منذ اللحظة التي وُصل فيها أول حاسوب بشبكة الإنترنت قبل عقود، بدأت علاقة جديدة بين البشر والمعلومة، علاقة سرعان ما تجاوزت حدود الحسابات التقنية لتصبح ثورة ثقافية واجتماعية غيّرت طريقة تفكير الناس وتواصلهم وفهمهم للعالم.
لم يكن الإنترنت مجرد أداة تقنية، إذ كان وعدا بالتحرر من القيود الجغرافية، وبناء مجتمع عالمي منفتح، تتدفق فيه الأفكار بحرية وتتقاطع فيه الأصوات من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. وقتذاك، كان الأمل أن يتحول الإنترنت إلى مكتبة بشرية عملاقة، وفضاء للديمقراطية والمعرفة والمشاركة، لا يحكمه أحد ولا يتحكم فيه مركز واحد.
في بداياته، كان الإنترنت بسيطا، أقرب إلى مشروع أكاديمي منه إلى أداة جماهيرية. كانت المواقع يديرها غالبا أفراد أو مجموعات صغيرة، ويعكس المحتوى التنوع والفردية أكثر مما يعكس الاحترافية أو الربح. ثم جاءت حقبة محركات البحث، وفي مقدمها "غوغل"، لتبدأ مرحلة التنظيم والوصول السريع. أصبح في إمكان أي شخص أن يسأل، ويجد الجواب خلال ثوانٍ. هنا بدأت علاقة الاعتماد، ثم الاعتياد، ثم التبعية.
ومع دخول مواقع التواصل الاجتماعي المشهد، تحولت العلاقة من بحث عن المعلومة إلى مشاركة للذات. صار الإنترنت مرآة للهوية، ومنصة لبناء العلاقات، وملعبا للرأي العام. لكن هذا التحول لم يأتِ بلا ثمن. فكلما ازداد اندماج الإنسان مع الشبكة، تضاءلت قدرته على فصل ذاته عن خوارزميات التوجيه والتفضيل والتأثير. لم تعد المعلومة تُطلب، بل تُعرض وتُقترح وتُفرض أحيانا، في سباق محموم لجذب الانتباه وتحقيق الأرباح.
اليوم، ومع دخول الذكاء الاصطناعي على الخط، يبدو أن العلاقة بين البشر والإنترنت تقف أمام تحول ثالث – أخطر وربما أفضل من الذي سبقه. لم يعد السؤال "أين أبحث عن المعلومة؟"، بل "هل ما يُقدّم لي هو المعلومة، أم نسخة مفصلة على مقاسي؟".
فالذكاء الاصطناعي لا يعرض العالم كما هو، بل كما نظن أننا نريده أن يكون. في هذا السياق، تصبح العلاقة بين الإنسان والإنترنت أشبه بعلاقة بين متحدث ومجيب فائق الذكاء، لا يكتفي بإجابتك، بل يعيد تشكيل تصورك للحقيقة من الأساس.
وفي لحظة تكاد تختصر التحول الكبير في علاقة البشر مع الإنترنت، أعلنت "غوغل" مرحلة جديدة من إعادة تشكيل محرك بحثها عبر الذكاء الاصطناعي، لتفتح صفحة جديدة من التاريخ الرقمي قد لا تعود فيها الروابط التقليدية والزيارات إلى المواقع المستقلة هي محور التجربة المعلوماتية. فالعملاق التكنولوجي لم يعد يخفي نياته، إذ قال إن البحث لم يعد مجرد كتابة كلمات مفتاحية، بل تحول إلى محادثة مع "خبير رقمي"، لا ينام ولا يتوقف عن التعلم.
صراع العمالقة
قبل شهور من تلك الخطوة، بدأت علاقة "غوغل" التاريخية مع "آبل"، التي كانت تدر عشرات المليارات سنويا، تدخل مرحلة توتر غير مسبوقة، على وقع صعود نجم أدوات البحث القائمة على الذكاء الاصطناعي. تقارير وتقارير مضادة، وتصريحات في المحاكم، وصفقات قيد المراجع تشير إلى أن التحالف الذي لطالما منح "غوغل" موقعا احتكاريا في متصفح "سفاري" الخاص بشركة "آبل" بات على وشك أن يتفكك أو يعاد تشكيله من الجذور.