هل يُضعف الذكاء الاصطناعي عقولنا؟https://www.majalla.com/node/326096/%D8%B9%D9%84%D9%88%D9%85-%D9%88%D8%AA%D9%83%D9%86%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A7/%D9%87%D9%84-%D9%8A%D9%8F%D8%B6%D8%B9%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D8%B9%D9%82%D9%88%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%9F
في لحظة تبدو عابرة لكنها تحمل في طياتها تحولا عميقا، قد تجد نفسك تلجأ إلى أداة من أدوات الذكاء الاصطناعي لتنجز بها مهمة كنت تتقنها من قبل بسهولة، دون أن تتساءل: لماذا تغير الحال؟ أهو من قبيل الكسل؟ أم لأن الخيار الأسهل بات مغريا إلى الحد الذي يجعل العودة إلى الجهد الذاتي ضربا من العناء غير المبرر؟ مع الوقت، تتلاشى الحدود بين ما نستطيع فعله بأنفسنا وما نوكله للآلات، فتُطرح أسئلة قلقة حول مصير قدراتنا الذهنية، وحول ما إذا كنا نفقد تدريجيا رفاهية الاختيار ذاته، في ظل استخدام متكرر قد يتحول إلى ضرورة نفسية أو معرفية لا مفر منها.
لقد تغلغل الذكاء الاصطناعي في تفاصيل حياتنا اليومية حتى بات شريكا دائما في معظم أنشطتنا. فهو يكتب، ويترجم، ويقترح، وينصح، بل ويؤدي أدوارا لم يكن يُتصوّر من قبل أن تؤدى إلا بيد بشرية: صديق، أو طبيب، أو معالج نفسي. وكلما ازداد الاعتماد عليه، ازدادت معه الكفاءة والراحة وسرعة الإنجاز. ولكن، على الجانب الآخر من هذه المعادلة، يلوح سؤال فلسفي لا يمكن تجاهله: هل ندفع ثمن هذا التطور بتراجع قدراتنا الذهنية؟ وهل يمكن أن يكون هذا التقدم وسيلة لتحجيم ذكائنا البشري وتآكل مهاراتنا المعرفية؟ إنها مفارقة مثيرة، فالآلة التي تعزز إنتاجيتنا قد تُضعف جوهرنا.
وليست هذه المخاوف وليدة اليوم. ففي كل مرة تظهر فيها تقنية جديدة، يعود السؤال ذاته بأشكال مختلفة. لقد سبق لسقراط أن عبّر عن قلق مشابه عندما انتقد اختراع الكتابة، محذرا من أن الاعتماد عليها سيضعف الذاكرة ويفرغ العقل من قدرته على الحفظ. وفي القرن العشرين، واجهت الآلات الحاسبة ومحركات البحث الإلكترونية انتقادات شبيهة: ألن تجعلنا أقل قدرة على التذكر والحساب والاستنتاج؟ واليوم، ومع الصعود السريع والمذهل للذكاء الاصطناعي، تعود هذه التساؤلات بحِدّة أكبر: هل يؤدي تفويضنا المتزايد للآلة إلى تفريغنا من عبء التفكير والتعلم؟ أم أن في الأمر تحولا وجوديا في طبيعة الذكاء نفسه، يستدعي إعادة تعريف ما يعنيه أن تكون "ذكيا" في العصر الحديث؟
لقد أصبح الذكاء الاصطناعي جزءا لا يتجزأ من الأدوات التي نستخدمها بشكل يومي، بدءا من المساعدات الكتابية والترجمة الفورية، مرورا بالتوصيات واتخاذ القرارات، ووصولا إلى معاملته كصديق، أو طبيب نفسي، أو حتى طبيب بشري نلجأ إليه لنسأله عن بعض الأوجاع، فيجيب عن تساؤلاتنا مشفوعة بعبارة تؤكد ضرورة استشارة الطبيب.
وبفضل هذه الأدوات، نحصل على راحة وكفاءة غير مسبوقتين في إنجاز المهام المختلفة. ومع ذلك، وفي ظل هذا الاعتماد المتزايد على تقنيات الذكاء الاصطناعي، يبرز تساؤل جوهري: هل يؤدي هذا الاستخدام اليومي إلى تراجع قدراتنا الذهنية على المدى البعيد؟ وهل نحن أمام مفارقة لافتة، حيث يعزز الذكاء الاصطناعي إنتاجيتنا من جهة، لكنه في المقابل قد يضعف ذكاءنا أو بعضا من مهاراتنا المعرفية من جهة أخرى؟
يميل البعض إلى الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي حتى يفقدوا دافعهم العقلي ويقعوا في فخ الكسل الذهني
عالم النفس الأميركي هوارد غاردنر، أستاذ الإدراك والتعليم بجامعة هارفارد
ويوضح عالم النفس الأميركي هوارد غاردنر، أستاذ الإدراك والتعليم بجامعة هارفارد، في تصريح خاص لـ"المجلة" أن الذكاء الاصطناعي ليس أكثر من أداة، رغم ما يتمتع به من قوة مبهرة وإمكانات هائلة. وكأي أداة، فإنه يحمل في طياته إمكان الاستخدام البناء أو المضر. فقد يكون وسيلة لدعم تفكيرنا وتطويره، أو عقبة في طريق توليد أفكارنا الخاصة. ويرى غاردنر أن الاستخدام الحالي لهذه التكنولوجيا قد يقيد قدرات كثير من الأفراد، لا سيما في مجالي الذكاء اللغوي والمنطقي، إذ يميل البعض إلى الاعتماد المفرط عليها حتى يفقدوا دافعهم العقلي ويقعوا في فخ الكسل الذهني. لكنه في المقابل يؤكد أن في الإمكان التعامل مع هذه الأدوات بطريقة أكثر تفاعلية، من خلال محاورتها ومساءلتها ومجادلتها، وهو ما من شأنه أن يساهم في تنمية قدراتنا العقلية بدلا من إضعافها.
التفريغ المعرفي
يُعدّ مفهوم "التفريغ المعرفي" من الركائز الأساس لفهم الكيفية التي تؤثر بها التكنولوجيا على أداء عقولنا. ويشير هذا المفهوم ببساطة إلى نقل المهام الذهنية من الدماغ البشري إلى أدوات خارجية، بدلا من القيام بها ذاتيا. في حياتنا اليومية، نمارس هذا التحويل تلقائيا: حين نستخدم تطبيقا لتذكيرنا بالمواعيد، أو نلجأ إلى محرك بحث لإيجاد معلومة، فإننا بذلك نخفف العبء عن ذاكرتنا أو عن قدرتنا على اتخاذ القرار، بإيكالها إلى الجهاز.
ومع التطور المتسارع وتنوع أدوات الذكاء الاصطناعي، توسع نطاق هذا التفريغ ليشمل وظائف معرفية أكثر تعقيدا، مثل اختيار المنتجات، أو تحليل الاتجاهات، أو حتى اتخاذ قرارات حياتية صغيرة. لم يعد الأمر يقتصر على تذكير أو بحث، بل أصبحت هذه الأدوات قادرة على تقديم إجابات فورية عن كل تساؤل تقريبا، مما يقلل الحاجة إلى التروي أو المفاضلة، وقد يضعف بمرور الوقت قدرتنا على ممارسة التفكير المتأني واتخاذ القرار الواعي.
ويرى الخبراء أن التفريغ المعرفي ظاهرة مزدوجة التأثير. فمن جهة، يمكن أن يكون مفيدا، إذ يحرر أذهاننا من الأعباء البسيطة ويوفر مساحة للتركيز على التحديات الإبداعية أو المعقدة. لكن من جهة أخرى، فإن الإفراط في الاعتماد على هذه الوسائل قد يؤدي إلى تراجع في ممارسة المهارات الذهنية الأساسية، مثل التذكر، والتحليل، والتقدير الذاتي للمواقف، وهي مهارات كان العقل يدرب نفسه عليها بشكل تلقائي أثناء أداء تلك المهام.
يشير مانفريد شبينتسر، أستاذ الطب النفسي ورئيس قسمه سابقا في جامعة أولم الألمانية، وأحد أبرز المتخصصين في علم النفس العصبي، في تصريح خاص لمجلة "المجلة"، إلى أن "أهم اكتشاف في علم الأعصاب خلال الخمسين عاما الماضية هو ما يُعرف بـ'اللدونة العصبية'—أي قدرة الدماغ على التغير وإعادة تشكيل نفسه تبعا لطريقة استخدامه، تماما كما تتقوى العضلة بالتمرين. فكل ما تفعله بعقلك – سواء التفكير، أو الحب، أو الرؤية، أو التخطيط، أو التذكر، أو حتى التخيل – يُحدث تغيرات فعلية في بنية الدماغ ووظيفته".
سهولة الاستخدام قد تصبح عدوا للمسؤولية، فهي تنزع منا شجاعة التفكير الذاتي والقدرة على الوصول إلى أحكام مستقلة
غيرد غيغرنزر، أستاذ علم النفس السابق بجامعة شيكاغو
من بين المهارات الذهنية التي تثير القلق في عصر الذكاء الاصطناعي، تبرز مهارة التفكير النقدي والتحليل كواحدة من أكثر المهارات المهددة بالتراجع. فالتفكير النقدي لا يقتصر على مجرد التذكر أو اتخاذ القرار، بل يتطلب قدرة عميقة على تحليل المعلومات، تقييمها منطقيا، والتمييز بين الصحيح والمغلوط. ومع الاعتياد المتزايد على الحصول على إجابات جاهزة من أدوات الذكاء الاصطناعي، يطفو على السطح تساؤل ملحّ: هل نفقد تدريجيا قدرتنا على التفكير النقدي العميق؟
قد يضعف الاعتماد المتزايد على هذه الأدوات ملكة الشك البناء، ويقلل حماستنا لمساءلة المعطيات أو التعمق في خلفياتها. ومع مرور الوقت، هناك خطر من أن نتحول من فاعلين عقليا إلى مجرد متلقين سلبيين للمعلومة. والمثير للانتباه أن هذا التغير لا يطال الجميع بالدرجة نفسها، فالأجيال الشابة، التي نشأت وسط بيئة رقمية كثيفة، تبدو أكثر عرضة لفقدان المهارات التحليلية مقارنة بمن نشأوا في أوساط تعليمية تقليدية أقل اعتمادا على الوسائط الذكية، وهو ما قد يفسر احتفاظ كثير من كبار السن بقدر أكبر من القدرة على التحليل والتقييم المستقل.
وقد عبّر عدد من الباحثين عن قلقهم من هذا التراجع، ومن بينهم غيرد غيغرنزر، أستاذ علم النفس السابق بجامعة شيكاغو، وزميل القانون بجامعة فيرجينيا، والمدير الحالي لمركز "هاردينغ" بجامعة بوتسدام، الذي صرح لـ"المجلة" قائلا إن "سهولة الاستخدام قد تصبح عدوا للمسؤولية، فهي تنزع منا شجاعة التفكير الذاتي والقدرة على الوصول إلى أحكام مستقلة. وتبذل شركات التكنولوجيا قصارى جهدها لجعلنا كالأطفال، تسيطر على أفكارنا ومشاعرنا، ضمن استراتيجيا ربحية هدفها الأساس سلب الأفراد سيطرتهم المعرفية".
ويلعب التعليم دورا محوريا في مواجهة هذا التحدي. فكلما ارتفع مستوى التأهيل الأكاديمي، زادت القدرة على التشكيك والتفكير النقدي المنهجي، بدلا من التسليم الأعمى بكل ما تقدمه التكنولوجيا. تبرز هنا مشكلة إضافية تتعلق بالثقة الزائدة في أدوات الذكاء الاصطناعي، إذ يميل البعض إلى قبول نتائجها دون مراجعة أو تمحيص، مما يسهّل تسلل الأخطاء أو الانحيازات دون أن تُكتشف.
وردا على سؤال حول خطورة هذا الاتجاه، يؤكد غيغرنزر: "يجب أن نشعر بقلق بالغ. فالمشكلة ليست في تطور الآلات الذكية، بل في تراجع ذكاء البشر".
ولا تقتصر هذه المخاوف على التحليل النظري، بل يعبر عنها أيضا العديد من المستخدمين، ممن لاحظوا تراجعا ملموسا في قدرتهم على حل المشكلات أو التفكير المستقل دون الاستعانة بمساعدات خارجية. في المقابل، هناك من يلتزم مراجعة وتدقيق ما يُعرَض عليه، وهو ما يشير إلى أن الوعي الفردي لا يزال سلاحا مهما في مواجهة هذه التحولات.
ورغم أن العلاقة بين الإفراط في استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي وتراجع مهارات التفكير النقدي ليست حتمية أو أحادية الاتجاه، إلا أن إغفال مراقبة هذا التداخل قد يؤدي إلى ضمور واحدة من أهم القدرات التي تميز الإنسان: التفكير الواعي والمستقل.
الذاكرة والانتباه
إلى جانب التأثير الواضح على التفكير النقدي، تتعرض الذاكرة البشرية بدورها لضغوط متزايدة مع تصاعد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي. فقد بات يُنظر إلى الإنترنت وأدوات الذكاء الاصطناعي باعتبارها "ذاكرة خارجية" نلجأ إليها متى شئنا، مما قلل حاجتنا – بل دافعنا – لتخزين المعلومات في ذاكرتنا الطويلة الأمد. فعندما نعلم أن المعلومة متاحة على بعد نقرة واحدة، فإننا نميل إلى عدم الاحتفاظ بها، وهو ما يؤدي إلى تسارع وتيرة النسيان، لأننا ببساطة لم نعد نمارس عملية الاسترجاع الذهني، بل نكتفي بمعرفة كيفية الوصول إلى المعلومة وقت الحاجة.
ولا تقف التأثيرات عند حدود الذاكرة، بل تمتد إلى الانتباه والتركيز، وهما من المهارات المعرفية الأساس التي تتأثر سلبا في ظل البيئة الرقمية المتسارعة. ورغم أن هذه الظاهرة غالبا ما تُربَط بمواقع التواصل الاجتماعي والمحتوى القصير، إلا أن أدوات الذكاء الاصطناعي تشارك فيها أيضا. فالحصول الفوري على إجابات قد يضعف قدرتنا على التريث والبحث والتقصي، ويغذي فينا نزعة نحو الحلول السريعة، مما يقلل قدرتنا على التركيز لفترات ممتدة أو الانخراط العميق في التفكير المتأني.
وفي هذا السياق، يلفت البروفسور مانفريد شبينتسر النظر إلى أن التأثيرات المعرفية لا تتوقف عند حدود الذاكرة أو الانتباه، بل تطال طيفا واسعا من القدرات العقلية والعاطفية. فهو يرى أن هناك تدهورا مقلقا في وظائف ذهنية عدة مثل التعلم، والتحكم التنفيذي، وضبط العواطف، إلى جانب تراجع واضح في المهارات الاجتماعية، كالتعاطف، وتبنّي وجهات نظر الآخرين، والقدرة على الانخراط العاطفي الحقيقي.
أما في ما يتعلق بالإبداع البشري، فقد يبدو في الظاهر أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي يقيّد الخيال، خاصة في ظل قدرة هذه الأدوات على إنتاج الأفكار، والصور، والموسيقى، وحتى النصوص، بشكل شبه تلقائي. وهذا يدفع إلى التساؤل: ما الذي يتبقى من الإبداع البشري إذا كانت الآلة قادرة على توليد كل شيء؟ إلا أن الواقع أكثر تعقيدا من هذا الطرح المبسط. فالأثر الإبداعي للذكاء الاصطناعي ليس أحادي الاتجاه، بل يعتمد بشكل كبير على طريقة استخدامه. فقد يكون عائقا إذا حل محل الخيال، لكنه قد يصبح محفزا للإبداع إذا استُخدم كأداة توسع المدارك وتثير الأسئلة وتلهم الأفكار الجديدة.
لا يمكن الأنظمة التعليمية – ولا المعلّمين الذين يشكلونها – أن يعملوا بفعالية مع الذكاء الاصطناعي إلا إذا فهموا قدرات هذه الأنظمة وحدودها في آن واحد.
عالم النفس الأميركي هوارد غاردنر، أستاذ الإدراك والتعليم بجامعة هارفارد
فمن جهة، يمكن أدوات الذكاء الاصطناعي أن تلعب دور المساعد الإبداعي، من خلال إلهام المستخدم بأفكار جديدة والمساهمة في إثراء عملية العصف الذهني. فعلى سبيل المثل، كشفت دراسة أجرتها جامعة كلية لندن أن من استعانوا بمقترحات الذكاء الاصطناعي تمكنوا من تحقيق قفزات إبداعية ملحوظة في كتاباتهم. وقد ساهمت هذه الاقتراحات الذكية في رفع جودة القصص التي كتبها أشخاص ذوو إبداع منخفض، لتصبح بمستوى مماثل لإنتاج أصحاب الإبداع الأعلى، مما يشير إلى قدرة الذكاء الاصطناعي على تقليص الفجوة بين مستويات الأداء الإبداعي.
لكن، في المقابل، هناك وجه سلبي محتمل لهذا التأثير لا بد من التنبه له، ويتمثل في خطر فقدان التفرد وتراجع الابتكار الجماعي. فمثلا، إذا تبنّى قطاع النشر نهجا يشجع على اعتماد القصص المولدة عبر الذكاء الاصطناعي، أو إذا امتد هذا النهج إلى مجالات أخرى مثل الإنتاج الفني، والرسم، والتصميم، والهندسة، وغيرها من الصناعات الإبداعية، فقد نشهد بمرور الوقت قدرا أقل من التنوع والاختلاف بين الأعمال، مما قد يضعف الطابع الفريد والمميز الذي يميز الإبداع البشري عن الناتج الآلي.
الأجيال الناشئة
من بين جميع الفئات العمرية، تبدو الأجيال الناشئة اليوم الأكثر تأثرا بالتحول الجاري في التوازن بين الذكاء الاصطناعي والقدرات البشرية. فهؤلاء "المواطنون الرقميون"، الذين وُلدوا ونشأوا في عالم تسوده الهواتف الذكية والمساعدات الصوتية، سيكونون أول من يخوض تجربة التعليم والعمل جنبا إلى جنب مع أدوات الذكاء الاصطناعي منذ اللحظات الأولى في حياتهم الدراسية.
هذا الواقع يثير قلقا متناميا بين التربويين وعلماء النفس، الذين يتساءلون: كيف سيؤثر الحضور المستمر للتقنيات الذكية على تطور المهارات الذهنية الأساسية لدى الأطفال والشباب؟ وهل يمكن هذه الأدوات أن تثري العملية التعليمية دون أن تُضعف أسسها الفكرية ومهاراتها الجوهرية؟
في هذا السياق، يؤكد عالم النفس الأميركي غاردنر أن نجاح الأنظمة التعليمية في التكيف مع الذكاء الاصطناعي مرهون بفهم عميق لإمكانات هذه الأدوات وحدودها في آنٍ واحد، قائلا لـ"المجلة" "لا يمكن الأنظمة التعليمية – ولا المعلّمين الذين يشكلونها – أن يعملوا بفعالية مع الذكاء الاصطناعي ما لم يفهموا قدراته وحدوده معا"، فإذا استخدمت مثلًا (تشات جي بي تي) للحصول على شرح لحقبة تاريخية دون تفكير أو تحليل، فذلك يفرغ التعلم من معناه. أما إذا طرحت سلسلة من الأسئلة على أكثر من أداة لغوية، ثم قيّمت واختبرت أوجه القوة والقصور في كل إجابة، فهنا يتحقق تعلم فعلي ومعزز بالتحليل.
وعلى الجانب الإيجابي، يمكن الذكاء الاصطناعي أن يقدم أدوات تعليمية متقدمة تتكيف مع احتياجات كل طالب على حدة، مما يجعل عملية التعلم أكثر تخصيصا وفعالية. إلا أن هذا لا يخفي المخاوف المتزايدة من أن تؤدي الراحة الزائدة التي تتيحها هذه التقنيات إلى إضعاف بعض المهارات الجوهرية لدى الطلاب، مثل التعبير الكتابي، والتحليل النقدي، وحل المشكلات.
تظهر الصورة الملتقطة في 2 يناير 2025 الأحرف AI للذكاء الاصطناعي على شاشة كومبيوتر محمول بجوار شعار تطبيق Chat AI على شاشة هاتف ذكي في فرانكفورت أم ماين، غرب ألمانيا.
فإذا اعتاد الطالب على توليد الإجابات بضغطة زر عبر أدوات الذكاء الاصطناعي، فقد يفقد تدريجيا مهارات الكتابة والتفكير البناء. وإذا اكتفى بالملخصات الآلية بديلا من قراءة النصوص الأصلية، فقد لا يطور قدرته على القراءة التحليلية أو الفهم العميق. من هنا، يشدد خبراء التربية على ضرورة توجيه استخدام الذكاء الاصطناعي في التعليم، بحيث يظل أداة داعمة لا بديلا من الجهد الذهني والتدريب المعرفي.
وفي خضم هذه المخاوف المرتبطة بتأثير التكنولوجيا على الأجيال الناشئة، يحذّر البروفسور مانفريد شبينتسر من التأثير العميق للبيئة الرقمية على أدمغة الأطفال في طور النمو، ويقول: "ينبغي أن نشعر بالقلق تجاه الجيل القادم، الذي يقضي ما يصل إلى عشر ساعات يوميا على منصات تملكها شركات عملاقة لا تهتم بصحة أطفالنا أو تعليمهم، بل تهدف إلى تحقيق الأرباح. وإذا كانت اللدونة العصبية حقيقة مثبتة، فإن الهواتف الذكية – والذكاء الاصطناعي على وجه الخصوص – تعمل على الدماغ كما تعمل السيارات والمصاعد والسلالم المتحركة على العضلات: تسهّل الاستخدام، لكنها تضعف الأداء إذا تم الاعتماد عليها كليا".
نحو استخدام رشيد
لا شك أن الذكاء الاصطناعي قد جلب للبشرية فوائد عظيمة خلال السنوات الأخيرة، من أبرزها التقدم الكبير في المجال الطبي، حيث ساعد في تشخيص الأمراض المستعصية في مراحل مبكرة، وساهم في تسريع تطوير الأدوية، وتحسين طرق علاج الأمراض. ومن ثم، فإن القضية لا تتعلق برفض هذه التكنولوجيا أو بالدعوة إلى العودة الى الوراء، بل تكمن في كيفية الحفاظ على توازن صحي بين الاعتماد على هذه الأدوات وتنمية قدراتنا العقلية الذاتية.
ففي هذا السياق، يشير بعض الدراسات إلى أن الاستخدام المعتدل والمدروس للذكاء الاصطناعي قد لا يتسبب بضرر يُذكر للقدرات الذهنية، بل وقد يحمل آثارا معرفية إيجابية أيضا. فحتى الدراسات التي أظهرت ارتباطا بين كثافة الاستخدام وضعف التفكير النقدي، أوضحت في الوقت ذاته أن الاستخدام المتزن لم يكن له تأثير سلبي واضح.
لذلك، فإن التوازن والوعي يشكلان جوهر التعامل الذكي مع هذه المرحلة. فعلى المستوى الفردي، لا بد أن نظل يقظين لدورنا الفعال في العملية الفكرية، وألا نسمح للأتمتة الكاملة بأن تسلبنا متعة التفكير ومهاراته. أما على المستوى المجتمعي، فثمة حاجة ملحة لنشر ثقافة الاستخدام الرشيد للتكنولوجيا، بحيث يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي كوسيلة لتعظيم قدرات العقل البشري، لا كبديل منه.
وبهذا الفهم، نستطيع أن نطوع هذا التطور التقني لصالحنا، دون أن ندفع ثمنا فادحا من تلك القدرات الذهنية التي راكمناها عبر التاريخ، والتي تمثل جوهر إنسانيتنا ومفتاح استمرارنا في الإبداع والتفكير الحر، فالذكاء ليس فقط ما تصنعه الآلات، بل ما نختار نحن أن نفعله بها.