في ثلاثين رحيله... آخر كلمات محمد خير الدين "كان همي كله أن أكون شاعرا"

يوميات كتبها على سرير المرض

Louis MONIER/Gamma-Rapho via Getty Images
Louis MONIER/Gamma-Rapho via Getty Images
محمد خير الدين في باريس، 12 حزيران 1984

في ثلاثين رحيله... آخر كلمات محمد خير الدين "كان همي كله أن أكون شاعرا"

تصادف اليوم 18 نوفمبر/ تشرين الثاني الذكرى الثلاثون لرحيل الكاتب والشاعر المغربي محمد خير الدين 1941/1995 وقد كان آخر ما كتبه في انتكاسة مرضه، على حافة الأفول، يوميات هي من أبدع ما كُتب مغربيا، إن لم يكن عربيا بالأحرى، بشجاعة، أو بجسارة لحظة المرض الكاسح، على أهبة الموت الحقيق، وقد نشرت بعد رحيله بعنوان "لا نضع طائرا كهذا في قفص" (2002).

شرع محمد خير الدين في كتابة يومياته في صيف 1995، ابتداء من الاثنين 7 أغسطس/ آب، وانتهاء بـ 28 منه.

آخر عبارة خطها في يوميته هذه: "كان همي كله أن أكون شاعرا"، مذيلا اليوميات بقصيدة عن طائر الصفارية، مهداة إلى صديقه بول روسلون، مهندس في المياه والغابات، وهو من توسط له لدى طبيب الملك الخاص الحسن الثاني، إبراهيم الكداري، الذي عجل بتشخصيه بدقة كاشفا عن التهاب حاد في أذنه مع تعفن، استنادا إلى عدوى من شق لئيم في فكه. وأصل الحكاية في محنته، أن خضع لعملية قلع ضرس فاشلة، أسفرت عن كسر فادح في عظم الفك مصحوب بإغماءة، ومع أن محمد خير الدين التزم احتياطات التعقيم اليومي وفق زعمه، مع تناول الأدوية المضادة للالتهاب، إلا أن الجراثيم عششت في شق فكه، واستفحلت، لتغدو سرطانا قاتلا.

كان محمد خير الدين لحظتها مقيما في فندق "باليما" بالرباط، قبالة البرلمان، قبل أن ينتقل قسريا تحت إكراه مرضه إلى المؤسسة الاستشفائية "معهد الأنكولوجيا". وتعود تفاصيل أولى جلساته في الخضوع للعلاج الكيميائي، منذ عام 1993 مستفيدا من إقامة في فندق "سفير"، على نفقة القصر الملكي، قبل أن ينتقل إلى المستشفى العسكري تحت رعاية بروفسور آخر اسمه بوشعيب جدال (عميد كلية طب الأسنان في الرباط)، وبعدئذ يلوذ بضيعة الغزالة في بوزنيقة، باستضافة من صديقه بول رولسون، كيما يقضي فترة نقاهة، فيعود مرة أخيرة إلى المستشفى العسكري الذي سيلفظ فيه أنفاسه يوم 18 نوفمبر 1995.

غير أني لست حزينا مهما حدث

فرط الألم، الهزال المتفاقم، الإغماءات المتواصلة، انعدام النوم إلا استثناء عند التخدير المضاعف، عدم القدرة على المشي، صعوبة الأكل مع تعذر قراءة حتى جريدة، هي بعض من ملامح محنة الكاتب في شهور مرضه الثلاثة الأولى، قبل أن يسعفه صديقه بول روسلون بنقله إلى طبيب الملك.

أربع عشرة يومية إذن هي مجمل الكتابة التي استغرقها منجز العمل، إذ نشهد استفاضة مع استطرادات في غالبيتها، وتكثيفا وتشذيرا في بعضها، خاصة الأخيرة منها

مع لكح العظم والتحقين، تلطفت الحالة أخيرا، لكن مؤقتا وليس كما توهم الكاتب، وفي إثر تقلبات حالته المأسوية، هاجسته فكرة كتاب، فأنجز مخطوط "عجوزان من القرية" في شهر إلا قليلا، مفكرا في استكمال رواية بدأها منذ سنتين ونصف السنة، تحت عنوان "طوبياس".

يعاوده سعار الألم إذن، وتهترئ حالته الصحية، مع هزال بلغ وزنه 40 كيلوغراما، دونما أكل صحي، ومع ذلك يفصح: "غير أني لستُ حزينا، مهما حدث".

مع أن محمد خير الدين يفصح في أول يومية بأنه لن يلتزم تسلسلا زمنيا في كتابته ليومياته، إلا أنه في المقابل يأتي بما يفي انضباطا تعاقبيا لزمن تدوينها، أكثر من ذلك، يزيدها دقة توثيقه بالدقيقة والساعة. فإن حسبناها كما هو مشار إليه سابقا، تبدأ اليوميات من الإثنين 7 أغسطس، وتنتهي بالإثنين 28 منه، الساعة الثانية عصرا و15 دقيقة.

المفروض إذن، هي 22 يوما استغرقتها كتابة اليوميات، لكن مع أيام مفقودة من هذه الفترة، التي لم تشهد التزاما لكتابة أو تدوين، ومجموعها ثمانية أيام، والغريب كأنما تتواطأ لا واعيا مع رقم الشهر نفسه 8. وإذا ما طرحنا الثمانية أيام التي لم تشهد تدوينا من أصل 22 يوما، فتكون الحصيلة 14 يوما.

أربع عشرة يومية إذن هي مجمل الكتابة التي استغرقها منجز العمل، إذ نشهد استفاضة مع استطرادات في غالبيتها، وتكثيفا وتشذيرا في بعضها، خاصة الأخيرة منها.

غلاف ديوان "أغادير"

خطان متوازيان

تسلك الكتابة في اليوميات منحيين أو خطين، يتوازيان أحيانا ويتشباكان أحيانا، على طول العمل:  أولا، منحى اليوميات بالمعنى النوعي الدقيق، إذ يدون محمد خير الدين أثر لحيظاته، وقائع ساعاته، نسغ يومه، عندما يتعلق الأمر بمجمل ما عاشه في حاضره، وفيا لمحصلة تاريخه الراهن، راسما ظل وجوده باسم اليوم.

ثانيا، منحى المذكرات، وفي هذا النزوع يتخطى حدود حاضره، لحظته الآنية، مستغورا ذاكرته عبر حفريات الاسترجاع، عائدا إلى وقائع وحوادث ومنعطفات في سيرته الحافلة، في باريس، محتفيا بصداقاته الكبيرة لأبدع وألمع الكتاب والمفكرين والشعراء والناشرين في فرنسا، فرنسيون في الغالب وجنسيات أخرى وكذا عرب (ميشال ليريس، جاك بيرك، أندره لود، بيار برنار، لوي ماسينيون، فنسان منصور مونتاي، مكسيم رودنسون، ليون كونتران داماس، كلود نوكارو، شميت، هنري بيشيت، لوسيان بيترلان، مارسيل بيالو، بييا بيارن، أحمد السنوسي "بزيز"، فيرنان هوز، محمد شكري...)، ومختلف الأمكنة: مراكش، الصويرة، الرباط، البيضاء، طنجة، الداخلة...

REUTERS/Stringer
مشهد لقصر العائلة الحاكمة في أبوظبي على ضفاف خزان مائي جنوب العاصمة المغربية الرباط

وهو ما يضع لذلك حاشية إضافية على سبيل التجنيس أو التعيين يسميها "ذكريات". ويبرر خير الدين إدراج ذكرياته في اليوميات بما يلي: "إن كان أكثر كتابتي عن الماضي، فلأنني ليس لديّ كثير مما أقوله عن يومي. الماضي أكثر ثراء من هذه الأيام التي أقضيها قيد السرير، أترقب شفاء في علم الغيب. ثم إن الحياة في الرباط تافهة كئيبة، حتى لا تستحق مني كسرة كلمة واحدة".

إذن ما استغرقه الحكي حول يومياته، إزاء حاضره، لا يعدو أن يكون، محض مكابدات، تتعلق بحصص العلاج الكيميائي، بشاعة تلقي الإبر في الفك، في الوريد، في أيما عضلة لمحاصرة الألم من جهة، ولمقاومة استشراء السرطان من جهة ثانية، التأرجح بين النوم العسير والأرق الدائم، التخدير المتواصل، الإغماءات المتواترة، الإطعام عبر السوائل ذات الطعم المعدني الصفيق، الانتقال المرير من هذا المستشفى إلى ذاك، الأمل الذي يخبو في الاستشفاء، وكابوس النهاية المرابط.


كان أكثر كتابتي عن الماضي، فلأنني ليس لديّ كثير مما أقوله عن يومي. الماضي أكثر ثراء من هذه الأيام التي أقضيها قيد السرير، أترقب شفاء في علم الغيب

في كل الأحوال، هي يوميات مجابهة شجاعة للمرض المزمن، لفداحة الألم، لشبح الموت بشجاعة، دونما تقديم تنازلات، أو إذلال، عبر مقاومة جسورة حتى آخر النفق.

الكتابة كخلاص

ما يشفع ليوميات محمد خير الدين إذن، هو إيمانه بالكتابة كخلاص في أفدح محنة صحية، وإن كانت هشاشته لا تسعفه، ومع ذلك، تصدى لسعار المرض الكاسح بالكتابة، كملاذ، كعزاء، كضرورة وجودية وجمالية لمقاومة الألم، لمجابهة مأساة الوعكة الجارفة، للوقوف بأيما طريقة مستبسلة في وجه النسيان، وجها لوجه مع الموت.

غلاف ديوان "انبثاق الأرهار المتوحشة"

وليس من اليسير أبدا، أن ينتزع كاتب استثنائي من طراز محمد خير الدين، وهو على حافة الموت، نصوصا مظفرة على نحو خارق.

أولا، تبهرنا قوة ذاكرته، إذ إشراقات استرجاعاته دامغة، مستعيدا الأمكنة بملء إحداثياتها، الشخوص بكامل وهجها، دون التفريط في سخريته اللاذعة، وكذلك إشهار مواقفه اللاسعة، الصادمة، غير المواربة، وهي نفسها مواقفه المريبة التي عرف بها في أبهى حالاته الصحية سالفا.

كأن ينكل بالأساتذة الجامعيين وأشباه النقاد قائلا: "متحذلقون مدعون، لا شأن لهم ولا قيمة، جاهلون بالأدب أعمى جهالة، أساتذة من الدرك الأسفل، يخوضون في متاجراتهم السخيفة عند حافة سرير مريض، هل انحطاط أكبر من هذا؟

ثمة أسلوب آخر أمقته، أسلوب الأساتذة الجامعيين، يجعلونك تأكل التراب بدل الكسكس، وهم على كثرتهم، يركنون إلى التكرار ويعجزون عن الخلق والابتكار، لذا أتحاشاهم، وأمعن ابتعادا بنفسي عنهم، لذلك صرت مضربا عن المشاركة في الندوات، زاهدا في المشاركة فيها".

وعن "ألف ليلة وليلة" والمشرق يمعن في القول: "كثيرا ما تجد في الحديث في ألف ليلة وليلة عن ساحر شيطاني قادم من بلاد المغرب، فهذا رسخ في أذهان الشرقيين صورة شائهة للمغربي، فما هو إلا ساحر، فاحذروا هذا الكتاب. لن تجدوا فيه إحالة واحدة إلى ابن خلدون، ولا إلى ابن بطوطة وأمثالهما".

REUTERS/Stelios Misinas
تُظهر لقطة جوية كثبانا رملية تغمرها المياه جزئيا بعد أمطار نادرة شهدتها المنطقة في أيلول الماضي، في مرزوكة بالمغرب

وعن أطباء الأسنان لا يرعوي أن يصيح: "لست أتمنى جلسات التعذيب، هذه التي أتكبدها، لألد أعدائي. ومع ذلك، فإنني أرى طبيب الأسنان ذلك السيء، قمينا بأن أمرر على عنقه سكيني الجديد. إنه سكين شبيه بالذي كان يحمله رامبو. بتار من تلك الشفرات التي تقطع ما تلمس في ومضة ونجاعة".

ثانيا، إنجازه لنص سردي يمكن إدراجه في جنس الرواية في أقل من شهر، وسمه بعنوان: "عجوزان من القرية"، وسيصدر لاحقا بعنوان مغاير.

ثالثا، محاولة استئناف رواية شرع في كتابتها منذ سنوات، ذات منحى بوليسي، وسمها بعنوان: "طوبياس".

غلاف ديوان "هذا المغرب"

هاوية المحنة

وغير ذلك، فاليوميات نفسها، عمل فني حاول أن يهزم به كوابيس المرض، هاوية المحنة، شراسة الألم، وهذا ما تقوله وتيرة صلابته، غير منكسة الرأس... بل يفاجئنا بتأملات في الكتابة، كتابة الرواية بالذات، أو الشعر في المجمل، من قبيل: "ليس لأي كاتب أن يقدم النصيحة إلى كاتب آخر، الكتابة هي، في المقام الأول، مسألة شخصية. فأنت تجد في خاتمة "الغثيان" لسارتر، روكونتان يفصح بأنه سيكتب ذات يوم قصة، ينبغي أن تكون جميلة في صلابة الفولاذ، تشعر الناس بالخجل من الحياة التي يعيشونها، هذا هو عينه ما ينبغي للكاتب الجاد أن ينشده ويسعى إليه، وكفى عبثا وتفاهة".

لم يختر اليوميات اعتباطا كي يكتب نفسه، قدر المستطاع، بل من منطلق وعي حاد بأنها الشكل الأنسب الذي يتماهى مع محنته

مجمل القول، أن محمد خير الدين في هاوية مرضه الطارئ، لم يختر اليوميات اعتباطا كي يكتب نفسه، قدر المستطاع، بل من منطلق وعي حاد بأنها الشكل الأنسب الذي يتماهى مع محنته، فلا أبدع ولا أصدق منها، أسلوبا صارخا لمقاومة غدر النسيان، مجابهة سعار الألم، وجها لوجه مع سطوة الموت.

font change