خاسرون ورابحون في عصر محركات البحث التوليدية

AP Photo/Jeff Chiu
AP Photo/Jeff Chiu
سوندار بيتشاي، الرئيس التنفيذي لشركة "ألفابت"، يلوّح بيده بعد إلقائه كلمة في مؤتمر "غوغل" للمطورين (Google I/O) في ماونتن فيو، كاليفورنيا

خاسرون ورابحون في عصر محركات البحث التوليدية

منذ اللحظة التي وُصل فيها أول حاسوب بشبكة الإنترنت قبل عقود، بدأت علاقة جديدة بين البشر والمعلومة، علاقة سرعان ما تجاوزت حدود الحسابات التقنية لتصبح ثورة ثقافية واجتماعية غيّرت طريقة تفكير الناس وتواصلهم وفهمهم للعالم.

لم يكن الإنترنت مجرد أداة تقنية، إذ كان وعدا بالتحرر من القيود الجغرافية، وبناء مجتمع عالمي منفتح، تتدفق فيه الأفكار بحرية وتتقاطع فيه الأصوات من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. وقتذاك، كان الأمل أن يتحول الإنترنت إلى مكتبة بشرية عملاقة، وفضاء للديمقراطية والمعرفة والمشاركة، لا يحكمه أحد ولا يتحكم فيه مركز واحد.

في بداياته، كان الإنترنت بسيطا، أقرب إلى مشروع أكاديمي منه إلى أداة جماهيرية. كانت المواقع يديرها غالبا أفراد أو مجموعات صغيرة، ويعكس المحتوى التنوع والفردية أكثر مما يعكس الاحترافية أو الربح. ثم جاءت حقبة محركات البحث، وفي مقدمها "غوغل"، لتبدأ مرحلة التنظيم والوصول السريع. أصبح في إمكان أي شخص أن يسأل، ويجد الجواب خلال ثوانٍ. هنا بدأت علاقة الاعتماد، ثم الاعتياد، ثم التبعية.

ومع دخول مواقع التواصل الاجتماعي المشهد، تحولت العلاقة من بحث عن المعلومة إلى مشاركة للذات. صار الإنترنت مرآة للهوية، ومنصة لبناء العلاقات، وملعبا للرأي العام. لكن هذا التحول لم يأتِ بلا ثمن. فكلما ازداد اندماج الإنسان مع الشبكة، تضاءلت قدرته على فصل ذاته عن خوارزميات التوجيه والتفضيل والتأثير. لم تعد المعلومة تُطلب، بل تُعرض وتُقترح وتُفرض أحيانا، في سباق محموم لجذب الانتباه وتحقيق الأرباح.

اليوم، ومع دخول الذكاء الاصطناعي على الخط، يبدو أن العلاقة بين البشر والإنترنت تقف أمام تحول ثالث – أخطر وربما أفضل من الذي سبقه. لم يعد السؤال "أين أبحث عن المعلومة؟"، بل "هل ما يُقدّم لي هو المعلومة، أم نسخة مفصلة على مقاسي؟".

فالذكاء الاصطناعي لا يعرض العالم كما هو، بل كما نظن أننا نريده أن يكون. في هذا السياق، تصبح العلاقة بين الإنسان والإنترنت أشبه بعلاقة بين متحدث ومجيب فائق الذكاء، لا يكتفي بإجابتك، بل يعيد تشكيل تصورك للحقيقة من الأساس.

وفي لحظة تكاد تختصر التحول الكبير في علاقة البشر مع الإنترنت، أعلنت "غوغل" مرحلة جديدة من إعادة تشكيل محرك بحثها عبر الذكاء الاصطناعي، لتفتح صفحة جديدة من التاريخ الرقمي قد لا تعود فيها الروابط التقليدية والزيارات إلى المواقع المستقلة هي محور التجربة المعلوماتية. فالعملاق التكنولوجي لم يعد يخفي نياته، إذ قال إن البحث لم يعد مجرد كتابة كلمات مفتاحية، بل تحول إلى محادثة مع "خبير رقمي"، لا ينام ولا يتوقف عن التعلم.

صراع العمالقة

قبل شهور من تلك الخطوة، بدأت علاقة "غوغل" التاريخية مع "آبل"، التي كانت تدر عشرات المليارات سنويا، تدخل مرحلة توتر غير مسبوقة، على وقع صعود نجم أدوات البحث القائمة على الذكاء الاصطناعي. تقارير وتقارير مضادة، وتصريحات في المحاكم، وصفقات قيد المراجع تشير إلى أن التحالف الذي لطالما منح "غوغل" موقعا احتكاريا في متصفح "سفاري" الخاص بشركة "آبل" بات على وشك أن يتفكك أو يعاد تشكيله من الجذور.

امتلاك واجهة الوصول إلى المعلومة يعني امتلاك الباب إلى عقل المستخدم وسلوكياته ورغباته المستقبلية—وذلك هو الذهب الحقيقي في عصر البيانات


فما كشفته شهادة إيدي كيو، نائب رئيس خدمات "آبل"، أمام المحكمة في قضية الاحتكار ضد "غوغل"، لم يكن مجرد إقرار بتراجع استخدام محرك البحث التقليدي، بل كان إشارة إلى تغيّر جوهري في فلسفة "آبل" حول مستقبل البحث ذاته.

فبحسب كيو، بات المستخدمون ينحازون الى أدوات الذكاء الاصطناعي لأنها لا تقدم فقط إجابات، بل تقدم تجربة أكثر قربا للعقل البشري، أكثر تكيفا مع احتياجاتهم، وأكثر انسيابية في التفاعل. بمعنى آخر، البحث لم يعد مجرد البحث عن روابط، بل عن حوار معرفي.

في ذلك الوقت، اتضحت معالم أزمة "غوغل"، فصعود أدوات البحث المدعومة بالذكاء الاصطناعي يأتي في لحظة حساسة للشركة التي تواجه دعوى احتكار قد تقلص صفقات الإعداد الافتراضي لمحركها، أو حتى تغيير طريقة عرض نتائج البحث والإعلانات.

ويبدو أن "آبل" تقرأ هذا التحول جيدا، وتحضّر نفسها لسيناريو جديد يقلص تبعيتها لـ"غوغل" ويعيد تعريف أولوياتها الاستراتيجية.

المثير أن كيو لم يستبعد أن يصبح البحث المعتمد على الذكاء الاصطناعي هو الشكل الأساس للبحث في المستقبل، حتى لو لم يكن الخيار الافتراضي في البداية. وتأكيده أن هذه الأدوات "بحاجة إلى تحسين فهارسها" يعكس إدراكا واقعيا للتحديات التقنية، لكنه لا ينفي أن القيمة المضافة التي تقدمها من حيث الفهم السياقي والتخصيص تغري المستخدمين بالتحول إليها، خاصة مع نمو الدعم المالي والسياسي والتجاري الذي تحظى به هذه الشركات الناشئة.

صفقة "غوغل" و"آبل"، التي تبلغ قيمتها نحو 20 مليار دولار سنويا، والتي جعلت محرك البحث الافتراضي على أجهزة "آبل" هو "غوغل" لسنوات طويلة، باتت وقتها في مهب الريح. فصحيح أن الطرفين سيخسران ماليا لو ألغيت، إلا أن "آبل" تدرك أن الاحتفاظ بالسيادة على تجربة البحث قد يكون أثمن من حصة الأرباح.

AP Photo/Jeff Chiu
سوندار بيتشاي، الرئيس التنفيذي لشركة "ألفابت" يتحدث في مؤتمر "غوغل" للمطورين (Google I/O) في ماونتن فيو، كاليفورنيا

فامتلاك واجهة الوصول إلى المعلومة يعني امتلاك الباب إلى عقل المستخدم وسلوكياته ورغباته المستقبلية—وذلك هو الذهب الحقيقي في عصر البيانات.

إلا أن كل شيء تغير حين صعد رئيس "غوغل" التنفيذي سوندار بيتشاي إلى مسرح مؤتمر المطورين ليعلن نهاية عهد وبداية آخر. فالبحث كما نعرفه يتغير، وللمرة الاولى منذ انطلاق "غوغل" قبل ربع قرن، لا يعود محرك البحث هو البوابة التقليدية التي تربط المستخدم بموقع إلكتروني، بل منصة ذكاء اصطناعي تتولى الإجابة نيابة عنه.

وبينما تصفق "وول ستريت" لهذا التحوّل الذي يرفع معدلات التفاعل ويبقي المستخدم داخل "غوغل"، يشعر محترفو تحسين محركات البحث أن الأرض بدأت تهتز تحت أقدامهم. فما يسمى بـ"وضع الذكاء الاصطناعي" أصبح الآن متاحا لملايين المستخدمين، ويتصدر واجهة نتائج البحث قبل حتى تبويب "الكل".

ورغم بساطة الفكرة، إلا أن تأثيرها زلزالي. فبدل أن يكتب المستخدم سؤاله ويقدم إليه روابط، يتلقى إجابة كاملة، مصوغة بلغة بشرية، مستندة إلى مصادر "غوغل"، أحيانا مع روابط، وغالبا بدون، وهذه الإجابة تأتي من نموذج ذكاء اصطناعي مثل "جيميني"، وليس من موقعك، ولا من مدونتك، ولا من صفحة منتجك.

بات المستخدم يكتفي بـ"الملخصات الذكية" التي يقدمها الذكاء الاصطناعي، ولا يجد حاجة للذهاب إلى المواقع الأصلية


المشكلة هنا ليست فقط في المحتوى، بل في انقطاع التدفق العضوي للزيارات. تؤكد دراسات عدة أن الزيارات المقبلة من البحث انخفضت مع هذه الميزات الجديدة. والأسوأ؟ لا يمكنك تتبع ذلك في منصات "غوغل" المتخصصة بتقديم بيانات الزيارات، وبالتالي لن يعرف المستخدم كم من الزوار خسر.

الخطوة الأبرز هي طرح "وضع الذكاء الاصطناعي" لجميع المستخدمين في الولايات المتحدة، بعد أقل من ثلاثة أشهر على تجريبه عبر جمهور محدود ضمن مختبراتها. في الظاهر، يقدم هذا الوضع تجربة محادثة طبيعية وسلسة، لكن في الجوهر، هو إعادة هيكلة لطريقة وصولنا إلى المعلومة، قد تعني فعليا بداية أفول المواقع الإلكترونية كمصادر مستقلة للمعرفة.

ولم تكتف "غوغل" بهذا الحد. فهي تضخ نموذجها اللغوي الأحدث "جيميني 2.5" في صميم خوارزميات البحث، وتبدأ تجارب طموحة تشمل استخدام الفيديو المباشر في البحث، وإتاحة قدرات للذكاء الاصطناعي لشراء تذاكر الحفلات أو حجز المطاعم بشكل تلقائي.

كل ذلك يتم توظيفه تحت شعار تقديم تجربة أكثر شخصية وسلاسة، لكن من زاوية أخرى، يمكن النظر إليه كتعزيز غير مسبوق لقدرة "غوغل" على السيطرة على سلوك المستخدم، من خلال أدوات أكثر اختراقا لحياته الرقمية واليومية.

الجدير بالملاحظة أن "غوغل" اختارت هذه اللحظة لتعود إلى حلمها القديم، النظارات الذكية. بعد 13 عاما من تجربة "غوغل غلاس" الفاشلة، ها هي تطلق معاينة لنظارات تعمل على نظام "أندرويد أكس أر" المزودة كاميرا بدون استخدام اليدين ومساعد رقمي مدمج.

AP Photo/Jeff Chiu
شهرام إيزادي، مسؤول منصة ومنتجات "أندرويد أكس أر"، يلقي كلمة في مؤتمر "غوغل" للمطورين (Google I/O) في ماونتن فيو، كاليفورنيا

ولم يصمم عملاق التكنولوجيا الأميركي بتصميم تلك النظارة بمفرده، إذ قام بعمل مجموعة من الشراكات مع علامات تجارية مثل "جينتل مونستر" و"واربي باركر" وهو ما يعكس إدراكا لأهمية المظهر والشكل، لكن السؤال الأهم هو: هل سيتقبل المستخدمون هذه المرة فكرة جهاز يسجل ويتفاعل معهم بشكل دائم؟

ورغم كل هذا الزخم، تكشف الأرقام وجها آخر للقصة. وفقا لشركة "برايت أيدج" المتخصصة في تحسين محركات البحث، فمعدلات النقر على نتائج البحث انخفضت بنسبة تقارب 30% خلال العام الماضي. السبب؟ ببساطة، بات المستخدم يكتفي بـ"الملخصات الذكية" التي يقدمها الذكاء الاصطناعي، ولا يجد حاجة للذهاب إلى المواقع الأصلية.

وهذا يعني أن "غوغل"، من خلال تعزيز أدوات الذكاء الاصطناعي، بدأت تدريجيا في خنق النظام البيئي الرقمي الذي نشأ حولها لعقود، حيث كانت المواقع تعتمد على حركة المرور القادمة من محرك البحث كمصدر أساس للحياة.

وعلى الرغم من أن "غوغل" تزعم أن هذه الأدوات ستحفز مزيدا من البحث وتدفقا أكبر نحو المواقع الأخرى، إلا أن الواقع يشير إلى العكس، إذ يبدو أن "غوغل" تبني جدارا رقميا حول مستخدميها، تعزلهم فيه داخل منظومتها الخاصة من المعرفة والتفاعلات، دون حاجة للخروج منها.

ولا يخلو هذا الأمر من بعد سياسي وقانوني. إذ تواجه "غوغل" دعاوى قضائية تتهمها بالاحتكار، خاصة بعد أن وصف قاضٍ فيديرالي محرك البحث بأنه "احتكار غير قانوني" وهو ما دعا الشركة الى تبرير أن ظهور بدائل مثل "شات جي بي تي" و"بيربلكسيتي" وازدياد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي يغير قواعد اللعبة، مما يعني أن السوق أصبح تنافسيا بما فيه الكفاية دون الحاجة إلى تفكيكها.

الرهان الجديد أمام المتخصصين في تحسين الظهور في نتائج البحث لم يعد كيف تظهر في النتيجة الأولى، بل كيف تجعل "غوغل" يذكرك في إجابته الآلية

لكن من المفارقات أن أدوات غوغل نفسها تعترف ضمنيا بهذه الهيمنة. حين سأل أحد الصحافيين من وكالة "أسوشييتد برس" ميزة "وضع الذكاء الاصطناعي" عما إذا كانت ستزيد قوة الشركة، جاء الرد: نعم، من المرجح أن يجعل "غوغل" أكثر قوة، خاصة في مجال الوصول إلى المعلومات والتأثير الرقمي، فالذكاء الاصطناعي ذاته يحذر من أن الناشرين يجب أن يشعروا بالقلق من تراجع حركة المرور نتيجة هذا التغيير.

تأتي هذه القفزة الرقمية أيضا مع إطلاق باقات اشتراك جديدة، أبرزها "ألترا" بسعر 250 دولارا شهريا، تقدم سعة تخزين تصل إلى 30 تيرابايت، وتفتح الباب لاستخدام أكثر شمولا لتقنيات الذكاء الاصطناعي، ومقارنة بباقتها السابقة "AI Pro" التي تكلف 20 دولارا فقط، يبدو أن "غوغل" تراهن الآن على طبقة جديدة من المستخدمين – ربما الشركات والمبدعين والمحللين – المستعدين للدفع مقابل الوصول إلى الأدوات الأذكى والأكثر تطورا.

من جهة، تبرر "غوغل" التحول بأنه استجابة للواقع. فالمستخدمون، خصوصا الجيل الأصغر، يذهبون إلى "تيك توك" أو إلى "شات جي بي تي" للحصول على إجابات مباشرة. فهل يتوقع من "غوغل" التمسك بالنموذج القديم؟

فـ"غوغل" تريد البقاء في موقع القيادة، وإرضاء المستخدم، لأن المستخدم السعيد يعني إعلانات أكثر، وإيرادات أكبر. وفعلا، تقول الشركة إن إدماج الذكاء الاصطناعي زاد عدد استعلامات البحث بنسبة 10%. من وجهة نظر "غوغل"، التجربة تنجح.

لكن من وجهة نظر أصحاب المواقع والشركات الصغيرة؟ تغيرت المعادلة تماما.

الرهان الجديد أمام المتخصصين في تحسين الظهور في نتائج البحث، لم يعد كيف تظهر في النتيجة الأولى، بل كيف تجعل "غوغل" يذكرك بإجابته الآلية. الأمر يشبه العلاقات العامة أكثر مما يشبه الكتابة التقنية. اسمك يجب أن يكون مرادفا للموضوع الذي تبحث فيه. إذا أجاب وضع الذكاء الاصطناعي عن سؤال أفضل الكاميرات وذكر "سوني" و"كانون"، فقد انتهى الأمر: الزائر لن ينقر لرؤية مقارنات أخرى، بل ربما يشتري مباشرة بناء على ما قرأه.

وهذا يقودنا إلى المفهوم الأخطر، ما يُعرف باسم التكاملات الوكيلة. ففي المستقبل، قد يوصي "غوغل" مباشرة بخدمة أو منتج ويُتِم عملية الشراء داخل تجربة الذكاء الاصطناعي، دون الحاجة إلى مغادرة صفحة البحث. فهل سيتم اختيار متجرك الصغير لهذا التكامل؟ أم ستذهب "غوغل"، كما نتوقع، إلى العلامات الكبرى مثل "أمازون"، "ديزني"، أو "بوكينغ"؟ في بيئة كهذه، من سيبقى له موطئ قدم؟

نقطة تحول

يمثل التحول من تحسين محركات البحث إلى تحسين المحركات التوليدية نقطة تحول جذرية في كيفية اكتشاف المحتوى وتفاعل المستخدمين معه.

فلطالما اعتمدت صناعة التسويق الرقمي لعقود على قواعد اللعبة التي وضعتها محركات البحث التقليدية، حيث كانت الروابط الخلفية، وكثافة الكلمات المفتاحية، وهيكلة المحتوى هي العوامل الحاسمة للظهور في الصفحات الأولى.

قد يخلق هذا التحول فرصة لظهور لاعبين جدد يحتلون مركز الصدارة في صناعة التسويق الرقمي


لكن مع صعود نماذج اللغة الكبيرة مثل "شات جي بي تي"، لم يعد الترتيب في قائمة النتائج هو الهدف الوحيد، بل أصبحت القدرة على أن تكون جزءا من الإجابة المباشرة التي يقدمها الذكاء الاصطناعي هي المعيار الجديد للنجاح.

هذا التحول ليس تقنيا فحسب، هو تحول في الفلسفة ذاتها. فمحركات البحث القديمة كانت تعمل كفهارس ضخمة، بينما النماذج التوليدية تعمل كشركاء في الحوار، قادرة على تذكر الأسئلة السابقة، وتحليل السياق، وتقديم إجابات مخصصة تجمع المعلومات من مصادر متعددة. هذا يعني أن طبيعة الاستعلامات تغيرت: لم تعد استفسارات مختصرة، بل أصبحت أسئلة مطولة وتحاورية، مما يفرض على المسوقين إعادة النظر في كيفية هيكلة المحتوى ليكون سهل الاستيعاب من قبل الآلة، ليس عبر تكديس الكلمات المفتاحية، بل عبر الوضوح، التنظيم المنطقي، وكثافة المعنى.

AP Photo/Jeff Chiu
مايكل ماكلولين، من El Confidencial، يقدم عرضا توضيحيا لجهاز "جيميني" على نظارات Android XR في مؤتمر "غوغل" للمطورين (Google I/O) في ماونتن فيو، كاليفورنيا

الجانب الأكثر إثارة للقلق في هذا التحول، هو التغير في الحوافز الاقتصادية. بينما كانت عائدات "غوغل" تعتمد على الإعلانات والبيانات، فإن الكثير من منصات الذكاء الاصطناعي تعتمد على الاشتراكات المدفوعة، وهذا يقلل الحافز لترويج المحتوى الخارجي، ما لم يكن ذلك يعزز قيمة المنتج للعميل.

وهنا، يصبح "معدل الإشارة" هو المقياس الجديد للنجاح. فكم مرة يتم ذكر علامتك التجارية أو محتواك في إجابات النموذج؟ هذه الديناميكية تخلق سوقا جديدة لأدوات مثل "بروفاوند" و"جودي" التي تتيح للعلامات التجارية تتبع ظهورها في نواتج الذكاء الاصطناعي، بل والتأثير عليها عبر تحسين كيفية ترميز المعلومات في طبقة الذكاء الاصطناعي نفسها.

لكن التحديات لا تخلو من المفارقات. فكما كانت تحديثات خوارزميات "غوغل" تتسبب باضطرابات كبيرة في ترتيب النتائج، فإن التحديثات في نماذج اللغة قد تغير فجأة كيفية استشهاد النماذج بالمصادر.

أصبحت بعض التكتيكات واضحة، مثل أهمية الظهور في الوثائق التي تستند إليها النماذج، لكن أمورا أخرى — مثل تفضيل المحتوى الصحافي على وسائل التواصل الاجتماعي — تظل مجالا للتخمين.

بالإضافة إلى ذلك، فإن انقسام البيئة بين منصات متعددة -مثل "إنستغرام"، "أمازون"، "سيري"- يعني أن استراتيجيا المحركات التوليدية يجب أن تكون متعددة الأبعاد، مع تكييف المحتوى حسب السياق والجمهور والغرض.

وقد يخلق هذا التحول فرصة لظهور لاعبين جدد يحتلون مركز الصدارة في صناعة التسويق الرقمي. بينما كانت أدوات تحسين محركات البحث مثل "سي مورش" ناجحة لكنها متفرقة، فإن طبيعة المحركات التوليدية المركزية القائمة على واجهات برمجة التطبيقات قد تسمح بظهور منصة مهيمنة تتحكم في الطبقة بين العلامات التجارية ونماذج الذكاء الاصطناعي.

فهذه المنصة لن تقتصر على التحليل، بل قد تقدم أدوات حية لتحسين المحتوى في الوقت الفعلي، وإدارة الحملات بناء على سلوك النماذج، بل وحتى تعديل الاستراتيجيات يوميا. هنا، تصبح المحركات التوليدية ليس مجرد أداة لتحسين الظهور، بل نظاما أساسيا لإدارة العلاقة بين العلامة التجارية والذكاء الاصطناعي ككل.

لكن هل هذا التحول سيؤدي إلى تحسين تجربة المستخدم حقا؟ من ناحية، فإن الإجابات الفورية والمخصصة التي تؤمنها النماذج التوليدية توفر وقتا وجهدا كبيرين. لكن من ناحية أخرى، فإن تقليل الاعتماد على الروابط الخارجية قد يحد من اكتشاف المحتوى العضوي، ويُبقي المستخدمين داخل "حدائق مسورة" للذكاء الاصطناعي، حيث يتم التحكم بالمعلومات بشكل مركزي. كما أن اعتماد النماذج على مصادر محددة قد يعزز تحيزات معينة أو يهمش وجهات نظر أخرى.

الانتقال من محركات البحث التقليدية إلى المحركات التوليدية ليس مجرد تغيير في الأدوات، بل هو تحول في علاقة البشر بالأنترنت. فالعلامات التجارية التي تفهم كيفية "التحدث" بلغة النماذج، وتستثمر في البنية التحتية لمراقبة وتعديل وجودها في هذه الطبقة الجديدة، ستكون هي الرابحة.

لكن هذا الانتقال يطرح أسئلة أخلاقية حول الشفافية، والتحكم بالمعلومات، ومستقبل الإنترنت كفضاء مفتوح. بينما يتكيف المسوقون مع هذا العالم الجديد، فإن التوازن بين التحسين والاستدامة، وبين الذكاء الاصطناعي والتنوع، سيكون هو التحدي الحقيقي.

font change