبة التغير في وزن الجسم الكلي الناتج من فقدان الماء. على سبيل المثل، يمكن أن تنشأ أعراض مهددة للحياة، مثل تغير نشاط الجهاز التنفسي أو حالات قلبية وعائية مختلفة، مثل انخفاض ضغط الدم، ارتفاع معدل ضربات القلب، مع فقدان 1% إلى 2% من وزن الجسم، وتصبح واضحة مع فقدان 3% إلى 5%. وقد لوحظ ضعف إدراكي كبير يبدأ عند انخفاض 2% في وزن الجسم بسبب فقدان الماء.

الأجهزة التقليدية توفر دقة عالية ونتائج مفيدة، إلا أنها لا تخلو من العقبات، فهي تحتاج إلى طاقم طبي مؤهل لسحب العينات، ومختبر مجهز لتحليلها، وزمن انتظار قد يمتد من دقائق إلى ساعات

فالجفاف – رغم بساطته الظاهرية – يمكن أن يكون مميتا، ورغم إدراكنا لخطورته، لا يزال تقييم حالة الجسم المائية يتم بأساليب تقليدية، بطيئة، وفي أحيان كثيرة... غير عملية.

هنا يأتي دور التكنولوجيا، وتحديدا الأجهزة القابلة للارتداء التي بدأت تغير شكل العلاقة بين الإنسان وجسده. أحدث هذه الابتكارات، هو جهاز استشعار بيولوجي يُرتدى على الذراع، يقيس "الممانعة الحيوية" للجسم في الزمن الحقيقي، ويراقب حالة الترطيب العامة بشكل غير جراحي، وبلا حاجة إلى مختبر أو أجهزة معقدة.

تعتمد الفكرة على أن مقاومة الأنسجة الكهربائية – لا سيما في العضلات – ترتبط ارتباطا وثيقا بكمية الماء الموجودة فيها. وقد أظهرت دراسة حديثة قادها باحثون من جامعة تكساس وجونز هوبكنز أن القياسات التي تُجرى عبر الذراع ترتبط بشكل وثيق جدا بقياسات الجسم الكامل، مع معامل ارتباط وصل إلى 0.956، وهي نسبة تعكس دقة عالية للغاية.

أساليب تقليدية

شهدت العلاقة بين الإنسان وجسده تحولا جوهريا على مر العصور. من الإنسان القديم الذي كان يقرأ إشارات جسده ببديهته، إلى الإنسان الحديث الذي بات يعتمد على التكنولوجيا ليفسر ما يحدث في داخله. لكن في خضم هذا التطور، بقيت بعض الإشارات الجسدية عصية على الإدراك الدقيق، وفي مقدمها: الجفاف.

لطالما كان تقييم الترطيب الكلي للجسم أمرا حيويا لإدارة الصحة وتشخيص الأمراض، إلا أن الطرق التقليدية كانت غالبا ما تتسم بالتدخلية أو تتطلب معدات ضخمة، مما يجعلها غير عملية للمراقبة المستمرة والمتنقلة.

من أكثر الطرق التقليدية شيوعا لتقييم الجفاف، مقارنة لون البول ببطاقات لونية. هذه الطريقة لا تكلف شيئا، لكنها غير موثوق بها. إذ يمكن أن يتغير لون البول بسبب تناول الفيتامينات، أو أنواع معينة من الأدوية، أو حتى أطعمة مثل البنجر والهليون. والأسوأ من ذلك، أنها لا تعكس بالضرورة ما يجري داخل الأنسجة العميقة أو العضلات، حيث يبدأ الجفاف الفعلي.

فيما تعتمد القياسات المختبرية لتقييم حالة الترطيب على تحليل دقيق لمكونات الدم أو البول، وتُعدّ مرجعا طبيا يعوّل عليه في التشخيص السريري، خصوصا في حالات الجفاف الشديد أو الاضطرابات الكلوية.

يعتمد تصميم الأجهزة القابلة للارتداء لقياس ترطيب الجسم على عوامل حيوية تضمن الدقة والراحة والاستمرارية، ويأتي في مقدمتها نوع الأقطاب المستخدمة.

وتستخدم أجهزة مثل مقياس الأوسمولالية (Osmometer) لقياس تركيز الجزيئات الذائبة في البول أو البلازما، مما يكشف عن توازن السوائل والأملاح في الجسم. كذلك تُستخدم محللات كيمياء الدم لقياس نسب الصوديوم، والبوتاسيوم، والكرياتينين، وهي مؤشرات أساسية الى كفاءة الترطيب ووظيفة الكلى.

ورغم أن هذه الأجهزة التقليدية توفر دقة عالية ونتائج مفيدة، إلا أنها لا تخلو من العقبات. فهي تحتاج إلى طاقم طبي مؤهل لسحب العينات، ومختبر مجهز لتحليلها، وزمن انتظار قد يمتد من دقائق إلى ساعات، كما أنها تقدم قراءة لحظية لا يمكن البناء عليها لمراقبة مستمرة.

تشوش النتائج

لذا، تفشل الوسائل التقليدية لقياس الترطيب في جوانب حرجة تجعلها غير كافية لمواكبة احتياجات الإنسان المعاصر، خصوصا في البيئات التي تتطلب مراقبة دقيقة وفورية.

إذ لا تمتلك هذه الوسائل القدرة على التقاط الجفاف في مراحله المبكرة، فهي تعتمد على مؤشرات خارجية مثل لون البول أو الشعور بالعطش، وهي أعراض لا تظهر إلا بعد أن يكون الجسم قد خسر فعليا نسبة ملموسة من الماء، مما يعني أن الضرر قد بدأ بالفعل، كما تفتقر هذه الأدوات إلى الاستمرارية، فهي لا تسمح بالمراقبة اللحظية أو الطويلة المدى لحالة الترطيب، ولا يمكن استخدامها في أثناء النشاط البدني المكثف، أو في البيئات المتحركة مثل مواقع البناء، أو أثناء التمارين الرياضية، أو حتى داخل مركبات الفضاء، حيث تكون ديناميكية الجسم وسرعة الاستجابة مطلبا أساسيا.

وقد تتأثر هذه الوسائل بعدد من العوامل الخارجية التي قد تشوش على النتائج، مثل النظام الغذائي، الذي قد يغيّر لون البول مثلًا، أو الأدوية التي ترفع أو تخفض نسبة السوائل، أو حتى توقيت القياس نفسه، إذ تختلف مؤشرات الجسم بين الصباح والمساء. هذا التداخل يجعل من الصعب الاعتماد على هذه الطرق كمرجع ثابت، ويفتح المجال لحلول أكثر تطورا تعتمد على البيانات الحيوية المستمرة والدقيقة.

والآن، ظهر مفهوم جديد لأجهزة قياس الترطيب الحديثة القائمة على التكنولوجيا الحيوية، تستخدم مبدأ الممانعة الحيوية الكهربائية، وهي تقنية غير جراحية تستند إلى كيفية تفاعل التيار الكهربائي مع أنسجة الجسم المختلفة.

GettyImages
جهاز مراقبة غلوكوز مستمر مقاوم للماء

في جوهرها، تقوم هذه الأجهزة بتمرير تيار كهربائي منخفض الشدة وعالي التردد عبر الجسم – أو في حالة الأجهزة القابلة للارتداء، عبر منطقة محددة مثل الذراع – ثم تقيس مدى مقاومة هذا التيار للمرور، وهي الممانعة الكهربائية الناتجة من التكوين الداخلي للأنسجة.

وتعني الممانعة الحيوية ببساطة قياس مدى مقاومة أنسجة الجسم لمرور تيار كهربائي متردد من خلال تحليل مركبين رئيسين، المقاومة الكهربائية والممانعة السعوية.

فالمقاومة ترتبط بشكل مباشر بنسبة الماء والمعادن داخل الجسم، إذ إن الماء يُعدّ موصلا جيدا للتيار، لذلك فإن الأنسجة الغنية بالماء، مثل العضلات، تُظهر مقاومة منخفضة نسبيا، بينما الأنسجة الجافة أو الدهنية، التي تحتوي على كمية أقل من الماء، تُظهر مقاومة أعلى.

وترتبط الممانعة السعوية بوجود أغشية الخلايا التي تتصرف كمكثفات طبيعية. فعند ترددات منخفضة، لا يتمكن التيار من اختراق هذه الأغشية بسهولة، مما يؤدي إلى ارتفاع الممانعة السعوية، أما عند الترددات العالية، فتقل قدرة الأغشية على عرقلة التيار، فيتمكن من اختراق الخلايا والوصول إلى السوائل الموجودة داخلها.

التيار الكهربائي

ويسمح هذا السلوك للأجهزة المتقدمة بتقييم محتوى الماء في الجسم بدقة، من خلال قياس الممانعة الحيوية باستخدام أقطاب كهربائية توضع على الجلد، ومن ثم تحليل كيفية تغيّر المقاومة والممانعة السعوية عبر ترددات متعددة. وبهذا يمكن استخلاص معلومات دقيقة عن حالة الترطيب، مما يجعل هذه التقنية مثالية لمراقبة التغيرات في الماء الكلي داخل الجسم، خصوصا في العضلات التي تشكل الخزان الأكبر للماء في الجسم البشري.

يعكس التيار الكهربائي حالة السوائل داخل الجسم لأنه يعتمد في مروره على وجود وسط ناقل يحتوي على شوارد كهربائية، مثل الصوديوم والبوتاسيوم والكلوريد، الموجودة بكثافة في ماء الجسم، وهو المكوّن الأكثر وفرة في الأنسجة الحية.

كشفت الدراسات والتجارب العملية عن نتائج واعدة للغاية في استخدام الأجهزة القابلة للارتداء لقياس ترطيب الجسم، خاصة في حالات الجفاف الناتجة من تناول المدرات البولية.

ويتموضع هذا الماء في مكانين رئيسين، أولهما ما يُعرف بـالسائل خارج الخلايا ويشمل بلازما الدم والسوائل المحيطة بالخلايا، وثانيهما السائل داخل الخلايا الذي يمثّل الماء الموجود داخل الخلايا نفسها، لا سيما في العضلات.

عند تمرير تيار كهربائي متردد عبر الجسم، فإن الطريقة التي يتفاعل بها التيار مع هذه المقصورات تعتمد بشكل أساس على تردد التيار المستخدم. فعند الترددات المنخفضة (5 إلى 50 كيلوهرتز)، تعيق أغشية الخلايا مرور التيار، فيسلك طريقه فقط عبر السائل خارج الخلايا مما يوفر مؤشرا جزئيا لحالة الترطيب.

أما عند الترددات العالية (فوق 100 كيلوهرتز)، فتقل قدرة الأغشية على منع التيار، الذي يخترقها فيمر عبر كل من ECF وICF، مما يسمح بقياس أكثر شمولا لمحتوى الماء الكلي داخل الجسم.

وهنا تأتي أهمية ما يُعرف بـالتحليل الطيفي للممانعة الحيوية الذي يستفيد من مجموعة واسعة من الترددات لاستخلاص معلومات دقيقة عن نسبة السوائل داخل الجسم وتوزيعها، وهو ما يتيح تحديد حالات الجفاف المبكر، ومراقبة التغيرات الفيسيولوجية بشكل لحظي، وبدرجة دقة كانت في السابق حكرا على الأجهزة الطبية الكبيرة والمعقدة.

أقطاب جافة

يعتمد تصميم الأجهزة القابلة للارتداء لقياس ترطيب الجسم على عوامل حيوية تضمن الدقة والراحة والاستمرارية، ويأتي في مقدمتها نوع الأقطاب المستخدمة.

فبينما تعتمد الأجهزة الطبية التقليدية على أقطاب رطبة، مثل أقطاب كلوريد الفضة، التي توفّر تلامسا كهربائيا ممتازا مع الجلد، إلا أنها تعاني من مشاكل جوهرية، أهمها الجفاف التدريجي للمادة الهلامية، مما يؤدي إلى تدهور الإشارة بمرور الوقت، خصوصا عند الاستخدام الطويل أو في ظروف التعرق والحركة.

في المقابل، ظهرت في الأجهزة القابلة للارتداء أجيال جديدة من الأقطاب الجافة، المصنوعة غالبا من مواد مرنة وموصلة، مثل الغرافيت وبولي يوريثان أو شبكات النانو المعدنية، وتُثبّت على الجلد باستخدام لواصق طبية دون الحاجة إلى مواد هلامية، مما يجعلها أكثر ملاءمة للارتداء الطويل والمستمر دون فقدان الجودة أو التسبب في تهيّج البشرة.

أظهرت الأجهزة قدرتها على تحمل الحركات الطبيعية للذراع، مثل ثني العضلة أو شدها، دون أن تؤثر هذه الانقباضات على جودة الإشارة الكهربائية

لكن نوع القطب ليس العامل الوحيد، إذ يلعب موضع الأقطاب على الذراع دورا محوريا في دقة القياس. فالأقطاب توضع غالبا في نمط رباعي بترتيب يتيح مرور التيار من قطبين خارجيين وقياس فرق الجهد من قطبين داخليين.

وعند توزيع هذه الأقطاب بشكل "عرضي" بين جانبي الذراع – ما يُعرف بـالوضع الإرسالي-   يتم إجبار التيار على اختراق الكتلة العضلية بكاملها، مما يسمح بقياس أكثر تمثيلا لكمية الماء داخل الأنسجة. على العكس، فإن الوضعيات "المنعكسة" التي توضع فيها الأقطاب على جهة واحدة من الذراع فقط، تعطي إشارات أضعف وتعاني من تباين أكبر، بسبب محدودية عمق الاختراق الكهربائي.

التصميم الذكي

وقد أثبتت المحاكاة الحاسوبية والتجارب البشرية أن تقليص المسافة بين أقطاب الحقن وقياس الجهد إلى حدود 2 سم في الوضع الإرسالي، يزيد حساسية الجهاز تجاه تغيرات الترطيب في العضلات، مع تقليل فقد الإشارة.

ومن هنا تظهر أهمية التصميم الذكي لهذه الأجهزة القابلة للارتداء، ليس فقط في اختيار المواد المناسبة، بل في تموضع الأقطاب، وتكوينها، ومدى قابليتها للتكيّف مع الحركة والتمدد، خصوصا في مناطق مثل الذراع التي تخضع لانقباضات متكررة.

كشفت الدراسات والتجارب العملية عن نتائج واعدة للغاية في استخدام الأجهزة القابلة للارتداء لقياس ترطيب الجسم، خاصة في حالات الجفاف الناتجة من تناول المدرات البولية.

ففي تجربة مخبرية دقيقة، طُلب من مجموعة من المشاركين الأصحاء تناول دواء مدرّ للبول من نوع فوروسيميد، وهو دواء معروف بقدرته على إخراج كميات كبيرة من الماء والأملاح من الجسم من طريق البول.

رغم التقدم الكبير، لا تزال هناك تحديات تقنية وعلمية تواجه أجهزة قياس الترطيب القابلة للارتداء، أولها ضمان دقة القياس على المدى الطويل

بعد ذلك، تم استخدام جهاز استشعار حيوي يُرتدى على الذراع لمتابعة التغيرات في الممانعة الكهربائية للجسم لحظة بلحظة. وقد أظهرت النتائج أن هناك علاقة قوية للغاية بين فقدان السوائل وارتفاع المقاومة الكهربائية المقاسة، حيث وصل معامل الارتباط إلى 0.956، وهو رقم مرتفع جدا يدل على دقة العلاقة بين الجفاف وزيادة الممانعة الحيوية.

هذا يعني أنه كلما فقد الجسم الماء بسبب المدرات، زادت مقاومة الأنسجة للتيار الكهربائي، وهو ما تم التقاطه بدقة كبيرة من خلال الجهاز. والأهم من ذلك أن هذا الجهاز استمر في تقديم قراءات مستقرة حتى أثناء قيام المشاركين بنشاطات يومية عادية مثل استخدام الهاتف أو القراءة، دون الحاجة للجلوس ساكنين أو البقاء في ظروف معملية صارمة.

كما أظهرت الأجهزة قدرتها على تحمّل الحركات الطبيعية للذراع، مثل ثني العضلة أو شدّها، دون أن تؤثر هذه الانقباضات على جودة الإشارة الكهربائية. وقد عاد القياس إلى مستواه الطبيعي بسرعة بعد كل تمرين عضلي، مما يرسخ ثبات وموثوقية الجهاز في الظروف الواقعية.

متابعة لحظية

وتؤكد هذه النتائج أن التكنولوجيا الحديثة لا توفر فقط أدوات لقياس الترطيب بدقة، بل أيضا تتيح متابعة لحظية ومستدامة دون انقطاع، وهو ما كان مستحيلا في السابق باستخدام الأجهزة التقليدية أو التحاليل المعملية التي تُجرى في فترات متباعدة. إن هذه القدرة على الكشف المبكر عن الجفاف، حتى قبل ظهور الأعراض، تمثل تحولا جذريا في كيفية فهمنا وإدارتنا لصحة الجسم في البيئات الرياضية، والطبية، والمهنية القاسية.

تُعتبر هذه التقنية واعدة للغاية لأنها تقدم مراقبة في الوقت الفعلي لمستويات الترطيب، وهي ميزة حاسمة للرياضيين الذين يتعرضون لفقدان كبير للسوائل، أو للأشخاص الذين يعملون في بيئات قاسية، أو حتى للأفراد الذين يسعون لتحسين صحتهم العامة. على عكس الطرق التقليدية التي تقدم قراءات متقطعة، تتيح الأجهزة القابلة للارتداء تتبع التغيرات في الترطيب على مدار اليوم، مما يساعد في اتخاذ قرارات سريعة في شأن إعادة الترطيب.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الطبيعة غير الجراحية لهذه الأجهزة تُقلل الإزعاج وتزيد التزام المستخدم. ورغم التحديات التي قد تواجهها هذه الأجهزة مثل دقة القياسات في ظل الحركة أو اختلاف درجة حرارة الجلد، إلا أن التطورات المستمرة في تصميم الأقطاب الكهربائية، مثل الأقطاب الجافة والملائمة للجلد، والتصميمات المحسنة للمستشعرات، تعزز دقتها وموثوقيتها، مما يجعلها مستقبل مراقبة الترطيب الشخصية والمهنية.

تفتح أجهزة قياس الترطيب القابلة للارتداء آفاقا واسعة لتطبيقات عملية تمس شريحة كبيرة من البشر في أنماط حياتهم اليومية والمهنية، لا سيما في السياقات التي يتعرض فيها الجسم لخطر الجفاف دون إنذار مبكر.

في الرياضة الاحترافية، يمكن هذه الأجهزة أن تتحول إلى أداة لا غنى عنها للمدربين والأطباء الرياضيين، حيث تتيح متابعة مستويات ترطيب اللاعبين أثناء التمارين أو المباريات، وتقديم تنبيهات فورية عند انخفاض الترطيب، مما يمنع تراجع الأداء أو التعرض للإصابات الناتجة من فقدان السوائل.

يبدو أننا في بداية ثورة في فهم الجسد، يصبح فيها الجلد ذاته منصة ذكية للحياة اليومية، لا تنقل الإحساس فحسب، بل تقرأ وتفسر وتحذر وحتى قد تنقذ الحياة


وفي البيئات العسكرية، وبخاصة أثناء التدريبات أو العمليات في الصحاري أو المناطق الاستوائية، تصبح مراقبة الترطيب أمرا حيويا، إذ إن الجفاف الحاد يمكن أن يُضعف التركيز والقدرات البدنية في لحظات حرجة. أما في الصناعات الشاقة مثل البناء، والتعدين، والوظائف التي تتطلب ارتداء ملابس واقية في بيئات مغلقة أو حارة، فإن هذه التقنية تتيح رصدا دائما للحالة الفيسيولوجية للعمال، مما يحسن ظروف العمل ويقلل الإصابات المرتبطة بالإجهاد الحراري.

Getty Images
رجل يشرب الماء بعد أن لاحظ إشعار تذكير على ساعته الذكية

ولا يقتصر الأمر على البيئات القاسية فحسب، بل يمتد إلى الاستخدام المنزلي والطبي اليومي. فالأشخاص المعرضون لخطر الجفاف المزمن مثل كبار السن، ومرضى الكلى، أو من يتناولون مدرات البول، يمكنهم الاستفادة من هذه الأجهزة لمراقبة مستويات الترطيب باستمرار دون الحاجة لزيارة المستشفى أو إجراء تحاليل دم وبول متكررة. في المناطق الحارة أو المنخفضة الرطوبة، حيث يزيد فقدان الماء من خلال التعرق أو التنفس، يمكن أن يكون الجهاز بمثابة إنذار مبكر يحفز المستخدم على الشرب قبل ظهور الأعراض. بل ويمكن تخيّل استخدام هذه الأجهزة مستقبلا على متن رحلات الفضاء أو في المهام القطبية الطويلة، حيث تصبح مراقبة توازن السوائل ضرورة حياتية، وليست ترفا طبيا.

تحديات تقنية

رغم التقدم الكبير، لا تزال هناك تحديات تقنية وعلمية تواجه أجهزة قياس الترطيب القابلة للارتداء، أولها ضمان دقة القياس على المدى الطويل، خاصة في ظل تغيرات الجلد، والعرق، والحركة المستمرة، والاختلافات الفردية بين المستخدمين. فالاتصال بين الجلد والقطب، وتغير موقعه مع الحركة، قد يؤثران على جودة الإشارة، ويستدعي ذلك تطوير مواد أكثر ذكاء في التصميم، مثل الأقطاب القابلة للتكيف مع الجلد، أو أنظمة تصحيح أوتوماتيكي للقراءة.

كما أن هناك حاجة ماسة لواجهات استخدام ذكية تربط بين هذه الأجهزة والتطبيقات المحمولة. فلكي يكون الجهاز مفيدا حقا، يجب أن يترجم أرقامه المعقدة إلى إشارات بسيطة، على صورة إشعارات، أو رسومات، أو توصيات شرب، أو تنبيهات، مما يتطلب عملا دقيقا في تصميم تطبيقات مرئية ومفهومة، مدعومة بمنصات برمجية تستطيع تحليل البيانات الحيوية في الزمن الحقيقي.

يحمل المستقبل وعودا مذهلة مع دخول الذكاء الاصطناعي إلى الحلبة. فمن خلال دمج هذه الأجهزة مع سجلات الصحة الشخصية للمستخدم – مثل العمر، والوزن، والتاريخ الطبي، والأدوية، ونشاطه اليومي – يمكن الأنظمة الذكية أن تقدم توصيات مخصصة بدقة، بل تتنبأ بحالات الجفاف قبل أن تحدث.

وقد نصل إلى نقطة يستطيع فيها الجهاز التفاعل مع البيئة عبر إرسال تنبيه إلى المدرب، أو الطبيب، أو حتى تشغيل نظام تكييف تلقائيا. والآن، يبدو أننا في بداية ثورة في فهم الجسد، يصبح فيها الجلد ذاته منصة ذكية للحياة اليومية، لا تنقل الإحساس فحسب، بل تقرأ وتفسر وتحذر وحتى قد تنقذ الحياة.

font change