روايات سعودية جديدة تبني جسرا بين الماضي والحاضر لبناء عوالم روائية مختلفة

عبر العودة إلى تاريخ الجزيرة العربية

غلاف رواية "دموع الرمل"

روايات سعودية جديدة تبني جسرا بين الماضي والحاضر لبناء عوالم روائية مختلفة

صاحبت الفنون الإنسان منذ بدايته، وربط الفلاسفة والنقاد بعد ذلك الأماكن بالنوع الأدبي الأكثر رسوخا فيها، فربطوا انتقال الناس بحثا عن الحياة في الصحراء بالشعر وموسيقاه، وربطوا بين الاستقرار والبناء والرواية كفن أدبي أحدث، ولعل هذا ما دفع الناقد المجري الشهير جورج لوكاش إلى إطلاق مقولته الذائعة الصيت "الرواية ابنة المدينة"، وتبنى هذه الفكرة عدد من النقاد والكتاب بعد ذلك، إلا أن الرواية نفسها لم تصمد أمام تلك المقولة ولم ترضخ لهذا التعبير، فانتقلت إلى الصحاري والبادية وعبرت عن حياة الإنسان في كل مكان.

في العام الماضي ظهر عدد من الروايات السعودية التي تبنت هذا التوجه، بل سعى الروائيون فيها بدأب ملحوظ للعودة إلى تاريخ الجزيرة العربية ورصد عدد من محطات تحولاتها المبكرة، وكيف كانت لحظات التنوير والتحول إلى المدينة من جهة، أو الصدام بين عالم البداوة بما يحمله من عادات وتقاليد وتحديات وعالم المدينة وما كان يعد به من رفاهية وطمأنينة واستقرار.

دموع الرمل

في رواية "دموع الرمل" لشتيوي الغيثي (دار تشكيل، جائزة القلم الذهبي للروايات الأكثر تأثيرا 2024)، تبدو العودة الى التاريخ حاضرة منذ السطور الأولى، إذ يقرر السارد أن يحكي عن جدته نويره التي يشعر أن حياتها وحكايتها تستحق أن تروى وتوثق لأن "الحياة ذاكرة"، ورغم مرور أربعين عاما على وفاتها، لا تزال الحكاية حاضرة في ذهن السارد/ الحفيد، بل يتجاوز الأمر -كما سيعرف القارئ في ما بعد - حكاية الجدة إلى حكايات أبيها وقبيلتها في صراعهم مع الحياة من أجل البقاء.

ما إن ينتقل السرد في الفصل التالي إلى حكاية الجدة، حتى تحضر الصحراء بكل ما تحويه من قسوة وشدة، حيث بيوت الشعر وقلة الزاد، وتحضر كذلك القبيلة بكل ما تحويه من صفات وما تفرضه على الأفراد من تقاليد وعادات، حيث لا يمكن حياة امرأة بمفردها أن تستمر طويلا، إذ يجب أن تحتمي بظل رجل حتى لو كانت ذات شخصية قوية، ترفض كل الرجال وترى لنفسها مكانة خاصة، كما هي نويرة، مع انتقال والدها الى الحرب الذي يجعلها في النهاية تستسلم للزواج برجل كانت ترفضه بشدة، ولكن لحسن الحظ يكون كريما معها متفهما شخصيتها. هكذا كان أبو سالم الذي تزوجها فقط لكي تأتي بالولد، ثم طلقها بعد ذلك، ولكن القدر يكون له كلمة أخرى فتعود إليه من جديد.

يتنقل السرد بسلاسة من عالم الجدة والصحراء بما فيه من تحديات وقسوة إلى عالم الحرب الذي يفرض حضوره في تلك المرحلة التاريخية، ويبدو الراوي أكثر اهتماما برصد وتوثيق مرحلة مهمة في التاريخ السعودي، حيث يخوض الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود حروبه لتوحيد شتات مناطق شمال نجد (حائل وما حولها) رغم قلة إمكاناته، في مقابل إمكانات وعتاد ابن رشيد الذي تمده الدولة العثمانية بأحدث الأسلحة والمعدات الحربية في ذلك الوقت.

يتنقل السرد بسلاسة من عالم الجدة والصحراء بما فيه من تحديات وقسوة إلى عالم الحرب الذي يفرض حضوره في تلك المرحلة التاريخية

لا يتوقف رصد ضاري لمظاهر الحداثة عند انتقاله الى المدينة (حائل) ومفاجأته بأشكال السيارات التي يراها لأول مرة، ولكن يحضر أيضا الصراع: إلى من يمكن أن ينتمي في الحرب؟ للقوة أم لأصحاب الأرض؟ ويصدف في كل مرة أن يكون هو ووالده بغير إرادته على الجانب الآخر من المعركة، مع ابن رشيد الذي يمتلك القوة والعتاد ولكنه لا يمتلك الحق. الصراع الذي يدور في نفسية ضاري، هو الذي يجعله يتراجع عن المشاركة، وربما هو ما يقوده إلى نهايته بعد ذلك، لكي يبقى السؤال الذي تطرحه الرواية ببساطة معلقا في أذهان القراء.

ينتقل السارد من حياة ضاري بين المدينة والقبيلة، إلى حياة الجدة نويرة، التي تمثل نموذجا نسائيا مختلفا عن المعتاد في عالم البداوة وما تفرضه من عادات وتقاليد خاصة على المرأة. فبعد أن كان صراعها على البقاء بجوار أبيها، نجد الصراع يختلف حينما تتزوج أخيرا وترزق بابنها ضاري، الذي يذهب للمشاركة في تلك الحرب، فتعود للبقاء بمفردها، وترسم الرواية عالم تلك المرأة ببراعة وكيف كان موقف القبيلة منها بين احترام رغبتها من جهة ومحاولة الضغط عليها والسيطرة عليها من جهة أخرى، كل ذلك حتى تنتهي الرواية بولادتها لابنتها الثانية التي ستكون أم الراوي الذي بدأت به ومعه الرواية.

القبيلة التي تضحك ليلا

في روايته "القبيلة التي تضحك ليلا"  (مسكلياني 2024) ، ينطلق سالم الصقور من منطقة سردية أخرى مختلفة زمنيا ومكانيا، حيث تتناول الرواية حكاية تدور أحداثها في العصر الحالي، ولكن يبدو فيها حضور الماضي وهيمنة القبيلة واضحا، والصراع بين ما تمثله المدينة وما تمثله البداوة أكثر حضورا وهيمنة على البطل وعالمه الواقعي كله.

غلاف رواية "القبيلة التي تضحك ليلا"

يخوض بطل الرواية صراعا نفسيا داخليا بين رغبته في أن يكون أبا للمرة الأولى، وبين ما تفرضه عليه بيئته ومجتمعه من عادات وتقاليد تحكم تصرفاته وتجعله غير قادر حتى على التعبير عن نفسه ورغباته، مما يجعل البطل/السارد يلجأ إلى الذاكرة ويستدعي الماضي وحكاياته أملا في تسكين آلامه وجراحه. الرواية تدور كلها في يوم واحد تقريبا، وبين حدثين فارقين في حياة بطلها الذي ينتظر مولودته الأولى التي طال انتظاره لها، ثم يفاجأ بالأطباء يخبرونه أن حياتها مهددة فيبقى على أمل إنقاذها حتى اللحظة الأخيرة.

تتجاوز الرواية ذلك الحدث الفارق والمؤثر لتعود إلى القبيلة التي لا تزال تحكم وتفرض حضورها وتأثيرها على الرجل والمرأة هنا على السواء. يستحضر بطل الرواية أثناء بحثه عن منفذ/وسيلة لإنقاذ ابنته، ذكرياته وماضيه كله، وتلك العلاقات المختلفة التي ربطته/قيدته بأفراد من عائلته وقبيلته الذين يعيشون في واقع اجتماعي وثقافي يبدو مدنيا متحضرا في ظاهره، ولكن البداوة والقبلية بكل تجلياتها تكمن في تفاصيله. من غرفة العمليات في المستشفى، يستحضر بطل الرواية كل ذكرياته منذ بدأت فكرة زواجه وكيف تعاملت معه الأسرة والقبيلة وكيف كان انتظارهم لمولوده بعد أيام من الزواج. ذلك أنه من حق كل فرد من تلك القبيلة أن يتدخل في حياة الآخرين باعتباره شريكا. تنمحي هنا كل سمات الحرية والاستقلالية، وتفرض على ذلك الفرد المخالف كل الأوامر والتعليمات التي يجب عليه الامتثال لها. فالزواج مثل الموت،على حد تعبيره،  لا أحد يستطيع أن يخبرك بما ينتظرك هناك، سواء كان زواجا تقليديا وقبليا في مدينة صغيرة على تخوم الربع الخالي، أو كان مدنيا في معرض لفنون ما بعد الحداثة في باريس.

يخوض بطل الرواية صراعا نفسيا داخليا بين رغبته في أن يكون أبا للمرة الأولى، وبين ما تفرضه عليه بيئته ومجتمعه من عادات وتقاليد تحكم تصرفاته وتجعله غير قادر حتى على التعبير عن نفسه ورغباته

"القبيلة التي تضحك ليلا" هي حكاية، كان والد البطل يسردها له كثيرا، وهي التي تحكي عن قبيلتين متحاربتين يجمع بينهما عين ماء يشربون منه، وفي كل مرة تنتصر واحدة منهما على الأخرى، أما في الليل فكانت تصل إلى إحدى القبيلتين أصوات ضحكات عالية تملأ ليلها بالبهجة، فيما القبيلة الأخرى في حيرة وحسرة من أمرها، ذلك أن القبيلة الأولى كان لديها أطفال يؤنسون ليلها بالضحك، أما الأخرى فلا أطفال ولا ضحك.

هكذا تتحول تلك الحكاية في نفس البطل إلى معادل موضوعي لحالته، فها هو يبحث عن الأنس بالطفل الوحيد الذي ظل يحلم به طويلا، وكأنه حرم من هذه الضحكات وحرم من الحياة. وهكذا تتحول حياته كلها وذكرياته وحكايات ماضيه إلى منغصات تقض مضجعه من بداية الرواية إلى نهايتها.

سادن

في رواية "سادن" لجريدي المنصوري (رشم 2024) ينتقل الراوي بنا بين عالم المدنية وعالم البداوة، حيث يرحل بطل روايته جهار من قرية بالطائف إلى المدينة في مهمة شديدة الخصوصية، ويصطحب معه صديقة ذبيان، الذي يعد ابنا بارا للبادية، فيما يعتبر جهار ابن القرية الذي استطاع أن يخرج منها إلى المدينة وينتقل بنا بين العالمين، بين عالمي ذبيان وجهار تدور أحداث الرواية في رحلة شيقة للوصول إلى جمل اسمه "غراب" يؤمل أن يكون فيه علاج لمرض عمه، كما ننتقل معه في الزمان بين ماضي كل واحد منهما، وكيف كانت تقلبات حياته ومجتمعه وعالمه وماضيه، حتى يصل بنا إلى اللحظة الحاضرة.

غلاف رواية "سادن"

يحمل جريدي المنصوري على عاتقه مهمة صعبة، ويخوض بقارئه رهانا مختلفا، إذ يتنقل به بين وديان الطائف وهضابها وسهولها، لينقل لنا عالم البادية بكل ما فيه من ثراء ومعارف وحياة، فيجعل من ابن البادية غلاما غير عادي ذا خبرات واسعة في عالم الصيد والرعي والحياة بين الحيوانات والدواب ومواجهتها بكل قوة، في الوقت الذي يرسم خبرات خاصة بابن المدينة الذي ينتقل إليها بعد أن يشب عن الطوق، ويبدأ في التعرف الى ذلك العالم المختلف كلية عما نشأ عليه، وهو وإن كان يواجهه باستغراب ودهشة في البداية، إلا أنه سرعان ما يتفاعل معه ويستزيد من المعرفة والتعلم حتى يبقى لافتا لأنظار أقرانه من أبناء المدينة، الذين عاشوا حياة هادئة لا مغامرات فيها ولا خطر.

ينتقل السرد في "سادن" بين الماضي والحاضر، وبين شخصيات العمل جهار وذبيان، والعمة سلمى وابنتها محمدة، زعفران، ويبدو حرص السارد على تقديم صورة أخرى للمرأة أيضا بين عالم البداوة الذي عاشت فيه، وتطلعها لأن تتطلع ابنتها إلى عالم مختلف أكثر ثراء وتحضرا ورقيا، وهو الذي شاهدت نموذجا له في سفرياتها إلى العاصمة الرياض، ولذلك هي تفاضل بين أن تتزوج ابنتها بالضابط النجدي الذي يعد بتلك النقلة الحضارية الفارقة، أو بقريبها وحبيبها، ذلك الفتى جهار، الذي دفعته لخوض تلك الرحلة كلها من أجل الفوز بقلب حبيبته.

لعل ذلك كله ما يمنح رواية "سادن" الاختلاف والثراء، إذ أنها لا تقتصر على حكاية جهار ورحلته، بل تحمل على عاتقها هم التوثيق والربط بين الماضي والحاضر

من جهة أخرى تقدم الرواية من خلال تلك الرحلة التي يخوضها جهار في الصحراء، عددا من عادات وتقاليد المجتمع البدوي، سواء في قرى الطائف أو ما جاورها. يرصد الكاتب بذكاء عادات الزواج في تلك القرى وما يتبعها من احتفالات وغناء وإنشاد، بل يتسع الحال لعرض عدد من الأماكن الأثرية التاريخية في تهامة، مثل جبل عفف، وعين الماء الحار، وحجر الكتاب، ومشاهدة سلسلة جبال سراة بني سعد عن قرب والتعرف الى جبل الكنوز  قرب منطقة غرابة، حتى يصل إلى عكاظ، ويتحدث عن تحديد الموقع الجغرافي لذلك المكان الذي كان سوقا مهما في أيام الجاهلية للتجارة والشعر على السواء.

في النهاية تنتصر المدينة على البداوة، ويستعيد جهار أفكاره ويستحضر ثقافته ومعلوماته بعد أن خاض غمار رحلته الطويلة. يفكر أنه يؤمن بالعلم ويعرف أن كل ما خاض فيه من قبل يعد من قبيل الخرافة، فلا يمكن أن يشفى مريض لأنه تناول مرارة جمل، بالإضافة إلى أن العالم تقدم والطب تطور ولم يعد يعتمد على الوصفات الشعبية، حتى وإن أخذ بها أو تحدث عنها بعض الجهلة وغير المتعلمين. هكذا يحضر ذلك الصراع داخل نفس بطل الرواية ويكون بداية وصوله إلى حقيقة رحلته وحيلة سردية للكشف عن أسرارها.  

لعل ذلك كله ما يمنح رواية "سادن" الاختلاف والثراء، إذ أنها لا تقتصر على حكاية جهار ورحلته، بل تحمل على عاتقها هم التوثيق والربط بين الماضي والحاضر من جهة، والتراث والآثار التاريخية، وعلاقات الناس بين البداوة والمدنية من جهة أخرى، كل ذلك من خلال بنية سردية محكمة ومتمساكة تجذب القارئ حتى النهاية.

font change

مقالات ذات صلة