هل عاد توني بلير حقا؟ بهذا السؤال قد يستقبل العالم خبر تولي رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير دورا بارزا في هيكلية الحكم المقترحة لغزة، في حال المضي قدما بخطة السلام التي كُشف عنها في البيت الأبيض في 29 سبتمبر/أيلول. لكنْ ثمة رأي آخر أكثر دقة؛ بلير لم يغادر الساحة العالمية قط.
من هو توني بلير كشخصية عامة؟ لطالما كان شخصية مثيرة للجدل، خاصة في وطنه، إلا أنه بلا شك سياسي ناجح للغاية. فقد ساهم في تغيير حظوظ "حزب العمال" الذي كان يتعرض للهزيمة تلو الأخرى في الانتخابات البريطانية على مدى فترات طويلة من القرن العشرين. وبعد أن أعاد الحزب تسمية نفسه كـ"حزب العمال الجديد"، قاده بلير إلى فوز انتخابي كبير عام 1997، ثم أصبح ثاني رئيس وزراء من "حزب العمال" يفوز بأغلبية لمرتين متتاليتين (الأول كان هارولد ويلسون في الستينات)، ثم حقق مكانة وإنجازا غير مسبوقين لـ"حزب العمال" بحصوله على حكومة أغلبية ثالثة، في أعقاب الفوزين السابقين مباشرة، ليتبوأ منصب رئيس الوزراء لثلاث فترات متتالية. حتى خصومه السياسيون عبروا عن إعجابهم به؛ حيث أشار زعيما "حزب المحافظين"، ديفيد كاميرون وجورج أوزبورن، سرا إلى بلير باسم "المعلم" وتعهدا باتباع أسلوبه في الحكم عندما يصلان إلى السلطة.
كان نجم بلير السياسي يخبو رغم أن فوزه الانتخابي الثلاثي حجب تلك الحقيقة. فرغم الأغلبية البرلمانية المتتالية التي حققها، روت نسبة التصويت الشعبي لـ"حزب العمال" حكاية أخرى، حيث انخفضت من 43 في المئة عام 1997 إلى 41 في المئة عام 2001، ثم إلى 35 في المئة عام 2005. وكان الرقم الأخير أدنى نسبة تصويت شعبي يحصل عليها حزب، يفوز بحكومة أغلبية في تاريخ المملكة المتحدة. وبحلول عام 2007، انتهى عهد بلير سياسيا، بعد تنحيه عن منصبه لصالح وزير الخزانة، غوردن براون.
حتى خصومه السياسيون عبروا عن إعجابهم به؛ حيث وصفوه سرا بـ"المعلم"
يمكن القول إن تراجع بلير السياسي لم يكن مرتبطا بسياسته الداخلية في بريطانيا العظمى، بقدر ما كان مرتبطا بتدخلاته السياسية في أماكن أخرى من العالم. وقد ألقى هذا الجدل وسجله السياسي المختلط، بظلالهما عليه، وطاردا سمعته طيلة ما يقرب من العقدين منذ أن أنهى مسيرته السياسية.
لا يمكن لأحد أن ينكر أن سجل بلير كان حافلا بنجاحات عدة. وتشهد اتفاقية "الجمعة العظيمة" على الإرث الذي خلفه. وُقّعت تلك الاتفاقية في العاشر من أبريل/نيسان 1998، بعد أقل من اثني عشر شهرا من توليه منصبه، وجرى التصديق عليها لاحقا في تصويت شعبي، وأنهت تقريبا كل أعمال العنف المرتبطة بـ"الاضطرابات" التي ظلت مستعرة خلال عقود من العنف الطائفي في أيرلندا الشمالية، بين عناصر من المجتمعات البروتستانتية والكاثوليكية. وحقيقة الأمر، اجتاحت حرب أهلية شمال أيرلندا منذ أواخر ستينات القرن الماضي، وامتدت إلى جمهورية أيرلندا، وعبرت البحر الأيرلندي وصولا إلى بريطانيا العظمى. ولقي أكثر من 3000 شخص حتفهم في رحى سنوات من العنف الدائر.
رئيس الوزراء البريطاني توني بلير والمبعوث الاميركي السناتور جورج ميتشل ورئيس الوزراء الايرلندي بيرتي اهيرن بعد توقيع اتفاق الجمعة العظيمة في 10 ابريل 1998
وعلى الرغم من الإشادة الكبيرة التي حظي بها بلير لإنجازه عام 1998، فإن الصورة الحقيقية كانت أكثر تعقيدا. فالمحادثات الجوهرية بين "الجيش الجمهوري الأيرلندي" والدولة البريطانية كانت قد بدأت في أوائل تسعينات القرن الماضي، في عهد حكومة المحافظين برئاسة رئيس الوزراء جون ميجور، سلف بلير في داونينغ ستريت. ولم يكن المحرك الرئيس في حكومة بلير نحو التوصل إلى اتفاق، هو رئيس الوزراء، بل وزيرة الدولة لشؤون أيرلندا الشمالية، مو مولام، التي أخذت على عاتقها مهمة توجيه المعارضين الرئيسين خلال المحادثات، بكل ما تحمله هذه المهمة من مخاطر سياسية. وكان جوناثان باول، كبير موظفي مكتب رئيس الوزراء، شخصية مؤثرة أخرى تؤدي دورها من خلف الكواليس. ومع ذلك، حصد بلير ذاك النجاح في أيرلندا الشمالية، ليصبح الوجه السياسي الذي صقل سمعته باعتباره مُصلحا لحل النزاعات المستعصية.
حصد بلير النجاح في أيرلندا الشمالية ليصبح الوجه السياسي الذي صقل سمعته باعتباره مُصلحا لحل النزاعات المستعصية
وسرعان ما أصبح بلير وجه "التدخل الليبرالي"، حيث تنتهج الديمقراطيات الليبرالية سياسات خارجية، قد تشمل التدخل العسكري في بلدان أخرى. ففي الفترة التي تلت الحرب الباردة، وبالتحديد في أعقاب التدخل العسكري لحلف "الناتو" في كوسوفو، إحدى دول يوغوسلافيا السابقة، تصور بلير واقعا دوليا جديدا، في فترة تزايد فيها الترابط الاقتصادي من خلال العولمة.
وقدم تعريفا لهذا التصور في 24 أبريل/نيسان 1999، في خطاب هام ألقاه في شيكاغو بعنوان "عقيدة المجتمع الدولي" عندما خاطب جمهوره قائلا: "إن أكثر مشاكل السياسة الخارجية إلحاحا تكمن في تحديد الظروف التي ينبغي لنا فيها التدخل بفعالية في صراعات الآخرين"، وأضاف بحذر: "لطالما اعتُبر مبدأ عدم التدخل ركيزة هامة من ركائز النظام الدولي. وهو ليس بالمبدأ الذي قد نرغب في التخلي عنه بسهولة"، ليعدد بعد ذلك "خمسة اعتبارات رئيسة" كبوصلة ترشد الدول الليبرالية الديمقراطية في قرار التدخل في أماكن أخرى:
أولا: هل نحن متأكدون من قضيتنا؟ الحرب أداة غير مثالية لمعالجة المحن الإنسانية؛ لكن القوة المسلحة تكون أحيانا الوسيلة الوحيدة للتعامل مع الديكتاتوريين.
ثانيا: هل استنفذنا كافة الخيارات الدبلوماسية؟ يجب علينا دائما إعطاء السلام كل فرصة ممكنة، كما فعلنا في كوسوفو.
ثالثا: بناء على تقييم عملي للوضع، هل ثمة عمليات عسكرية يمكننا الاضطلاع بها بحكمة وعقلانية؟
رابعا: هل نحن مستعدون لما سيأتي في قادم الأيام؟ في الماضي، تحدثنا كثيرا عن استراتيجيات الانسحاب. ولكن بعد أن تعهدنا بالالتزام، لا يمكننا الانسحاب بمجرد انتهاء القتال؛ من الأفضل أن نبقي على وجودنا بأعداد معتدلة من القوات بدلا من العودة للتدخل بأعداد كبيرة.
وأخيرا: هل ثمة مصالح وطنية ينطوي عليها التدخل؟ لقد لفت الطرد الجماعي للألبان من كوسوفو على أساس عرقي، انتباه العالم أجمع. لكن ما يحدث فرقا لافتا هو وقوعه في منطقة أوروبية مشتعلة كهذه.
ولم يتأخر بلير في تطبيق هذه المبادئ في أماكن مختلفة، محققا نتائج متباينة. أولا، جاء التدخل العسكري البريطاني الأحادي في سيراليون، الواقعة في غرب أفريقيا، والمستعمرة البريطانية السابقة. في مايو/أيار2000، نُشر جنود بريطانيون في تلك البقعة التي كانت تتجه نحو حرب أهلية دموية، وساهموا خلال الأشهر التالية في استقرار البلاد.
نقطة التحول لتيار "المحافظين الجدد"
لو أظهر التدخل في سيراليون، القدرة الحقيقية للقوة العسكرية على تحقيق الاستقرار السياسي، لتمخض عن التدخلات البريطانية المسلحة الكبرى التالية نتائج مختلفة اختلافا جذريا. في 11 سبتمبر/أيلول2001، لقي حوالي 3000 شخص بينهم 67 بريطانيا مصرعهم بسبب الهجوم الإرهابي الذي تبناه تنظيم القاعدة. وسارع بلير إلى الانضواء تحت راية إدارة الرئيس جورج دبليو بوش المحافظة، والانخراط بأي رد تراه ضروريا على الهجوم. من جهة، بدا بلير وبوش رفيقين غريبين نظرا لاختلاف معتقداتهما الأيديولوجية، غير أنهما من جهة ثانية كانا يقفان على أرضية مشتركة، ترتكز على إيمانهما المسيحي العميق، وثقتهما في استخدام القوة العسكرية كأداة للسياسة الخارجية؛ وربطت هذه القناعات بين تدخل بلير الليبرالي، وبوش المنتمي لتيار المحافظين الجدد.
احتلت أفغانستان، موطن تنظيم القاعدة، الصدارة في رد بوش- بلير على أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وسرعان ما أطاح التدخل بحكومة طالبان، وفرت فلول التنظيم وقياداته، إلى باكستان. وقد غذت سهولة تحقيق النتائج الظاهرية في أفغانستان، التي اتضح أنها وهمية، غطرسة المسؤولين الأميركيين والبريطانيين، وأدت إلى خطأ فادح في التقدير: غزو العراق عام 2003 لإنهاء نظام صدام حسين.
كان قرار غزو العراق الذي اتخذه بلير العازم، على البقاء قريبا من إدارة بوش كوسيلة للمزيد من النفوذ، خطأ سياسيا واستراتيجيا فادحا، وهو ما ساهم في تراجعه السياسي في الداخل البريطاني. وكانت علامات التحذير جلية حتى قبل دخول القوات البريطانية العراق في مارس/آذار 2003. ففي فبراير/شباط 2003، شهدت لندن أكبر مظاهرة في تاريخها، عندما خرج أكثر من مليون شخص رفضا لغزو العراق المقترح. وفي الكواليس، حذرت وكالة الأمن الداخلي البريطانية (MI5) حكومة بلير من أن غزو العراق، سيزيد بشكل كبير من احتمالات وقوع هجوم إرهابي في المملكة المتحدة؛ ليتضح أن هذا التحذير كان كالنبوءة عندما قُتل 52 شخصا في شبكة النقل في لندن، على يد انتحاريين مرتبطين بتنظيم القاعدة في يوليو/تموز 2005.
الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش وتوني بلير يتصافحان عقب مؤتمر صحافي مشترك، واشنطن في7 ديسمبر 2006
كان قرار غزو العراق الذي اتخذه بلير العازم على البقاء قريبا من إدارة بوش كوسيلة للمزيد من النفوذ، خطأ سياسيا واستراتيجيا فادحا
شكل الغزو الكارثي للعراق إرث بلير، هذا الغزو الذي تحول إلى حرب أهلية طائفية، وأسفر عن مقتل مئات الآلاف من المدنيين. وقد اتهمه البعض بارتكاب جرائم حرب، وبمجرد خروجه من منصبه، وجد نفسه مطاردا في بعض الأحيان، ففي خمس مناسبات على الأقل حاول مواطنون عاديون إلقاء القبض عليه.
بيد أن دور بلير كشخصية مؤثرة سياسيا لم ينته بتنحيه عن منصبه. فور استقالته عام 2007، ونزولا عند رغبة الرئيس بوش، أصبح مبعوثا للشرق الأوسط لدى "اللجنة الرباعية" التي تضم كلا من روسيا، والولايات المتحدة، والأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي. وكان تركيزه منصبا على العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، رغم أنه لم يحقق الكثير خلال السنوات الثماني التي قضاها في هذا المنصب.
أثناء عمله كمبعوث للجنة الرباعية، أسس شركة توني بلير "أسوشيتس" عام 2008 وكانت في جوهرها مجرد شركة ضغط سياسي على جهات معينة، وقد حظيت بقدر كبير من الأعمال في كل من الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وأثار ذلك تساؤلات حول وجود تضارب مصالح بين عمل بلير كمبعوث، ونشاطه في الضغط السياسي، خاصة وأن ذلك النشاط ضم عقودا مع دول ذات سجل سيئ في مجال حقوق الإنسان.
في عام 2016، أُغلقت شركة توني بلير "أسوشيتس" أبوابها، وأنشأ بلير كيانا جديدا غير ربحي، وهو "معهد توني بلير للتغيير العالمي"، أو اختصارا (TBI) وبحلول أوائل عشرينات القرن الحادي والعشرين، وظف المعهد أكثر من 400 شخص، وبلغت ميزانيته السنوية عشرات الملايين من الجنيهات الإسترلينية. وركز المعهد على مجموعة متنوعة من القضايا العالمية، وعلى رأسها التطرف من بين مواضيع سياسية أخرى.
ونظرا لارتباطات بلير بالشرق الأوسط، سواء عندما شغل منصب رئيس للوزراء أو بعد ذلك، لا يبدو مستغربا أن يظهر اسمه في سياق الجهود الكبيرة، التي تبذلها إدارة ترمب، ومختلف الدول العربية لإنهاء الصراع في غزة. ولكن في ضوء السجل المتباين لهذا السياسي البريطاني السابق، يصعب تصور الفارق الذي سيحدثه، ليس حيال العنف الحالي الدائر في غزة وحسب، بل وأيضا في الأسباب الجذرية الأوسع، للصراع المستمر منذ عقود بين إسرائيل وفلسطين.