انتصار بوتين التكتيكي في ألاسكا

رويترز
رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء مؤتمر صحافي عقب اجتماعهما في قاعدة إلمندورف - ريتشاردسون المشتركة في أنكوريج، ألاسكا، الولايات المتحدة، 15 أغسطس

انتصار بوتين التكتيكي في ألاسكا

كان القادة الأوروبيون، ومن بينهم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، يعتقدون أنهم توصّلوا إلى تفاهم مع ترمب في ختام مكالمة هاتفية جرت بينهم يوم الأربعاء 13 أغسطس/آب. فقد أبدى ترمب حينها موافقته على أن تبدأ أي عملية لإنهاء الحرب في أوكرانيا بوقف إطلاق النار عند خطوط التماس الحالية. كما أكد اتفاقه مع زيلينسكي والقادة الأوروبيين على عدم الدخول في أي مفاوضات بشأن تغيير الحدود قبل تحقيق هذا الوقف.

وأفادت مصادر حكومية أوروبية لوسائل إعلام أميركية بأن ترمب وافق مبدئيا على ثلاثة مبادئ إضافية:

(1) أن تتولى أوكرانيا، لا الولايات المتحدة، التفاوض مع موسكو بشأن أي تغييرات حدودية.

(2) أن تلتزم الولايات المتحدة بدعم شكل من أشكال الضمانات الأمنية لأوكرانيا ضمن اتفاق السلام النهائي.

(3) في حال رفض بوتين وقف إطلاق النار، ستنضم الولايات المتحدة إلى الدول الأوروبية في فرض عقوبات أشد على الاقتصاد الروسي.

برّر البيت الأبيض في البداية دعوة بوتين بوصفها خطوة جريئة تهدف إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا. غير أن عددا من المعلقين الأميركيين والأوروبيين حذروا فورا من احتمال أن يقبل ترمب بالشروط الروسية للسلام، مما قد يُضعف موقف زيلينسكي، تماما كما أضعف رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين موقف تشيكوسلوفاكيا في عام 1938 أمام تهديدات أدولف هتلر. وفي واشنطن، تراجع البيت الأبيض عن مواقفه، وأكدت المتحدثة باسم ترمب، كارولين ليفيت، يوم 12 أغسطس، أن الاجتماع سيكون فرصة للرئيس الأميركي للاستماع إلى وجهة نظر بوتين، لا للتفاوض معه. لكن ترمب، الذي يرى في نفسه متفوقا في إبرام الصفقات مقارنة بسائر القادة، أعلن بداية أن هدف قمة ألاسكا هو التمهيد لاجتماع ثلاثي يضم بوتين وزيلينسكي. وبحلول 16 أغسطس، ارتفعت سقوف طموحاته، إذ صرّح لقناة "فوكس نيوز" أثناء رحلته إلى ألاسكا بأنه لن يشعر بالرضا ما لم ينجح في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.

رأى منتقدو ترمب في الولايات المتحدة أنه خضع مجددا للرئيس الروسي، ولاحظوا مؤشرات على قلقه المتزايد بشأن شرعيته السياسية في الداخل الأميركي

بوتين يغيّر رأي ترمب

لم يأتِ بوتين، في ختام اجتماع السبت، على ذكر وقف إطلاق النار أو إطلاق محادثات السلام بشكل فوري. بل كرر، كما دأب على مدى السنوات الثلاث الماضية، تمسكه بمعالجة ما يعتبره جذور النزاع، والمتمثلة في الحكومة القومية في أوكرانيا وعلاقاتها بالغرب وحلف شمال الأطلسي. وفي ألاسكا، أعاد تأكيد هدفه المعلن بإقامة "توازن أمني عادل" في أوروبا، وهو تعبير يعني بالنسبة له ضم أراضٍ أوكرانية إلى روسيا، وانسحاب القوات الغربية من محيط الحدود الروسية. وأشاد باستعداد ترمب لـ"فهم تاريخ النزاع"، في إشارة إلى إنصاته المطول لعرضه بشأن العلاقات الروسية-الأوكرانية.

ورد ترمب بإيجاز، معترفا بعدم التوصل إلى أي اتفاق. وقال إن الطرفين "اتفقا على الكثير من النقاط"، بينما لا تزال "بعض النقاط الأخرى محل خلاف". وكما بوتين، لم يقدّم ترمب أي إطار أو خطة تفاوضية واضحة. وانتهى المؤتمر بشكل مفاجئ، إذ رفض الرئيسان الرد على أسئلة الصحافيين، ولم يصدرا بيانا مشتركا، كما أُلغيت مأدبة الغداء التي كان من المقرر أن تجمع وزراء الخزانة والتجارة والدفاع الأميركيين الذين سافروا من واشنطن إلى ألاسكا في رحلة طويلة استغرقت سبع ساعات.

رويترز
متظاهرون يحملون لافتات خلال احتجاج تضامنًا مع أوكرانيا، بعد الاجتماع بين الرئيسين الأميركي والروسي في ألاسكا، الولايات المتحدة، 15 أغسطس

وكما في السابق، رأى منتقدو ترمب في الولايات المتحدة أنه خضع مجددا للرئيس الروسي، ولاحظوا مؤشرات على قلقه المتزايد بشأن شرعيته السياسية في الداخل الأميركي. وكان ترمب قد وافق على الاقتراح الروسي بعقد القمة قبل أيام فقط من المهلة التي حددها بنفسه لفرض عقوبات أشد على روسيا، في حال لم يوافق بوتين على وقف إطلاق النار. وما إن جرى الاتفاق على عقد الاجتماع في ألاسكا، حتى اختفت تماما النقاشات داخل إدارة ترمب بشأن العقوبات المحتملة.

وعند وصوله إلى المطار، صفق ترمب لبوتين أثناء اقترابه. وخلال ظهوره الإعلامي المشترك مع الرئيس الروسي عقب الاجتماع، اشتكى ترمب مطولا من تحقيقات الحزب الديمقراطي حول التدخل الروسي في انتخابات عام 2016. وفي مقابلة لاحقة مع قناة "فوكس"، أكد أن بوتين شدد على فوزه في تلك الانتخابات، واتهم الحزب الديمقراطي بسرقة الانتخابات، وهو ادعاء يردده ترمب باستمرار في واشنطن.

قد يستغل زيلينسكي اللقاء المرتقب لتسليط الضوء على ما يثير قلق ترمب فعليا، وهو سقوط الضحايا من المدنيين جراء الهجمات الروسية

وسلّط ترمب الضوء، في جميع تصريحاته الإعلامية من ألاسكا، على علاقته "الرائعة" مع بوتين، وهو توصيف لا يستخدمه عادة مع أي زعيم عالمي آخر. كما وافق على أن يبدأ بوتين بالكلمة خلال المؤتمر الصحافي المشترك، في تجاوز واضح للبروتوكول الدبلوماسي الذي ينص على أن يتحدث زعيم الدولة المضيفة أولا.

لكن التحول الأبرز في موقف ترمب ظهر بعد الاجتماع، إذ انتقل من التركيز على وقف إطلاق النار إلى الدفع باتجاه مفاوضات أوسع نطاقا، تشمل جميع القضايا المحيطة بالعلاقات الروسية-الأوكرانية، بوصفها الطريق الأمثل لإنهاء الحرب. ومع تراجع الضغط من أجل وقف فوري لإطلاق النار، وتأجيل التهديد بفرض عقوبات جديدة، بدا أن الرئيس الروسي خرج من اللقاء راضيا، رغم غياب المراسم الرسمية كمأدبة الغداء. في المقابل، انصرف اهتمام ترمب نحو الزيارة المرتقبة من زيلينسكي، حيث يسعى إلى انتزاع تنازلات من الجانب الأوكراني.

زيلينسكي يعود إلى المكتب البيضاوي

سبق لأوكرانيا أن خاضت تجربة مماثلة مع ترمب، ففي 28 فبراير/شباط، اندلع جدال حاد في المكتب البيضاوي بين ترمب ونائبه فانس من جهة، وزيلينسكي من جهة أخرى، بسبب ضغوط ترمب على الرئيس الأوكراني لتقديم تنازلات دون الحصول على أي ضمانات لسلام دائم. ومنذ ذلك الحين، بات زيلينسكي أكثر حذرا في تعامله مع ترمب، وشهدت محادثاتهما الأخيرة، بما في ذلك المكالمة التي تلت اجتماع ألاسكا، تحسنا ملحوظا. وقد وافق زيلينسكي على فكرة ترمب الأصلية بعقد اجتماع ثلاثي، وهي فكرة لم تُذكر في التصريحات الرسمية الصادرة من ألاسكا.

وفي سعيه لكسب موقف ترمب، يدرك زيلينسكي أنه من غير المجدي محاولة إقناعه بأن بوتين هو الطرف المعرقل. لذا، سيحرص على تجنّب إثارة أي لوم من ترمب، وسيواصل التأكيد العلني على رفضه التنازل عن أراضٍ لصالح روسيا، مع دعم فكرة الاجتماع الثلاثي والدعوة إلى فرض عقوبات جديدة لإرغام بوتين على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. وقد يستغل زيلينسكي اللقاء المرتقب لتسليط الضوء على ما يثير قلق ترمب فعليا، وهو سقوط الضحايا من المدنيين جراء الهجمات الروسية، في محاولة للضغط باتجاه وقف تلك الهجمات وتأمين هدنة مؤقتة في بعض المناطق.

ولكن، من الواضح أن ترمب لا يُبدي اهتماما يُذكر بمستقبل أوكرانيا على المدى الطويل، ففي 11 أغسطس، وجّه اللوم مجددا إلى زيلينسكي محمّلا إياه مسؤولية الفشل في منع اندلاع الحرب عام 2022. وفي 10 أغسطس، صرّح نائب الرئيس فانس لوسائل إعلام أوروبية بأن واشنطن لن تقدم مساعدات إضافية لأوكرانيا. ورغم ذلك، لا يزال زيلينسكي يعوّل على الدعم الأوروبي.

يبدو أن ترمب منفتح على بيع الأسلحة الأميركية للدول الأوروبية لتقوم بتسليمها لأوكرانيا، لكنه لا يزال مترددا في فرض عقوبات جديدة على روسيا

وتُجمع فرنسا وألمانيا وبريطانيا على أن أي اتفاق سلام نهائي لا بد أن يتضمن، إلى جانب مسألة نقل الأراضي، ترتيبات أمنية تضمن سيادة أوكرانيا واستقلالها. وتُناقَش في بعض العواصم الأوروبية فكرة نشر قوة أوروبية داخل أوكرانيا، رغم غياب مقترحات ملموسة حتى الآن. ومن المثير للاهتمام أن ترمب نفسه كان قد أشار، في وقت سابق من أغسطس، إلى دعمه لفكرة تشكيل قوة خارج إطار حلف شمال الأطلسي، ما يمنح الدول الأوروبية بارقة أمل في الحفاظ على انخراط إدارة ترمب في الملف الأوكراني على المدى البعيد. وسيعتمد زيلينسكي بشكل خاص على فرنسا وألمانيا وبريطانيا للدفاع عن مصالح أوكرانيا داخل البيت الأبيض.

ماذا بعد؟

هناك عاملان رئيسان يُسهمان في تحويل مجرى الحرب تدريجيا لصالح روسيا. أولا، تعاني أوكرانيا من نقص متزايد في عدد الجنود، وهو عجز ظل قائما منذ اندلاع الحرب، لكنه تفاقم في الآونة الأخيرة. ثانيا، بدأت الميزة النسبية التي تمتعت بها أوكرانيا في مجال الطائرات المسيّرة بالتراجع. ففي بدايات الحرب، استطاعت كييف استخدام هذه الطائرات بفعالية لاستهداف قوات روسية تفوقها عددا. غير أن موسكو طورت، على مدى العام الماضي، تقنياتها وتكتيكاتها في هذا المجال، في بعض الحالات بمساعدة إيرانية. وقد مكّنها هذا التطور، إلى جانب تفوقها العددي في قوات المشاة، من إحراز تقدم بطيء ومطّرد داخل الأراضي الأوكرانية، رغم الخسائر الكبيرة التي تكبّدتها.

رويترز
مصافحة بين الرئيسين ترمب وبوتين أثناء لقائهما لبحث إنهاء الحرب في أوكرانيا، ألاسكا، الولايات المتحدة، 15 أغسطس

وفي ظل غياب استراتيجية واضحة لدى زيلينسكي أو القادة الأوروبيين لهزيمة روسيا عسكريا أو وضع حد للحرب، يزداد الدور الأميركي أهمية. ويحث عدد من الخبراء والسياسيين في الولايات المتحدة، من كلا الحزبين، ترمب على فرض عقوبات أكثر صرامة على موسكو، والسماح للدول الأوروبية بشراء الأسلحة والتكنولوجيا الأميركية لدعم أوكرانيا، في وقت تسعى فيه إدارته إلى لعب دور الوسيط في النزاع.

ويبدو أن ترمب منفتح على بيع الأسلحة الأميركية للدول الأوروبية لتقوم بتسليمها لأوكرانيا، لكنه لا يزال مترددا في فرض عقوبات جديدة على روسيا. وكما هو الحال دائما، يصعب التنبؤ بقراراته.

إن فكرة ترمب بعقد اجتماع منفرد مع الجانب الروسي تُعد، في الواقع، خطوة منطقية ضمن أي جهد وساطة جاد. فمن المعتاد أن يلتقي الوسيط بكل طرف على حدة في البداية، لفهم أولوياته وأهدافه ومخاوفه بعمق. إلا أن ثمة مشكلة هيكلية تُضعف قدرة إدارة ترمب على التوسط بفعالية لإنهاء الحرب الأوكرانية. فترمب، الذي يتطلع إلى جائزة نوبل للسلام، يفتقر إلى الانضباط الفكري الضروري لفهم مواقف الدول الأجنبية وتحليلها بعناية، كما ينقصه الصبر والدقة في متابعة التفاصيل اللازمة للمفاوضات. وتختلف شخصيته بشكل جذري عن شخصية جورج بوش الأب، الذي نجح في التفاوض مع ميخائيل غورباتشوف لإنهاء الإمبراطورية الأوروبية للاتحاد السوفياتي.

فريق ترمب صغير إلى درجة لا تمكّنه من استيعاب الكم الهائل من المعلومات والملفات المعقدة التي تتطلبها مفاوضات بهذا المستوى من التشابك

علاوة على ذلك، فإن فريق ترمب صغير إلى درجة لا تمكّنه من استيعاب الكم الهائل من المعلومات والملفات المعقدة التي تتطلبها مفاوضات بهذا المستوى من التشابك. وهو يختلف تماما عن فرق الخبراء المتخصصة التي ساندت الرئيس جيمي كارتر في كامب ديفيد عام 1979، أو تلك التي دعمت جورج بوش الأب خلال قمم مالطة وواشنطن وهلسنكي بين عامي 1989 و1990.

فعلى سبيل المثال، أخفق مبعوث ترمب وصديقه المقرب، ستيف ويتكوف، في فهم مواقف الأطراف المعنية بدقة في ملفات معقدة مثل مفاوضات غزة، والبرنامج النووي الإيراني، والحرب في أوكرانيا. أما ماركو روبيو، وزير الخارجية الحالي، فيشغل أيضا منصب مستشار الأمن القومي، ويُشرف على نحو مئتي موظف في مجلس الأمن القومي داخل البيت الأبيض. وكان هنري كيسنجر آخر من جمع بين هذين المنصبين في واشنطن، لكن لا أحد اليوم يُقارن قدرة ماركو روبيو على وضع الاستراتيجيات أو مواجهة الخصوم المحليين والدوليين بما كان يتمتع به هنري كيسنجر.

ورغم أن تعيين مسؤولين إضافيين ذوي خبرة قد يُسهم في إدارة المسارات المختلفة لعملية الوساطة في أوكرانيا، فإن البيت الأبيض في عهد ترمب، والذي لا يزال مثقلا بالهواجس المتعلقة بشرعيته، يُبدي حذرا بالغا في الوثوق بأي أطراف خارجية.

هذه التحديات، إلى جانب تردد ترمب المستمر في مواجهة بوتين بشكل مباشر، تُقيد بشكل كبير أي مسعى أميركي جاد للوساطة في النزاع. وفي نهاية المطاف، قد يُقرر ترمب التخلي بالكامل عن الملف الأوكراني، كما لوّح بذلك الأسبوع الماضي إذا لم يُحرَز تقدم ملموس خلال قمة ألاسكا. وسيؤدي ذلك إلى ترك زيلينسكي والقادة الأوروبيين في موقف بالغ الصعوبة، في مواجهة جيش روسي يواصل تعزيز تفوقه الميداني تدريجيا داخل الأراضي الأوكرانية.

font change

مقالات ذات صلة