اعتراف روسيا بحكومة "طالبان" خطوة رمزية بذرائع استراتيجية

تحول لافت في توجهات السياسة الخارجية الروسية

رويترز
رويترز
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل حفل تنصيبه في الكرملين، موسكو في 7 مايو 2024

اعتراف روسيا بحكومة "طالبان" خطوة رمزية بذرائع استراتيجية

أعلنت روسيا، في الثالث من يوليو/تموز 2025، اعترافها الرسمي بحكومة طالبان في أفغانستان، لتُصبح أول دولة تُقدم على هذه الخطوة، منذ عودة الحركة إلى السلطة عام 2021.

ورغم أن الاعتراف جاء تتويجا لعلاقات روسيا مع طالبان منذ 2017، فإنه يمثل تحوّلا لافتا في توجهات السياسة الخارجية الروسية، إذ جاء في ظل تصاعد المواجهة مع الغرب، وتنامي القلق الروسي، حيال الأوضاع الأمنية في منطقة آسيا الوسطى، ولا سيما في الدول المحاذية لأفغانستان، التي طالما اعتبرتها موسكو خاصرة رخوة في منظومة أمنها الإقليمي.

خلفيات القرار وتوقيته

جاء الاعتراف الروسي بحكومة طالبان في لحظة إقليمية حساسة، تتقاطع فيها اعتبارات أمنية وجيوسياسية، مع تحولات كبرى في السياسة الدولية. وبدا أن موسكو تريد التأكيد على دورها كدولة عظمى، تتخذ قراراتها من دون الالتفات إلى مواقف باقي دول العالم. وفي جوهر القرار، تسعى موسكو إلى تعزيز حضورها في المجال الحيوي الجنوبي، تحديدا في آسيا الوسطى، حيث يزداد القلق الروسي، من محاولات تمدد النفوذ الغربي في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، وزيادة حضور الصين وتركيا.

وعلى وقع التوترات المتصاعدة مع الغرب، منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، باتت روسيا أكثر انفتاحا على عقد شراكات غير تقليدية من أجل كبح أي اختراق غربي محتمل لهذا الفضاء، وتحصين حدودها، والمحافظة على وجودها بأي ثمن.

يمكن القول إن الاعتراف بحكومة طالبان لا يمكن النظر إليه بوصفه مجرد خطوة تكتيكية عابرة، بل كجزء من رؤية أوسع لإعادة التموضع في قلب آسيا، عبر أدوات أكثر مرونة وواقعية

ضمن هذا التصور، يمكن القول إن الاعتراف بحكومة طالبان، لا يمكن النظر إليه بوصفه مجرد خطوة تكتيكية عابرة، بل كجزء من رؤية أوسع لإعادة التموضع في قلب آسيا، عبر أدوات أكثر مرونة وواقعية، وقد سبق هذا القرار تحرّكات محسوبة واتصالات مباشرة مع قيادة حركة طالبان، تُوِّجت في مايو/أيار الماضي بإعلان الخارجية الروسية، رفع طالبان من قائمة المنظمات الإرهابية، في خطوة تعبّر عن تغيير منهجي في مقاربة موسكو في العلاقة معها. جنبا إلى جنب مع تزايد المؤشرات على استعداد حكومة طالبان، لفتح قنوات تعاون مع دول الجوار والقوى الإقليمية، ويُمثّل هذا الانفتاح فرصة لموسكو لإعادة صياغة دورها في المنطقة، من بوابة الاعتراف بحكم الأمر الواقع، وبما يتيح لها تثبيت نفوذها، قبل أن تستثمر القوى الغربية الوضع القائم لتعزيز حضورها في أفغانستان ومحيطها.

رويترز
مقاتلون من حركة طالبان في القصر الجمهوري في كابول بعد فرار الرئيس أشرف غني في 15 أغسطس 2021

وعبّر وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، عن هذا الهدف بوضوح في رسالة وُجّهت إلى المشاركين في مشاورات "صيغة موسكو" بشأن أفغانستان، بتاريخ 29 سبتمبر/أيلول 2023، أي قبل نحو عام ونصف العام، من قرار الاعتراف الرسمي بحكومة طالبان. حيث أكد لافروف أن بلاده: "قلقة من محاولات اللاعبين غير الإقليميين تكثيف أنشطتهم في الاتجاه الأفغاني"، وشدّد على أن "عودة البنية التحتية العسكرية للولايات المتحدة أو (الناتو) إلى أفغانستان والدول المجاورة لها، غير مقبولة تحت أي ظرف من الظروف".

ويكشف ما قاله لافروف أن الاعتراف بطالبان لم يكن معزولا عن الواقع الجيوسياسي، بل خطوة محسوبة ضمن سياسة استباقية، تهدف إلى منع خصوم موسكو من تعزيز مواقعهم في منطقة تعتبرها روسيا امتدادا طبيعيا لنفوذها، كوريثة للاتحاد السوفياتي.

تحولات إقليمية مؤثرة

وربما شكّلت التحولات المتسارعة في المشهد الإقليمي عاملا إضافيا، دفع موسكو إلى تسريع خطواتها نحو الاعتراف بطالبان، فعلى مدى السنوات الماضية، كانت روسيا تنظر إلى الدور الإيراني في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، باعتباره عنصر توازن إقليمي في مواجهة صعود أدوار منافسة، وفي مقدمتها الدور التركي، لكنّ ترجيح تراجع تأثير إيران، تحت وطأة الضغوط الغربية والضربات العسكرية الأميركية والإسرائيلية، من شأنه الإخلال بالتوازن الذي نشأ في المنطقة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

الخشية الأكبر، لا تتعلق بالدور التركي من منظور موسكو، بل بأذربيجان، التي ترى فيها روسيا بوابة محتملة لتغلغل النفوذ الإسرائيلي والغربي في محيطها الاستراتيجي

في المقابل، تواصل تركيا تعزيز نفوذها في آسيا الوسطى من خلال روابط ثقافية واقتصادية ودبلوماسية، مع مؤشرات على انفتاح محتمل على حركة طالبان، ضمن مقاربتها البرغماتية. وربما الخشية الأكبر لا تتعلق بالدور التركي من منظور موسكو، بل بأذربيجان، التي ترى فيها روسيا بوابة محتملة لتغلغل النفوذ الإسرائيلي والغربي في محيطها الاستراتيجي. فالتقارب المتزايد بين باكو وتل أبيب، وتنامي التعاون الأمني والعسكري بينهما، يُنذر بإمكانية تحوّل أذربيجان إلى منصة لاختراق إسرائيلي وغربي في آسيا الوسطى، خاصة في ظل ترجيح انكفاء الدور الإيراني في المعادلة الإقليمية.

انطلاقا مما سبق، لا يُمكن فهم القرار الروسي باعتباره خطوة تكتيكية ظرفية، بل كمؤشر على إعادة تموضع استراتيجي تسعى موسكو من خلاله إلى تعزيز نفوذها في قلب آسيا، عبر رهانات جيوسياسية وأمنية واقتصادية طويلة الأمد، العلاقة مع حكومة طالبان أحد مفاتيحها المهمة.

الحسابات الروسية

من المؤكد أن الاعتراف الروسي بحكومة طالبان بعيد كل البعد عن أي اعتبارات أيديولوجية، ولا يمثل تمهيدا لتحالف سياسي بين روسيا وأفغانستان، بل يعكس وجود تقاطع للمصالح بين الطرفين، يمكن أن يشكل أرضية لتعاون موسع بينهما في الفترة القادمة، وتتمحور الحسابات الاستراتيجية الروسية بشأن العلاقة مع أفغانستان في ثلاثة مجالات رئيسية:

AFP
مقاتل من طالبان عند نقطة حدودية مع ايران

أولا: مكافحة الجماعات المتشددة المرتبطة بتنظيمي "القاعدة" و"داعش" وتهريب المخدرات. فدول الجوار الإقليمي لأفغانستان في آسيا الوسطى، أوزبكستان وتركمانستان وطاجيكستان، باتت منذ سنوات مهددة بسبب تمدد الجماعات المتشددة، التي تنشط في شمال أفغانستان، وخاصة "تنظيم داعش-ولاية خراسان". وبالنظر إلى واقع السيطرة على الأرض، ترى موسكو في طالبان الجهة الوحيدة القادرة على ضبط الحدود والتعاون أمنيا في هذا الملف، بالإضافة إلى وقف تهريب المخدرات إلى الأراضي الروسية عبر دول آسيا الوسطى.

كما أن فتح قنوات أمنية مباشرة مع طالبان، يمنح روسيا فرصة لتقديم نفسها كضامن للاستقرار، ووسيط قادر على الحد من انتقال التهديدات الأمنية إلى جوارها الجغرافي.

ترى موسكو في طالبان الجهة الوحيدة القادرة على ضبط الحدود والتعاون ، بالإضافة إلى وقف تهريب المخدرات إلى الأراضي الروسية عبر دول آسيا الوسطى

ثانيا: تروج "بروباغندا" الكرملين إلى مكاسب اقتصادية جمة. وتمتلك أفغانستان احتياطات هائلة من الليثيوم، والحديد، والنحاس، والذهب، واليورانيوم، وتُعد من أكثر الدول الواعدة (والمهملة) من حيث الثروات الجيولوجية، ومع تراجع شهية الاستثمارات الغربية بسبب عزلة طالبان، تسعى روسيا إلى الدخول المبكر والاستفادة من هذا "الكنز المخفي" عبر اتفاقات ثنائية أو شراكات داخل منظمة شنغهاي. وتتحدث تقارير الإعلام الحكومي الروسي، عن دور مهم لأفغانستان في تعزيز مشاريع التكامل الأوراسي، بربط أفغانستان بممرات لوجستية جديدة، تمتد شمالا نحو الجمهوريات الحليفة لروسيا، وخطوط نقل الغاز نحو باكستان والهند، ما يُعزز موارد وآفاق الاقتصاد الروسي.

ثالثا: يشكّل القرار الروسي جزءا من جهود أو رؤية أوسع لتثبيت الحضور الروسي في جمهوريات آسيا الوسطى، التي طالما اعتبرتها موسكو مجالا حيويا تقليديا منذ الحقبة السوفياتية. وعلى الرغم من محاولات موسكو الاحتفاظ بنفوذها عبر أدوات الأمن والطاقة والتبادل الاقتصادي، فقد شهدت السنوات الأخيرة اختراقات من قوى أخرى مثل الولايات المتحدة، والصين، وتركيا.

يشير الاعتراف الروسي بحكومة طالبان، إلى تحوّل نوعي في مقاربة موسكو للمعادلات الإقليمية والدولية

وفي هذا السياق، يوفّر الاعتراف بطالبان وسيلة لروسيا لتثبيت حضورها في جوار أفغانستان، وقطع الطريق أمام أي عودة أميركية إلى المنطقة تحت غطاء مكافحة الإرهاب.

وفي حال التسليم بصحة الحسابات الروسية حول المصالح من الاعتراف بطالبان، ورغم الأوضاع الأمنية الأكثر استقرارا مقارنة بفترة الوجود الأميركي، فإنه من المبكر الحديث عن دمج أفغانستان بممر "شمال-جنوب" البري. وإضافة إلى عدم وجود موارد كافية لدى روسيا للاستثمار، والعقوبات الغربية المفروضة عليها، فإن الاستثمار في المعادن، وبناء خطوط نقل الغاز والنفط والبنى التحتية للنقل، تحتاج أجواء استقرار، وضمانات بأن لا تتكرر خسارة روسيا استثماراتها كما حصل في سوريا، وقبلها في ليبيا بعد الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي.

مكاسب حكومة طالبان من الاعتراف الروسي

من جانب آخر، يمنح الاعتراف الروسي لحكومة طالبان مكاسب استراتيجية هامة، أبرزها كسر العزلة الدولية التي فرضها الغرب عليها منذ 2021. ومن المقدر مبدئيا أن من شأن هذا الاعتراف أن يعزز الموقف السياسي لحكومة طالبان، ويمنحها فرصة لتوسيع علاقاتها الدبلوماسية مع دول أخرى تتعاون معها لكنها ما زالت مترددة.

وعلى الصعيد الاقتصادي، يفتح الاعتراف الباب أمام استثمارات روسية محتملة، في قطاعات حيوية كالمعادن والطاقة، ويمكّن طالبان من تصدير الموارد الطبيعية بعيدا عن القنوات الغربية، كما يمنحها ورقة ضغط جديدة في المفاوضات مع واشنطن ودول الجوار، ويعزز من حضورها الإقليمي، ضمن تحالفات مناهضة للنفوذ الأميركي.

تقاطع المصالح بوابة لإعادة رسم الخرائط

يشير الاعتراف الروسي بحكومة طالبان، إلى تحوّل نوعي في مقاربة موسكو للمعادلات الإقليمية والدولية، إذ لم يعد الانخراط في آسيا الوسطى مرهونا بالتحالفات التقليدية أو الحسابات الأيديولوجية، بل تحكمه اعتبارات واقعية تضع الأمن والمصالح الاقتصادية في المقام الأول، وعلى المدى البعيد، ربما تراهن روسيا على تعزيز وجودها في "قلب آسيا" عبر شراكات برغماتية مع حكامها الجدد.

ومن جهة أخرى، يوفر هذا الاعتراف لطالبان غطاء سياسيا ودبلوماسيا يساهم في كسر عزلتها الدولية، ويمنحها موقعا تفاوضيا أقوى على الساحة الإقليمية.

لا يُمكن فصل الخطوة الروسية عن ديناميكيات أوسع لإعادة تشكيل التوازنات في قلب القارة الآسيوية، حيث تتقاطع المصالح، وتُعاد صياغة مراكز النفوذ بأدوات جديدة. وفي المقابل، فإن خطوة الاعتراف الحالية بحكومة طالبان، بعد تراجع دورها في سوريا وإيران وجنوب القوقاز، لا تعدو كونها خطوة رمزية لإعادة الاعتبار لروسيا، كقوة عظمى لا تتورع عن تبني قرارات مثيرة للجدل.

font change