إيران... أمن "صفري ومطلق" استعدادا لما ينتظر البلاد

العقلية الأمنية الإيرانية تقليدية للغاية، ما تزال تعتمد على الأساليب التي رسختها شخصيات مثل الرئيس الأسبق حسن روحاني

رويترز
رويترز
أفراد من القوات الخاصة التابعة للشرطة الإيرانية أثناء مناورة في ساحة آزادي (الحرية) في طهران في 15 نوفمبر 2008.

إيران... أمن "صفري ومطلق" استعدادا لما ينتظر البلاد

في حدث استثنائي، خرج قائد الوحدة الخاصة في قوى الأمن الإيرانية، الجنرال مسعود مُصدق، على وسائل الإعلام الرسمية، معلنا جاهزية قواته للتصدي لأية مظاهرات قد تخرج في البلاد خلال الأسابيع القادمة، موضحا أن قواته صارت منتشرة في كافة أنحاء إيران، رافضا نعت وحدته بـ"القوات القمعية"، حسبما تقول تقارير المؤسسات الحقوقية العالمية، معتبرا أن هذا اللقب "ليس من الشعب بل من الأعداء، ويهدف إلى تشويش أذهان الناس". الأمر الذي فسره المراقبون كإعلان لاستعدادات أمنية واسعة قد تشهدها إيران، استباقا لحركات الاحتجاج المتنامية في مختلف مناطق البلاد.

تصريحات المسؤول الإيراني تأتي عقب فشل المفاوضات السياسية بين الدول الغربية وإيران، بشأن برنامج الأخيرة النووي، وتفعيل الكثير من العقوبات الدولية القديمة على إيران منذ عدة أسابيع. وفي وقت تشهد فيه البلاد أزمات اقتصادية وخدمية حادة جدا، وصلت حد انقطاع الكهرباء ساعات متواصلة عدة في مختلف المدن الرئيسة، بما في ذلك العاصمة طهران، ما أثار موجة سخط عامة. إذ انتشرت مقاطع مصورة، تُظهر احتجاجات طلابية في جامعة "خوجة نصير الدين طوسي" للتكنولوجيا، وأخرى في "جامعة تبريز"، فيما أثار حادث سير وقعت فيه حافلة "طالبات معهد الطب المساعد" في بلدة "سرخه" شمال العاصمة طهران نقمة في الأوساط الشعبية، بعدما تأخر إسعاف الضحايا لساعات، وعادت ظاهرة الكتابات المعارضة على الجدران إلى عدد من المدن.

جهاز قمع مركزي

حسب وسائل الإعلام والمطلعين على الوضع الداخلي في إيران، فإنه منذ الحرب الإسرائيلية-الإيرانية الأخيرة، صار تنظيم "الوحدة الخاصة لأمن الجمهورية الإسلامية الإيرانية"، والمعروف اختصارا بـ"فرج"، الجهاز المخول بممارسة كل الإجراءات الاحترازية والميدانية المباشرة، أياً كانت، لضبط الأحوال الأمنية، ومنع أية احتجاجات عارمة قد تقع في البلاد، بما في ذلك الإجراءات التي قد تتجاوز الصلاحيات التقليدية للأجهزة الأمنية الإيرانية، واسعة النطاق أساساً. كذلك فإن منظومات الحكم الأخرى، مثل القضاء والإعلام والبرلمان وأجهزة الرقابة والقوى السياسية لن تكون لها أية رقابة أو ملاحظات أو نقد لهذا الجهاز، الخاضع للنواة الصلبة في قلب النظام الحاكم فحسب.

ترصد منظمات حقوق الإنسان الإيرانية ثماني عمليات قمع عام قامت بها "الوحدة الخاصة" خلال السنوات الماضية. كانت كل واحدة منها حملة محق واسعة للاحتجاجات

يعد الجنرال مسعود مصدق الأب المؤسس للهوية الجديدة لهذا الجهاز الأمني، ومنذ أوائل التسعينات. فقد كان واحدا من قدامى المحاربين في الجيش الإيراني، ثم تولى قيادة "الجهاز الوطني لمكافحة الإرهاب (ناجا)" طوال سنوات كثيرة، أشرف خلالها على الكثير من ألوية الشرطة والوحدات الأمنية الإيرانية، تحديدا في المناطق الملتهبة من البلاد.

فهذا الجهاز وإن كان اسمه الوظيفي خاصاً بمكافحة الإرهاب، لكنه فعلياً كان يقمع التنظيمات والأفراد المعارضين للنظام، خصوصاً في مناطق الأقليات القومية والعاصمة طهران، حيث كان الجنرال مسعود مصدق طوال ربع قرن قائداً للواء الثالث في وحدة "ناجا" الخاصة بالعاصمة طهران من هذا الجهاز، المخول وحده بتنفيذ مهام حساسة للغاية. انتقل بعدها ليكون نائب منسق ورئيس أركان "قيادة شرطة طهران الكبرى"، التي أشرفت طوال سنوات على عمليات تأمين العاصمة ضد الاحتجاجات وضبط تجار العملة الصعبة والسيطرة على التجمعات الاعتراضية.

أ.ف.ب
اشتباك بين طلاب إيرانيين والشرطة في جامعة طهران خلال مظاهرة احتجاجًا على المشاكل الاقتصادية، في العاصمة طهران، في 30 ديسمبر 2017.

ترصد منظمات حقوق الإنسان الإيرانية ثماني عمليات قمع عام قامت بها "الوحدة الخاصة" خلال السنوات الماضية. كانت كل واحدة منها حملة محق واسعة للاحتجاجات، تضمنت مداهمات مفتوحة وعمليات تفتيش واسعة واعتقالات عشوائية وحتى مواجهة المتظاهرين بالأسلحة الفتاكة وإطلاق النار عليهم وقتلهم. تذكر هذه المنظمات بالذات الأيام الثلاثة الرهيبة (14-16 نوفمبر/تشرين الثاني 2019)، عندما نزل أعضاء هذه الوحدة إلى جميع نقاط الاحتجاجات التي كانت تعم إيران وقتها، وأظهرت كيف أن تعدادها يفوق ما أعلنت عنه السلطات الإيرانية عام 2012 بأنها 60 ألف عنصر فحسب، وأن نوعية العنف الذي مارسوه ضد المحتجين كانت أقرب لأساليب حرب الشوارع منها لمواجهة المظاهرات المدنية، ما وضع المئات من قادة الوحدة في لوائح "منتهكي حقوق الإنسان" المحلية والدولية.

وحسب البنية التنظيمية للوحدة الخاصة "فرج"، فإن جميع فروعها في المحافظات تتبع المقر الرئيس في العاصمة طهران، ولها قيادات منفصلة في كل محافظة إيرانية، مرتبطة شكليا بقيادة شرطة تلك المحافظة. لكن ثمة وحدة خاصة "الوحدة الأولى"، ومقرها في العاصمة طهران (تُسمى "لواء أمير المؤمنين")، مهامها تخص جميع أنحاء البلاد لو دعت الحاجة، فهي تدخل في عمليات مؤازرة سريعة وفتاكة إلى جانب الوحدة الخاصة المحلية.

خلال استعداداتها لضبط الشارع الإيراني، فإن الوحدة الخاصة تعتمد نظام الألوان الذي يُطلقه المركز من العاصمة طهران. فـ"اللون الأبيض" يخص الحالات العادية. تعمل خلاله هذه الوحدة كقوة مساندة غير معلنة لمختلف الأجهزة الأمنية والشرطية في كافة المحافظات. فلو كان ثمة احتفالية عامة في مدينة ما، يحضرها أعضاء الوحدة بالزي المدني، وينتشرون في أنحاء الاحتفالية دون إثارة أي انتباه، لكنهم جميعا مدربون ومستعدون لاتخاذ إجراءات سريعة وفتاكة لو حدث شيء ما أثناء الاحتفالية، بصلاحيات عامة تتجاوز ما لدى باقي الأجهزة الأمنية الضابطة للمناسبة. ينطبق الأمر على مختلف المؤسسات العامة والمناسبات الاجتماعية والثقافية والرياضية، العامة والخاصة. وفي حال اشتباه المركز بوجود وضع "غير طبيعي" في بقعة ما، عبر ما تحصل عليه من معلومات استخباراتية، فإنها تضع المنطقة في حالة "اللون البني"، وبذا يكون جميع أفراد الوحدة في تلك المنطقة في حالة استنفار، تنفذ عمليات معلنة وميدانية، بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية، التي تصير فعليا تابعة لهذه الوحدة وقتئذ.

النظام الذي يعرض نفسه كقوة جبارة فقد سيادته الجوية في الحرب الأخيرة خلال ساعات، وتعرضت كل مراكزه الحيوية لتحطيم واسع، فيما قُتل الكثير من قادته العسكريين والسياسيين

لكن في حال إعلان المركز عن دخول منطقة ما في حالة اللونين "الأصفر والأحمر"، وهو عادة ما تعلنه أثناء وجود إعلان أو دعوة لمظاهرات أو حالات عصيان مدني. وقتئذ، يعني الأمر أن الوحدة مخولة بفعل كل شيء لتحقيق ما تسميه "إنفاذ القانون". لكنها فعليا تعطي صلاحيات لعمليات قمع شديدة، بما في ذلك إطلاق النار ومداهمة التجمعات والدخول إلى الأماكن الخاصة وتفتيش وسائل الاتصال ومنع المؤسسات الخاصة والعامة ممارسة وظائفها.

رويترز
المرشد الإيراني علي خامنئي يلقي كلمة في طهران، 16 يونيو 2025

حاجة مستدامة للأمن

في حديث مع "المجلة"، يشرح الكاتب والباحث سردار عزيزي تنامي حاجة النظام الإيراني للأمن المركزي والمضبوط، خاصة خلال العامين القادمين، لأن بنية النظام راهنا هي الأكثر هشاشة من حيث القدرة على ضبط الشارع، وفي جميع النواحي، مُرجعا الأمر إلى عدة عوامل وآليات في هذه البنية. يسرد عزيزي تحليله قائلاً: "طوال 36 عاماً من عمر النظام الإيراني الراهن، لم يسبق له أن دخل في مواجهة مسلحة مباشرة وانهزم فيها، مثلما حدث خلال الحرب الأخيرة مع إسرائيل. فكل حروب إيران السابقة، إما انتهت بالتعادل، مثل الحرب الإيرانية-العراقية في الثمانينات، أو كانت تُخاض عبر أذرع إقليمية. كان ذلك عاملاً حيوياً بالنسبة لنظام يعتمد في الجوهر على عقيدة (ترهيب المجتمع من قوة النظام)، عبر عرض نفسه كقوة عسكرية جبارة في الخارج، قادرة على فرض الصمت المستدام في الداخل بسبب ذلك. وقد حطمت الحرب الأخيرة تلك الصورة، وبدا واضحا أن النظام الذي يعرض نفسه كقوة جبارة فقد سيادته الجوية خلال ساعات، وتعرضت كل مراكزه الحيوية لتحطيم واسع، فيما قُتل الكثير من قادته العسكريين والسياسيين، وفي داخله مئات الوحدات العميلة لدولة أخرى، ولم يستطع الرد إلا عبر رشقات صاروخية متفرقة. حطم الأمر صورة النظام الحاكم، وصار محرضاً دافعاً نحو مزيد من قدرة المجتمع على الجرأة في مواجهة النظام. وهو أمر يبدو أن النظام سيرد عليه بمزيد من الجاهزية الأمنية والإعلان عنها والاستعداد لفعل كل شيء في سبيل منع عودة اندلاعها".

العقلية الأمنية الإيرانية تقليدية للغاية، ما تزال تعتمد على الأساليب التي رسختها شخصيات مثل الرئيس الأسبق حسن روحاني

يتابع الباحث المختص بالشؤون الداخلية الإيرانية: "عاملان آخران أضيفا لهذا الوضع الاستثنائي الذي يمتاز به النظام الإيراني. فالعقلية الأمنية الإيرانية تقليدية للغاية، ما تزال تعتمد على الأساليب التي رسختها شخصيات مثل الرئيس الأسبق حسن روحاني، الذي بقي طوال عقد ونصف أميناً عاماً لمجلس الأمن القومي (1989-2005)، وكان الأب المؤسس لكل هذه البنى الأمنية. فروحاني وإن كان قد عُرف فيما بعد كرئيس إصلاحي، مقارنة برئيس متشدد مثل أحمدي نجاد، لكنه طوال سنوات الحقبة الثانية من عمر الجمهورية الإسلامية، بعد انتهاء الحرب مع العراق ووفاة الخميني (من عام 1989 وحتى الآن)، رسخ عقيدة أمنية صفرية، تقوم على اعتبار أية مظاهرة أو حتى احتجاج تهديدا لأمن النظام، بما في ذلك التجمعات المطلبية أو الاعتراضية على بعض تفاصيل الحياة العامة.

أ.ف.ب
تصاعد الدخان والنيران من مصفاة نفط جنوب طهران، بعد استهدافها في غارة إسرائيلية، في 15 يونيو 2025.

الأمين العام الآخر لمجلس الأمن القومي علي شمخاني (2013-2023) سار على الدرب نفسه. فالشخصان كانا مصرين على الرؤية الأمنية الصفرية نفسها، وعلى تزويد البنية الأمنية بكوادر آتية من الخلفية العسكرية فحسب، ورفدهم بالكثير من العطايا والامتيازات والسلطات المتجاوزة لما يحدده القانون. أي التحول من دولة عسكرية في زمن الحرب مع العراق، إلى دولة أمنية تماما. العامل الآخر هو ما ينتظر البلاد في الأفق المنظور، فالحرب قد تندلع مجددا، ولا أفق لرفع العقوبات، ورحيل المرشد الأعلى قد يُظهر صراعات المحاور ومراكز القوة إلى العلن، فيما الأزمات الحادة تعصف بالبلاد من كل حدب. كل ذلك لا توجد له حلول في جعبة النظام، خلا المزيد من الأمن الصفري".    

font change

مقالات ذات صلة