"سوبرمان" الذي أغضب مناصري إسرائيل وكان يجب أن يغضب مناصري فلسطين

إسقاطات سياسية تحافظ على صورة أميركا الطهرانية

ديفيد كورينسويت في فيلم «سوبرمان»

"سوبرمان" الذي أغضب مناصري إسرائيل وكان يجب أن يغضب مناصري فلسطين

أحد الخيوط الأساسية الجديدة في قصة "سوبرمان"، كما قدمها جيمس غان، في الفيلم الأول ضمن إعادة تقديم السلسلة، هو أنه جزء من قبيلة أو عشيرة، هي عشيرة المهاجرين والغرباء. الرجل الخارق، منذ البداية، لم يعد رجلا سريا يتخفى وراء شخصية صحافي يدعى كلارك كنت. الجميع تقريبا يعرف أن الاثنين واحد، ولا سيما من يسمون "الميتاهيومان"، أي الخارقون الآخرون إنما من أصل بشري، على عكس "سوبرمان" وهو بشري من أصل فضائي، وبذلك يمهد غان الطريق للخروج من سردية الازدواجية، التي كانت مركزية، في أفلام "سوبرمان" السابقة، إلى المسائل الأساسية التي يطرحها الفيلم: الحرب، الاحتلال، سطوة التكنولوجيا، وشرورها الخفية، التواصل الاجتماعي وتحكمها بالسرديات وبـ"الحقيقة"، صناعة الأسلحة، فكرة البطل، فكرة "الغريب" Alien، كما يسمى المهاجرون واللاجئون في الولايات المتحدة.

ضد السياسة

هناك بلد متخيل يدعى بورافيا يسيطر عليه ديكتاتور مهووس يدعى فاسيل غوركوس، يتحالف مع شخصية الشرير الكلاسيكية في "سوبرمان"، ليكس لوثر، عبقري التكنولوجيا الأسود، الذي يريد أن يصبح ملكا، فيتحالف مع الديكتاتور البورافي غوركوس لاحتلال جارهانبور، البلد الجار الفقير، والسيطرة على أرضه وثرواته، ويعلن مملكته من هناك. نفهم أن سوبرمان منع جيش بورافيا، حليفة الولايات المتحدة، من الاستيلاء على جارهانبور، مما يثير حفيظة صناع القرار في أميركا، ويطرح السؤال الجوهري، هل سوبرمان أميركي في المقام الأول؟ وهل ارتكب في منعه الغزو البورافي، مخالفة أو خيانة لتوجهات "بلاده"؟ حبيبة "سوبرمان" وزميلة قرينه كلارك كنت، الصحافية لويس لاين، تسأله في مقابلة صحافية وافق أخيرا على إجرائها معها، تحديدا هذا السؤال. فيجيب الرجل الخارق: لكنني منعت قتل الناس. ويكرر هذا الجواب البسيط عند كل تحوير للسؤال وإلحاح عليه من الصحافية. هذا عذر كاف للرجل الخارق ليتدخل في شؤون الدول الأخرى، إلا أنه ليس جوابا "سياسيا"، بل هو جواب ضد السياسة. وهذا كاف لينزع عن "سوبرمان" شرعيته أو مواطنته الأميركية. فهل يمكن أن تستقيم مواطنة، لا سيما في عالم اليوم، دونما ولاء للقيادة السياسية؟ تذكار ابتدائي بـ"الولاء" بصفته عنصرا أساسيا في اختيار الرئيس الأميركي دونالد ترمب لفريقه وأعضاء حكومته، مثلما أشارت تقارير صحافية عدة.

يدافع سوبرمان عن فكرة أنه إنسان وليس رجلا آليا أو "فضائيا"، وذلك لأنه يشعر بما يشعر به عموم الناس من خوف وفرح، ومن سعي يومي إلى الصمود في وجه تحديات الحياة

في حوار آخر دال (رغم سذاجته) خلال مشهد المواجهة بين ليكس لوثر وسوبرمان، يدافع سوبرمان عن فكرة أنه إنسان وليس رجلا آليا أو "فضائيا"، وذلك لأنه يشعر بما يشعر به عموم الناس من خوف وفرح، ومن سعي يومي إلى الصمود في وجه تحديات الحياة، وهذا – يقول لعدوه – "سر قوتي". في هذا ما يتجاوز فكرة المواطنة الأميركية، بالمعنى الترمبي للكلمة، أو أوسع من ذلك بالمعنى المؤسساتي السلطوي في الولايات المتحدة. كونه إنسانا لا يتناقض مع كونه أميركيا، وكذلك كونه "مهاجرا" جاء من كوكب آخر إلى أميركا، شأنه شأن بائع الفلافل مالك علي الذي يعلنه "سوبرمان" نوعا من "الشهيد" بعد أن يقتله ليكس لوثر (والمؤسسة الأميركية) لأنه وقف إلى جانب "سوبرمان" و"صدقه"، في أعتى لحظات تخوينه و"تكفيره"، انطلاقا من اتهامه بأنه إنما جاء ليدمر الجنس البشري، لا ليكون عونا له.

ديفيد كورينسويت في فيلم «سوبرمان»

إسرائيل وغزة

منذ اللحظة الأولى لعرض "سوبرمان"، أبدى مناصرون لإسرائيل امتعاضهم من سرديته، واعتبر مناصرون لفلسطين أنه يمثلهم. ورغم نفي جيمس غان ذلك، وتأكيده أنه كتب سيناريو الفيلم قبل أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، فإن الجمهورين لم يستطيعا منع نفسيهما من عقد المقارنات. بورافيا هي إسرائيل والديكتاتور المجنون فاسيل غوركوس هو بنيامين نتنياهو. أما جارهانبور، فهي غزة (فلسطين)، وهي بلا رئيس، بل فيها شعب فقط يعيش في الصحراء في ظروف سيئة ومع ذلك يتمسكون بأرضهم ويقررون مواجهة القوة العسكرية الطاغية للبلد الديكتاتور الجار. قوة بورافيا وطغيانها يأتيان من تحالفها مع الولايات المتحدة، في تذكير لكل تحالفات أميركا مع الأنظمة العسكرية الديكتاتورية على مر تاريخها الحديث، لكنها تأتي أيضا من تحالف ديكتاتورها مع مجنون العظمة التكنولوجي ليكس لوثر، ووعده له بمنحه نصف أراضي جارهانبور، لكي يجعلها مملكة له وينصب نفسه ملكا عليها، وتأتي من مؤسسة صناعة الأسلحة، ممثلة هنا أيضا في شركة ليكس لوثر التي تمنح بورافيا ما قيمته ثمانون مليار دولار من الأسلحة، كما تأتي من قطاع التكنولوجيا، وخصوصا شركات التواصل الاجتماعي، التي يلخصها هنا أيضا ليكس لوثر.

GettyImages
رجل يرتدي زيّ "سوبرمان" يرفع العلم الفلسطيني خلال تظاهرة

المفارقة أن مؤيدي إسرائيل وحربها الإبادية على غزة، كانوا هم الأسرع إلى شجب سردية الفيلم. فدفع التهم هذه هو ما يقوم به هؤلاء دوما، قبل توجيه أصابع الاتهام حتى، وهو ما لطالما تندر حوله مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي، مستغربين لماذا اعتبروا أن بورافيا هي إسرائيل بهذه السرعة؟ الجواب واضح: بورافيا حليفة للولايات المحتدة، يحكمها مهووس مجنون بالسلطة، تتمتع بالتفوق العسكري، تسعى إلى استعمار أراضي الآخرين تحت حجج واهية (تحرير أهلها من الحكم الديكتاتوري)، ومستعدة لقتل (إبادة) أعداد هائلة من الناس في سبيل تحقيق هذا الهدف. أحد مستخدمي مواقع التواصل أبدى غضبه من هذه المقارنة، ذلك أن "سوبرمان يهودي، ومبتكره يهودي، وقصته تقوم على قصة (النبي) موسى"، فكيف يحق لجيمس غان الاستعانة بسوبرمان لرسم هذه الصورة السوداء، بل الشيطانية، لإسرائيل؟

المفارقة أن مؤيدي إسرائيل وحربها الإبادية على غزة، كانوا هم الأسرع إلى شجب سردية الفيلم. فدفع التهم هذه هو ما يقوم به هؤلاء دوما، قبل توجيه أصابع الاتهام حتى

هنا، كما في مناسبات عديدة، لم تخدم هذه الدعاية المضادة إلا في تأكيد سرديته التي تضع إسرائيل في قلب الاتهام. لعل ما غفل عنه الواقفون وراء الحملة، أن تلقي العمل الفني أو الخطاب، يصنع هو الآخر سرديته، وإن لم تكن في أصل العمل الفني أو الخطاب. وفي "سوبرمان" لدينا مثال كلاسيكي على هذه السمة التي لطالما تكررت في أعمال فنية وأدبية، أي أن التأويل، يصبح أصلا، والمقصد الحقيقي، أو النية المسبقة، تصبح فرعا لا قيمة حقيقية له.

في ذروة الأحداث، يجد "سوبرمان" نفسه أمام خيارين: إما إنقاذ جارهانبور من محاولة الغزو الثانية من قبل بورافيا؟ وإما إنقاذ الكوكب برمته من الفلق الأرضي الهائل الذي تسبب به ليكس لوثر. يجد حلا ذكيا: سيتولى بنفسه إنقاذ الكوكب، وبالتزامن سيجعل أفراد "عشيرته" أو "رابطة العدل" ينقذون جارهانبور من جيش بورافيا. هنا أيضا يسهل عقد المقارنات والإسقاطات: الفلق الأرضي هو الحرب النووية (المواجهة المحتملة بين أميركا وروسيا على خلفية حرب أوكرانيا)، والعشيرة، هم أصحاب الضمير الذين خرجوا للاحتجاج على الإبادة الإسرائيلية في غزة. الخير ينتصر في النهاية، والطفل الجارهانبوري الذي يرفع لافتة "سوبرمان" في الصحراء، يجد من يتقدم لإنقاذه وأهله. هذا لم يحدث في الواقع طبعا، فـ"العشيرة" الفعلية التي يمكن أن ينتسب إليها أهل غزة، أدارت ظهرها لهم، أما "عشيرة" الضمير الكونية، فلم تتمكن من وقف الحرب. الإنسان، في "سوبرمان" جيمس غان، ينتصر، أما في الواقع، فالإنسانية بأكملها هزمت، أما الغرباء (المهاجرون، السكان غير الأصليين، أصحاب المواطنة المكتسبة) فسقطوا هم أيضا ضحايا نصرتهم للحق.

AFP
فلسطينيون يتزاحمون لالتقاط مساعدات إنسانية أُسقطت جوا بالمظلات في مدينة غزة، شمال قطاع غزة

المعضلة الأساس

إلا أننا لو سلمنا جدلا بصحة جميع هذه الإسقاطات، وبقصديتها حتى، فإن الذهاب بها حتى نهاياتها المنطقية يجب ألا يسر كثيرا أصحاب المعسكر المضاد. صحيح أن الفيلم يظهر أهل جارهانبور بوصفهم أناسا طيبين وبسطاء، شأن جميع "السكان الأصليين" (كما تظهر الصورة النمطية ما بعد الاستعمارية المفعمة بمشاعر الذنب على ما اقترف في الماضي)، إلا أنه في الوقت نفسه يظهرهم متخلفين عن ركب الحضارة. يعيشون في صحراء تامة، وجوههم مغبرة وشعورهم شعثاء وملابسهم ممزقة، ولا يملكون سوى الدعاء والاستعانة بقوى خارجية للدفاع عن أنفسهم والتصدي للغزاة. هذه الصورة تصب في جوهرها في الصورة النمطية نفسها عن العرب والمسلمين وعن شعوب "الشرق الأوسط" عموما. هذه المنطقة هي بالتعريف الإسرائيلي منطقة متخلفة، بلا حضارة ولا مشروع حضاري، وبالتالي يسهل (بل يجب) الاستيلاء عليها، لتخليصها من بؤسها على الأقل. هذه السردية هي حجر أساس في الخطاب الإسرائيلي، وقد عبر عنها نتنياهو (وجميع حلفائه في الحكومة)، بأشكال عدة، وكانت المناسبة الأخيرة حين وصف فرنسا بأنها "شرق أوسط أوروبا"، ردا على إعلان رئيسها نية بلاده الاعتراف بدولة فلسطين.

الإنسان، في "سوبرمان" جيمس غان، ينتصر، أما في الواقع، فالإنسانية بأكملها هزمت، أما الغرباء فسقطوا هم أيضا ضحايا نصرتهم للحق

الشرق الأوسط إذن، وفق هذه المقارنة، هو صحراء مقفرة، تملك ثروات (النفط، المعادن)، يجب أن يستولي عليها الغرب المتفوق (ومن ضمنه إسرائيل طبعا)، لكي يستأنف من خلال ثرواتها مسيرة الحضارة والديمقراطية الغربية، بل ولكي يؤمن الرخاء لشعوبها. نظرة لا تنفي عن بلاد العرب تاريخها فحسب، ومساهمتها في الحضارة الإنسانية، بل تنفي حاضرها أيضا: إن لم تكن تمتلك التفوق العسكري والتكنولوجي، إلا أنها تمتلك طاقات بشرية هائلة، متعلمة، طامحة إلى التقدم والتحرر، وليست مجرد شعوب همجية على هامش التاريخ، تريد الاستمرار فقط لأنها موجودة، لا لأنها تملك مقومات ذاتية تقودها إلى المستقبل. هذا لا يراه "سوبرمان" بل يرى فقط مجموعة مساكين يحتاجون إلى قوة خارقة مؤمنة بحق جميع البشر في الحياة، لإنقاذهم.

صحيح أن الفيلم يصيب في نقده للتدخل الأميركي السافر في شؤون العالم، من منطلق القوة والتفوق، فنسمع على لسان "سوبرمان" في حواره مع الصحافية لويس لاين، أنه لا يحق لدولة احتلال دولة أخرى، فقط لأن هذه الأخيرة يحكمها حاكم سيء أو ديكتاتور، وهذا يذكرنا فورا بالغزو الأميركي للعراق، على سبيل المثل لا الحصر. إلا أن الغزو والمطامع التي تقف وراءه، في الفيلم، تقوم به دولة بورافيا وديكتاتورها، بالتحالف مع قوى شريرة داخل الولايات المتحدة يمثلها ليكس لوثر. حتى صناعة السلاح العملاقة، يضعها الفيلم بمنأى من النخبة الحاكمة، بل هي تتصرف انطلاقا من مطامع ذاتية، ودون تواطؤ أو تنسيق مع المؤسسة السياسية الأميركية الرسمية. هنا تبدو المؤسسة السياسية (الإدارة) بريئة من كل هذه الشرور. في جوهرها، هذه المؤسسة طاهرة بريئة، ما دامت ديمقراطية، بل إنها لا تعرف شيئا من مخططات ليكس لوثر، وتقع ضحية لمؤامرته. وحين تصحو أخيرا، بفضل سوبرمان وعشيرته، فإنها تصوب الأمور وتعاقب من يجب معاقبته.

ديفيد كورينسويت في فيلم «سوبرمان»

صورة أميركا

ربما كانت هذه الصورة، إن كانت مقصودة، هي أضغاث أحلام مثالية: أن تكون الولايات المتحدة بالفعل مثلما تدعي، واحة للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وملاذا للغرباء والمظلومين في العالم، لكن الواقع الافتراضي الإسقاطي نفسه الذي جر المقارنات بين بورافيا وإسرائيل، لا يمكنه أن يعفي المؤسسة السياسية الأميركية من أفعال الشركات الرأسمالية، شركات التكنولوجيا وصناعة السلاح، بل إن هذه الشركات هي جزء لا يتجزأ من المؤسسة السياسية، وقد تجلى ذلك كأوضح ما يكون في الحلف التاريخي الذي قام بين دونالد ترمب وإيلون ماسك، بل إن معاقبة هذا الأخير بطرده في نهاية المطاف، جاءت لتقول إن الكلمة العليا هي للنخبة السياسية، لا للنخب الأخرى التي يجب أن تظل تابعة لها.

"سوبرمان" الذي شاهدناه إذن، ليس النقيض للنخبة السياسية والرأسمالية الأميركية والعالمية، إنه صورة أميركا المشتهاة والمزعومة

"سوبرمان" الذي شاهدناه إذن، ليس النقيض للنخبة السياسية والرأسمالية الأميركية والعالمية، إنه صورة أميركا المشتهاة والمزعومة. وفي حين أنه ليس مطلوبا من فيلم هوليوودي الذهاب إلى أن يكون مطالعة فكرية في البنية السياسية الأميركية، فإن مجرد نفي هذا الإسقاط أيضا، ينفي معه كل الإسقاطات الأخرى، أو ينزع عنها دلالاتها على الأقل، ويجعلنا اخيرا أمام محض فيلم شعبي هوليوودي، يبتغي الكسب المادي الضخم، مستفيدا من توظيف راهنية لم يفلح حقا في الارتقاء إلى مناقشة عمقها أو الإضاءة عليه.

AFP
فتيان فلسطينيون يستخدمون كرسيا متحركا لنقل أغطية في حي التفاح بمدينة غزة في 14 أغسطس 2025

مفارقة أخيرة: في الظهور الأول لمملكة بورافيا، ضمن سلسلة قصص "سوبرمان" المصورة، عام 1939، تعاني تلك البلاد الأوروبية المتخيلة من حرب أهلية، وإذ تجتمع في مؤتمر سلام لوضع حد للصراع، يكتشف سوبرمان عدم صدق نيات الوفدين المتفاوضين وعزمهما إطالة أمد الحرب، فيقتحم المبنى الذي يجتمعان فيه ويهدد بإسقاطه على رؤوس الوفدين في حال لم يتوصلا إلى سلام حقيقي، وبالتالي يجبرهما على التسوية. لا بد من أن دونالد ترمب قرأ في طفولته هذه القصة إذ أطلق الوعود بإنهاء الحروب، عبر القوة، في العالم أجمع، ولا سيما الحرب الروسية الأوكرانية. في خيالاته الخصبة، ربما وهو يستلم جائزة نوبل للسلام، يسهل أن نرى عباءة حمراء ترفرف حوله.

font change