من يمتلك مفاتيح مستقبل الذكاء الاصطناعي؟

استحواذ أم احتكار؟

من يمتلك مفاتيح مستقبل الذكاء الاصطناعي؟

تشهد صناعة التكنولوجيا سباقا شرسا لم يسبق له مثيل، ليس بهدف تطوير الذكاء الاصطناعي فحسب، بل الاستحواذ على مفاتيحه ذاتها. فقد تحوّلت الشركات الناشئة المتخصصة في هذا المجال إلى أهداف استراتيجية، تطاردها كبريات الشركات التقنية بشراهة، كما يطارد اللاعبون المحترفون كنزا ثمينا لم يُكتشف بعد.

شهدت الأشهر القليلة الماضية تصعيدا غير مسبوق في عمليات الشراء والاستحواذ على أيدي عمالقة التكنولوجيا. "مايكروسوفت" عززت تمويلها لـ OpenAI وInflection، في حين دخلت "آبل" في مفاوضات متقدمة مع شركة Perplexity AI للبحث الذكي. أما "ميتا"، فلم تكتفِ بمفاوضات للاستحواذ على Play AI المتخصصة في استنساخ الأصوات، بل تسعى للحصول على تمويل بقيمة 29 مليار دولار لبناء مراكز بيانات عملاقة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي لديها.

لكن المفاجأة الكبرى التي هزت أركان سباق الذكاء الاصطناعي، جاءت من مارك زوكربيرغ، ففي خطوة جريئة ومحفوفة بالأخطار، قرر رئيس "ميتا" التنفيذي دفع 14.3 مليار دولار للاستحواذ على 49% من شركة Scale AI، وتعيين مؤسسها الشاب ألكسندر وانغ قائدا لمعمل الذكاء الفائق الجديد داخل "ميتا". لم تكن هذه صفقة تجارية تقليدية، بل كانت رهانا استراتيجيا في لحظة شعرت فيها "ميتا" أنها تتأخر كثيرا عن ركب المنافسين.

الموجة المحمومة من الاستحواذات التي تجتاح قطاع الذكاء الاصطناعي لا تثير تساؤلات عابرة، بل تطرح تحديات عميقة تمس جوهر مستقبل الابتكار وطبيعة المنافسة في العصر الرقمي. ففي الوقت الذي يُفترض فيه أن تكون الشركات الناشئة شرارة التغيير ومحرك الإبداع، يهدد هذا الاندفاع نحو الشراء بتحويلها إلى مجرد أصول تضاف إلى ترسانة العمالقة، مما قد يقيّد حريتها في التجريب، ويخنق روح المبادرة التي تقوم عليها.

فهل ستتحول هذه الشركات الصغيرة الواعدة إلى مجرد "مختبرات داخلية" لشركات كبرى، توجهها مصالحها التجارية بدلا من شغفها بالبحث والتطوير الحر؟ علاوة على ذلك، تشكل هذه الاستحواذات خطرا داهما يتمثل في الاحتكار التكنولوجي. فعندما تتركز القدرات الهائلة في تطوير الذكاء الاصطناعي – بدءا من البيانات الخام وحتى الخوارزميات المعقدة – في أيدي قلة من الشركات، فإننا نخاطر بخلق نظام بيئي تكنولوجي مغلق، يفتقر إلى التنوع ويقلص فرص دخول لاعبين جدد إلى السوق.

لا يهدد هذا الاحتكار المنافسة العادلة فحسب، بل يمكن أن يعيد تشكيل الاقتصاد العالمي بأكمله، ليصبح رهينا لقرارات وأجندات شركات محدودة، مما يثير مخاوف جدية حول العدالة، والشفافية، والقدرة على الوصول إلى هذه التقنيات التي باتت أساسية لمختلف جوانب حياتنا.

Scale AI الوقود السري لثورة الذكاء الاصطناعي

لم تعد Scale AI مجرد شركة ناشئة في قطاع البيانات، بل تحولت إلى أحد الأعمدة التحتية الحيوية التي يستند إليها النظام العالمي لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي. فبينما ترتكز النماذج المتقدمة مثل ChatGPT، وLlama، وGemini على خوارزميات قوية، فإن وقودها الحقيقي يكمن في البيانات المصنفة عالية الجودة والتي تُعدّ الان مجرد سوق ضيق تحتكره حفنة من الشركات، تتصدرها Scale AI

تجاوزت أهمية Scale AI المعاملات التجارية البحتة. ففي عام 2023، قاد مؤسسها ألكسندر وانغ فعالية مغلقة في ولاية يوتا جمعت بين مسؤولين في وزارة الدفاع الأميركية وكبار قادة قطاع الذكاء الاصطناعي


تعتمد الشركة على شبكة عالمية من المتعاقدين تمتد من كينيا إلى الفيليبين وفنزويلا، يعملون على تصنيف البيانات يدويا بدقة متناهية. يشمل عملهم تمييز الكائنات في الصور، وتفريغ محتوى الفيديوهات، إلى تقييم النصوص وإجابات النماذج ضمن إطار تقنية التعلم المعزز بالتغذية البشرية. هذه التقنية، على وجه الخصوص، هي التي منحت ChatGPT قدرته على الفهم البشري وجعلته أكثر سلاسة للمستخدمين. هنا تكمن القيمة الجوهرية لـ Scale AI: إنها ليست مجرد مزود بيانات، بل بنية تشغيلية لإنتاج محتوى مدرّب بدقة، لا يمكن استنساخه من الإنترنت فحسب.

إلى جانب التصنيف اليدوي، توفر Scale AI منظومة متكاملة تشمل أدوات لاختبار النماذج، وتوليد بيانات صناعية، وآليات دقيقة لمراقبة الجودة. هذا ما جعلها شريكا رئيسا لمعظم عمالقة الذكاء الاصطناعي، من OpenAI، و"غوغل"، و"مايكروسوفت"، و"أمازون"، وحتى xAI. الدليل على ذلك ما كشفته تسريبات من داخل الشركة، نقلتها Business Insider، تُظهر أن "غوغل" وحدها كانت تمثل ما يقارب 20% من إيرادات Scale AI السنوية، بموازنة بلغت 150 مليون دولار في عام واحد فقط، عبر أكثر من 38 مشروعا نشطا في مجال الذكاء التوليدي.

تجاوزت أهمية Scale AI المعاملات التجارية البحتة. ففي عام 2023، قاد مؤسسها ألكسندر وانغ فعالية مغلقة في ولاية يوتا جمعت بين مسؤولين في وزارة الدفاع الأميركية وكبار قادة قطاع الذكاء الاصطناعي، لبحث قضايا أمن الذكاء الاصطناعي والسباق التكنولوجي مع الصين. هذا التحول يعكس المكانة الاستراتيجية المتزايدة للشركة، التي باتت تمثل حلقة وصل بين الابتكار التكنولوجي وصنّاع القرار الأمني في واشنطن.

تصادم الرؤى في قلب "ميتا"

في ضوء هذه المعطيات، لم يكن استثمار "ميتا" البالغ 14.3 مليار دولار في Scale AI مجرد صفقة تجارية، بل تحوّلا جذريا في بنية السلطة داخل الشركة. زوكربيرغ لم يشترِ شركة بيانات فقط، بل حصل على نظام تشغيل متكامل للذكاء الاصطناعي يمثل بنية تحتية تقنية، وشبكة بشرية عالمية، ونفوذا مباشرا داخل دوائر القرار في واشنطن. Scale AI، في هذا المعنى، تجاوزت كونها شركة ناشئة لتصبح أصلا استراتيجيا يعوّض جوانب الضعف التي عانت منها "ميتا" في السنوات الأخيرة.

REUTERS
الرئيس التنفيذي لشركة Scale AI، ألكسندر وانغ، بعد الإدلاء بشهادته أمام اللجنة الفرعية للقوات المسلحة في مجلس النواب، المعنية بالأمن السيبراني وتكنولوجيا المعلومات والابتكار

لكن وراء هذه الصفقة صراعا أعمق من مجرد إدارة مشروع تقني. الصراع بين ألكسندر وانغ، المؤسس الشاب لـ Scale AI الذي أصبح اليوم قائد مشروع الذكاء الفائق داخل "ميتا"، وبين يان ليكون، كبير علماء الشركة والحائز جائزة "تورينغ" (أرفع جائزة في علوم الحاسوب)، الذي لا يعكس فقط تنافسا بين جيلين، بل تصادم رؤيتين بالكامل.

يتمسك ليكون، وهو الأب الأكاديمي لنماذج الشبكات العصبية الحديثة، بموقف متحفظ تجاه نماذج اللغة الضخمة، ويعتبرها طريقا غير موثوق به لبلوغ الذكاء الفائق. ويفضل البحث الطويل الأمد، والتحقق العلمي، والبناء على النظريات التأسيسية. أما وانغ فيمثل الجيل الجديد من رواد الذكاء الاصطناعي في وادي السيليكون: الجيل عملي، سريع، وشرس في التوسع، ويرى في السوق والنتائج الميدانية معيارا للحكم.

هذا التباين في المنهجية وضع زوكربيرغ أمام خيار واضح: الانتقال من رؤية بحثية محافظة إلى مقاربة هجومية تعتمد على شراء الكفاءات الجاهزة وتوظيف رأس المال كأداة هيمنة. ولهذا أطلق ما عُرف بـ Zuck Bucks – عروض مالية فلكية تصل إلى 100 مليون دولار لاستقطاب أبرز الأسماء، وهي استراتيجيا لطالما عارضها ليكون بشدة، واعتبرها تشويشا على المسار العلمي الحقيقي.

يظهر مصدر قلق إضافي يتمثل في اتفاق الشراكة بين "آبل" و"غوغل"، الذي يجعل من محرك "غوغل" البحثي الخيار الافتراضي على متصفح "سفاري"

لم يراهن زوكربيرغ فقط على أدوات أو بيانات، بل اختار شخصا يجسد توجها مختلفا بالكامل داخل "ميتا|. فـألكسندر وانغ بخلفيته العملية وقدرته على اجتذاب الكفاءات من خارج الأوساط الأكاديمية، جلب معه روحا تنفيذية جديدة أكثر حسما، وأقل جدلية.

واليوم، يقود وانغ مشروع الذكاء الفائق في "ميتا"، وهو المسار الذي بات محور تركيز زوكربيرغ نفسه، بينما احتُفظ بـ يان ليكون في موقعه الرمزي ككبير العلماء، لكن تأثيره داخل دوائر القرار بدأ يتآكل تدريجيا. والسؤال المطروح الآن، هل يمكن جناحين بهذه الدرجة من التباين أن يطيرا بالشركة نحو هدف واحد؟ أم أن هذه الهوة الفكرية والتنظيمية ستتحول إلى أزمة وجودية تهدد حلم "ميتا" في تصدّر سباق الذكاء الفائق؟

آبل تبحث عن بديل

آبل ليست بعيدة عن سباق الذكاء الاصطناعي، لكنها تخوضه من موقع مختلف، ربما أضعف نسبيًا. الشركة التي طالما تفاخرت باستراتيجية "الوصول المتأخر بإتقان"، تجد نفسها الآن مضطرة لتسريع خطواتها بعدما باتت تواجه مجموعة من التحديات المتراكمة؛ فمساعدها الصوتي سيري أصبح رمزًا لتراجع قدرتها على مجاراة المنافسة، حيث لا يزال بعيدًا عن مستوى التفاعل الذكي والسلس الذي باتت تقدمه تطبيقات مثل ChatGPT وGemini. أما إعلانها الأخير عن Apple Intelligence في مؤتمر المطورين، فقد خيّب آمال كثيرين؛ إذ بدت المزايا الجديدة محدودة ومتأخرة مقارنة بالقفزات النوعية التي حققتها الشركات المنافسة.

في قلب هذا المأزق، يظهر مصدر قلق إضافي يتمثل في اتفاق الشراكة بين آبل وجوجل، الذي يجعل من محرك جوجل البحثي الخيار الافتراضي على متصفح سفاري، والذي يدر على آبل نحو 18-20 مليار دولار سنويًا، أصبح مهددًا بالانهيار نتيجة تحقيقات وزارة العدل الأميركية بشأن الاحتكار. في حال أُجبرت آبل على فك هذا الارتباط، فإنها ستكون بحاجة إلى بديل سريع وفعّال؛ ليس فقط تقنيًا، بل قادر على تقديم تجربة بحث متكاملة تتماشى مع منظومتها المغلقة وتوقعات مستخدميها.

هنا تدخل Perplexity AI على الخط. الشركة الناشئة الصاعدة في مجال البحث الذكي تقدم أكثر من مجرد محرك بحث: منصتها تعتمد على تلخيص المعلومات، وربط المصادر، وتقديم إجابات دقيقة وسريعة مدعومة بنماذج لغوية متقدمة. هذه الصفات تجعلها حلًا مثاليًا لتعويض النقص الواضح في سيري، خصوصًا مع استمرار تأجيل النسخة الجديدة للمساعد الصوتي، الأمر الذي يفسَّر ليس كتعثّر فني فقط، بل كمؤشر على أزمة بنيوية في قدرة آبل على تطوير واجهة ذكاء اصطناعي حديثة من داخلها.

REUTERS
شعار شركة perplexity ولوحة المفاتيح وأيدي الروبوت

تدرك آبل أن انتظار اللحظة المثالية لم يعد خيارًا. لذا، فإن التفاوض مع Perplexity يبدو محاولة لتدارك الفجوة، عبر استحواذ يقدم لها منتجًا جاهزًا، وفريقًا هندسيًا متمرسًا، وسيناريو بديلًا في حال فقدت شراكتها مع جوجل. وبينما تسلك ميتا طريق التحول الجذري وشراء البنية التحتية للذكاء الفائق، تتحرك آبل بمنطق شراء الاختصار، على أمل ألا يكون التأخر قد كلفها أكثر مما تظن.

مايكروسوفت وOpenAI شراكة صنعت الرّيادة

لا شك أن جميع هذه التحركات تمثل تطورات استراتيجية بالغة الأهمية، غير أن أبرزها – وربما أكثرها تأثيرًا – هو العلاقة الوثيقة بين عملاق البرمجيات مايكروسوفت وشركة OpenAI. هذا التحالف ليس مجرد استثمار مالي أو شراكة تقنية، بل يمثل نموذجًا جديدًا لتكامل المصالح بين الشركات الكبرى ومختبرات الذكاء الاصطناعي المتخصصة.

من جهة، وفرت مايكروسوفت بنية تحتية سحابية هائلة عبر منصة Azure، مكنت OpenAI من تدريب نماذجها العملاقة – وعلى رأسها GPT – بكفاءة وقدرات حوسبة يصعب على شركة ناشئة امتلاكها بمفردها. كما ساعدتها على تجاوز العقبات التشغيلية التي تواجهها الكثير من مختبرات البحث المستقلة، لا سيما فيما يتعلق بإدارة الموارد وتوسيع نطاق النشر.

المال يمكن أن يشتري المهارة، لكنه لا يشتري الرؤية


في المقابل، استفادت "مايكروسوفت" من وصول مبكر إلى أكثر تقنيات الذكاء الاصطناعي تقدما، ودمجت قدرات ChatGPT ضمن منتجاتها مثل محرك Bing، ومنصة Office، وخدمة Microsoft 365، مما منحها دفعة تنافسية هائلة في سوق الشركات والتطبيقات المكتبية.

هذا التحالف، منح الطرفين أفضلية مزدوجة: OpenAI حصلت على الدعم اللوجستي والتمويلي لتطوير نماذجها، و"مايكروسوفت" نالت مكانة ريادية في المشهد التكنولوجي الجديد دون الحاجة لبناء كل شيء من الصفر. لكن في الوقت نفسه، أثار هذا النموذج تساؤلات حول استقلالية الأبحاث، واحتمالات انزلاق الابتكار العلمي إلى أطر تجارية بحتة. ومع ذلك، لا خلاف على أن هذه الشراكة شكلت نقطة تحول فارقة في سباق الذكاء الاصطناعي، وأعادت رسم ملامح العلاقة بين مختبرات الابتكار وشركات السوق الكبرى.

أخطار الاحتكار

في هذا السباق المحموم نحو المستقبل، لم يعد البقاء مضمونا حتى لأكبر الأسماء. عمالقة التكنولوجيا، رغم مواردهم الهائلة، ليسوا محصنين من التراجع أو حتى الاندثار إذا فشلوا في مواكبة التحولات الجذرية التي يفرضها عصر الذكاء الاصطناعي. فالذكاء لم يعد في الخوارزميات فقط، بل في القدرة على إدارة البيانات – تصنيفها، تنظيفها، توجيهها – باعتبارها الوقود الحقيقي لأي نموذج ذكي.

ولهذا تحولت الشركات الناشئة التي تتقن فن التعامل مع البيانات إلى أهداف ثمينة، تتسابق الشركات الكبرى للاستحواذ عليها كما لو كانت مراكز تدريب لجيل جديد من الابتكار. ومع ذلك، فإن هذه الظاهرة لا تخلو من أخطار. إذ بينما يُفترض أن تفتح المنافسة الباب أمام الإبداع، فإن موجة الاستحواذات المتتالية قد تؤدي إلى نقيض ذلك: احتكار المعرفة، وخنق الفرص أمام اللاعبين الجدد، وفرض نماذج تجارية مغلقة لا تراعي الشفافية أو العدالة في الوصول إلى التكنولوجيا.

إن المال يمكن أن يشتري المهارة، لكنه لا يشتري الرؤية. ومن دون استراتيجيا واضحة تراعي القيم الأخلاقية، وتضمن الاستخدام العادل والآمن للذكاء الاصطناعي، ستتحول هذه الاستثمارات إلى عبء لا إلى إنجاز. ما يجري اليوم هو معركة على روح التكنولوجيا، وعلى من يملك مفاتيح المستقبل – هل ستكون في يد قلة تتحكم في كل شيء، أم في منظومة مفتوحة تدفع العالم نحو التقدم المشترك؟

font change