إثيوبيا تكمل بناء سد النهضة... خيارات مصر الصعبة

وصفة مثالية لحروب المياه

رويترز
رويترز
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في قصر الاتحادية الرئاسي بالقاهرة، مصر، 10 يونيو 2018

إثيوبيا تكمل بناء سد النهضة... خيارات مصر الصعبة

لم يحظَ إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد المبهرج في الثالث من يونيو/حزيران الماضي، حول اكتمال بناء سد النهضة على النيل الأزرق في بلاده، بإعجاب معظم المصريين. كذلك لم تكن الدعوة التي وجهها رئيس الوزراء الإثيوبي للمسؤولين المصريين لحضور حفل افتتاح سد النهضة الإثيوبي الكبير في سبتمبر/أيلول من هذا العام موضع ترحيب أيضا.

فالاستعراض السياسي الذي أداه آبي أحمد أمام نواب بلاده في ذلك اليوم لم يكن سوى استفزاز محض. فمصر لديها ما يكفي من الأسباب لعدم الاستمتاع بالحماس المفرط الذي أبداه رئيس الوزراء الإثيوبي بشأن سد الطاقة الكهرومائية.

إن سد النهضة الإثيوبي الكبير، الذي بدأ بناؤه مع الاضطرابات السياسية والأمنية التي بدأت تسود مصر في عام 2011 كجزء من ثورات الربيع العربي التي هزت الكثير من الدول العربية الأخرى آنذاك وفي وقت لاحق، سوف يحرم هذه الدولة العربية ذات التعداد السكاني المرتفع من كمية كبيرة من مياه نهر النيل، مصدرها الرئيس للمياه العذبة.

فمع حصة سنوية تبلغ 55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل، واحتياجات تزيد على 105 مليارات متر مكعب سنويا، تعاني مصر للتو من شح في المياه. وتستمر الهوة في الحاجة للمياه في مصر بالاتساع مع نمو سكانها المطرد، وبقاء مواردها المائية على حالها، بما في ذلك حصتها من نهر النيل.

إن سد النهضة الإثيوبي الكبير، المبني على النيل الأزرق، الرافد الرئيس لنهر النيل، والذي يسهم بنسبة تصل إلى 86 في المئة من تدفق أطول نهر في أفريقيا، لن يؤدي إلا إلى تفاقم الصعوبات المائية بالنسبة لمصر. ولهذا السبب أخذ الجانب المصري المفاوضات مع الإثيوبيين بجدية عالية، حتى إن مصر كانت تنظر إلى سد النهضة في وقت ما على أنه قضية وطنية كبرى.

بيد أن اثني عشر عاما من المفاوضات لم تفضِ إلى أي نتيجة، وهو ما دفع مصر إلى اتهام إثيوبيا باستغلال هذه المفاوضات لكسب الوقت والمماطلة إلى أن يصبح السد واقعا على الأرض لا يمكن التراجع عنه. وها هو اليوم قد أصبح أمرا واقعا.

يؤدي انخفاض تدفق المياه إلى مصر إلى تفاقم العوز للمياه في البلاد المكتظة بالسكان ما يجعلها أقل قدرة على إنتاج الغذاء لشعبها

سوء نوايا

على مدى تلك السنوات الاثنتي عشرة، قدم المفاوضون الإثيوبيون دليلا دامغا تلو الآخر على خطة بلادهم لخلق واقع جديد في حوض النيل. فقد تهربوا من كل الفرص التي لاحت في الأفق للتوقيع على اتفاق ملزم قانونا، بداية بشأن بناء السد، وتاليا بشأن ملئه وتشغيله، حتى عندما حاصرهم المصريون في مناسبات عديدة.

غير أن الإثيوبيين كانوا أكثر دهاء من المصريين وبقية المحاورين، بمن فيهم الاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والأميركيين، طوال تلك السنوات أثناء بناء السد.

فقد انحصرت رغبتهم في بناء السد على نهر النيل والتنصل من كافة الالتزامات التعاقدية مع السودانيين والمصريين الواقعين على الجهة الأخرى لتدفق النهر قبل أن يصب في البحر الأبيض المتوسط. ونذكر أن الالتزامات التعاقدية هي التزامات أو وعود يلتزم بها الأطراف قانونا عند إبرام أي عقد، وتحدد الواجبات والمسؤوليات والتوقعات التي يوافق كل طرف على الالتزام بها.

رويترز
نهر النيل الأزرق بعد ملء خزان سد النهضة الإثيوبي الكبير بالقرب من الحدود الإثيوبية السودانية، في 6 نوفمبر 2020

واليوم يبرز نجاحهم على هيئة كتلة خرسانية عملاقة بارتفاع يصل إلى 145 مترا، تمنع تدفق نهر النيل العظيم، وتخلق حوضا بحجم منطقة لندن الكبرى.

يخزن حوض السد حاليا 64 مليار متر مكعب من المياه. وقد اقتُطعت هذه الكمية الهائلة من المياه من الحصص السنوية لكل من مصر والسودان منذ الملء الأول لحوض السد في يوليو/تموز 2020.

ويؤدي انخفاض تدفق المياه إلى مصر إلى تفاقم العوز للمياه في البلاد المكتظة بالسكان ما يجعلها أقل قدرة على إنتاج الغذاء لشعبها وأكثر اعتمادا على الواردات الغذائية، ومن هنا تأتي المخاوف المصرية من السد، وهو المشروع الذي وصفه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مرة بعد أخرى بأنه "تهديد" لوجود بلاده.

ثمة طموح لدى إثيوبيا في التحول إلى قوة قارية عظمى، مستغلة السلاح الوحيد المتاح بين يديها: المياه

السياسات المائية

إن سد النهضة، الذي بلغت تكلفته 5 مليارات دولار والذي بُني في بلد يعاني من تراكم الديون الخارجية، يبدو في ظاهر الأمر أنه سوف يسد فجوة واسعة في إنتاج الكهرباء في إثيوبيا ويحقق عائدات من تصدير الكهرباء إلى البلدان المجاورة، وبالتالي سوف يحد من الفقر في إثيوبيا حيث يصنف حوالي 68.7 في المئة من السكان على أنهم فقراء و18.4 في المئة إضافيين على أنهم عرضة للفقر.

ولكن في حقيقة الأمر، ثمة طموح لدى إثيوبيا في التحول إلى قوة قارية عظمى، مستغلة السلاح الوحيد المتاح بين يديها: المياه. وينبع هذا الطموح من اعتقاد أديس أبابا الراسخ بأن مياه النيل الأزرق هي مورد طبيعي، مثل النفط والغاز والمعادن الثمينة. وهذا الاعتقاد الراسخ نفسه هو المسؤول عن نظرة الإثيوبيين إلى النيل، فهم لا يرون فيه نهرا عابرا للحدود، بل ملكية خاصة وثروة وطنية.

ويمكن لهذا الرأي أن يفسر حق الإثيوبيين في منع المصريين من استخدام مياه النهر الذي يعتقدون أنهم يتمتعون به، كما يفسر المرارة التي يشعرون بها تجاه مصر، المعروفة في كافة أرجاء العالم بأنها "هبة النيل"، الهبة التي يعتقد الإثيوبيون بلا شك أنهم ساعدوا في خلقها من خلال السماح للنهر بالتدفق دون انقطاع على مدى آلاف السنين.

والآن قرر الإثيوبيون قطع تدفق النهر عن واحدة من أقدم الحضارات في العالم وثالث أكبر دولة في أفريقيا من حيث عدد السكان، وهو ما يشكل تهديدا حقيقيا لوجودها ذاته.

بيد أن المخاوف المصرية لا تتعلق بالحاضر بقدر ما تتعلق بالمستقبل. حيث تخشى مصر من أن إثيوبيا، التي شجعها نجاحها في التخلص من العقاب بعد بناء سد النهضة، ستتجه إلى بناء المزيد من السدود على النيل الأزرق في المستقبل. وهذا الأمر سوف يجعل من النهر بحيرة إثيوبية داخلية، مما يهدد تدفق المياه في نهر النيل، الذي تعتمد عليه مصر لتلبية أكثر من 90 في المئة من احتياجاتها المائية.

قبل أربعة أيام من إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي عن اكتمال بناء سد النهضة، قال وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي إن بلاده تحتفظ بحق الدفاع عن نفسها

نموذج أحادي الجانب

طيلة فترة بناء السد وملء حوضه، أصرت إثيوبيا على التصرف بشكل فردي. ورفضت إشراك مصر أو السودان في أي من هذه العمليات، حتى مع المحاولات الحثيثة لهاتين الدولتين الواقعتين على ضفاف النيل في إقناع إثيوبيا بجعلهما طرفا في تلك العمليات.

وبانتهاجها لهذا السلوك، تؤسس إثيوبيا لسابقة في اتخاذ إجراءات أحادية في حوض النيل. ويعد هذا النموذج وصفة مثالية لحروب المياه، ليس في حوض النيل فحسب، بل في أفريقيا بأسرها.

أ.ف.ب
سد النهضة الإثيوبي الكبير (GERD) في غوبا، إثيوبيا، في 19 فبراير 2022

أما بالنسبة لمصر، فهذا الأمر يدق ناقوس الخطر، لأن هذا النمط من الأفعال سيحول نهر النيل إلى مصدر نزاع، بدلا من أن يكون مصدر تعاون بين دول حوض النيل. وسوف يشجع بالتأكيد تلك الدول للسير على خطى إثيوبيا.

مساحة صغيرة

قبل أربعة أيام من إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي عن اكتمال بناء سد النهضة، قال وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي إن بلاده تحتفظ بحق الدفاع عن نفسها إذا تعرضت للتهديد بسبب السد.

إن ما ستفعله مصر تاليا هو أمر لا يمكن لأحد أن يخمنه. لا بد أن مؤسسات الدولة المصرية، وخاصة أجهزة المخابرات والقوات المسلحة، قد وضعت سيناريوهات مختلفة للتحرك في حال تسبب السد الإثيوبي في عطش مصر. وهو ما سيفعله بلا ريب، ولاسيما في ظل استمرار الجفاف.

في ولايته الرئاسية الثانية، لم يعد ترمب الشخص الذي كان عليه في ولايته الأولى. ويبدو أن المودة التي كان يحملها للسيسي قد اختفت

ومن المؤسف الاعتراف بأن التصرف المباشر أو التدخل للحيلولة دون هذا السيناريو الكئيب هو أمر قد يكون أسهل قولا منه فعلا.

وفي الشهر الماضي، انتقد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي حاول في نهاية ولايته الأولى حل النزاع المصري الإثيوبي حول السد، الإدارات السابقة لتمويلها هذا السد.

وفي كشفه عن الجانب التمويلي وعلاقة الولايات المتحدة بسد النهضة، أكد الرئيس الأميركي الشكوك المصرية بأن السد مجرد فخ، يهدف إلى إخضاع مصر بحرمانها من المياه، إذا فشلت في التحرك، واستنزافها عسكريا وماليا أو جعلها عرضة للعقوبات الدولية، إذا قررت التصدي للسد من خلال تفجيره كما اقترح ترمب في عام 2020.

خيارات قليلة

في ولايته الرئاسية الثانية، لم يعد ترمب الشخص الذي كان عليه في ولايته الأولى. ويبدو أن المودة التي كان يحملها للسيسي قد اختفت، كما يبدو أنه لا ينظر إلى مصر بنفس المنظور الذي كان عليه عندما شغل المكتب البيضاوي أول مرة.

ومن غير المرجح أن يغفر الرئيس الأميركي لنظيره المصري تحطيم حلمه حتى الآن بتحويل غزة إلى "ريفييرا الشرق الأوسط" من خلال رفضه استقبال اللاجئين من القطاع الساحلي الفلسطيني واقتراح خطة بديلة لإعادة إعمار غزة دون تشريد سكانها.

تمكنت مصر حتى الآن من التصدي لخطة إثيوبيا لحرمانها من المياه من خلال تطويق هذه الدولة الواقعة في القرن الأفريقي

ويقدم ترمب نفسه كصانع سلام دون أدنى شك، ويعتقد أنه يستحق جائزة نوبل للسلام، وقد ألمح الشهر الماضي إلى الجهود التي بذلها لوضع حد للنزاع بين مصر وإثيوبيا، وسط توقعات بأنه قد يعمل على حل هذا النزاع لاحقا. ولكن لا مكان في السياسة للنوايا الحسنة، ولطالما تغلبت المصالح الاستراتيجية على التعهدات الطيبة.

وعلى نحو مماثل، فالإقدام على فعل ما في عالم تهيمن عليه قوة عظمى قد يكون رد فعلها غير متوقع مثل رد فعل رئيسها، هو أمر محفوف بالمخاطر.

وهذا يترك مصر مع عدد محدود من الخيارات، خاصة وسط توقعات بأن يجعل ترمب من قضية السد الإثيوبي ورقة مساومة يمكن استخدامها لإجبار مصر على الرضوخ لمطالبه فيما يتعلق بغزة.

 أ ف ب
نهر النيل الازرق لدى مروره عبر سد النهضة الإثيوبي في منطقة غوبا في صورة تعود إلى ديسمبر 2019

لقد تمكنت مصر حتى الآن من التصدي لخطة إثيوبيا لحرمانها من المياه من خلال تطويق هذه الدولة الواقعة في القرن الأفريقي، وذلك عبر سلسلة من الخطوات، بما فيها توقيع مجموعة من اتفاقيات التعاون العسكري والدفاع المشترك مع الدول المجاورة لإثيوبيا. كما أرسلت آلاف الجنود إلى الصومال، كجزء من مهمة حفظ السلام الأفريقية في الدولة التي تعاني من الإرهاب. وتهدف هذه الإجراءات إلى إرسال رسالة قوية إلى إثيوبيا وهي أنها قادرة على الوصول إليها، إذا اعتقدت الأخيرة أنها تستطيع وقف تدفق مياه النيل.

هل سيكون هذا كافيا لمنع الإثيوبيين من قطع مياه النيل من خلال بناء المزيد من السدود على النهر في المستقبل؟ هذا سؤال برسم السنوات القادمة؟

font change