توثيق الألم في "كيف نضحك أمام القتلة؟" لسماء عيسى

الحياة تلمع عبر بوابات الشعر

توثيق الألم في "كيف نضحك أمام القتلة؟" لسماء عيسى

يجمع الشاعر العماني سماء عيسى في تجربته بين الهم الشخصي والهم الجمعي، مقاربا بجرأة قضايا الحرب والفقد والوجود الإنساني، ضمن نصوص مشبعة بالتجريب اللغوي وكثافة الصورة، يسعى من خلالها إلى توسيع أفق التعبير الشعري وتجاوز الصور النمطية، ليقدم شعرا نابضا بالحياة والوجدان.

تعكس كتاباته ارتباطا عميقا بالذاكرة والتاريخ، وتجسد في الوقت نفسه تضاريس الحياة العمانية والخليجية بفرادتها وتميزها، حيث ينفتح شعره على حوار دائم بين الذات والآخر، بين الحزن والأمل، ليغدو بذلك تجربة مفصلية تساهم في فهم ملامح الشعر الحديث في المنطقة.

في ديوانه الجديد "كيف نضحك أمام القتلة؟"، الصادر عن "دار نثر" في مسقط (2025)، تلتقي الذاكرة الجماعية بالفردية في تمازج حميم، ويعانق جروح الزمان المستعصي على الشفاء، يحمل الديوان مضامين إنسانية وفكرية مركبة، ويطرح سؤالا يشبه الصرخة: كيف يمكن أن يستمر الإنسان في الضحك والحياة وسط فوضى القتل والدمار التي تلتهم الوجود؟

الحياة في خضم الموت

يذخر الديوان بمفردات الموت والحرب والدم، تتحول من مجرد وقائع دالة على الخراب إلى ثيمات كبرى تستدعى لتحويل الألم إلى فعل شعري مؤثر، حيث يعيد تشكيل المشهد المأسوي على نحو يخلخل الثوابت ويرصد التحولات النفسية للإنسان في زمن الحروب.

ينطوي عنوان الديوان على مفارقة تكشف عمق المأزق الإنساني الذي يعيشه الشاعر ويعيد صوغه شعريا. فالضحك في مواجهة القتل يغدو فعلا رمزيا للمقاومة، ومحاولة للتشبث بالإنسانية وسط اتساع رقعة الظلم، كما يعكس في الوقت نفسه قبولا مرهقا بواقع مثقل بالمرارة. ومن هنا يتأسس الديوان على مأزق وجودي تتداخل فيه مشاعر العجز وأسئلة الجدوى، في مواجهة الموت الذي يطوق الحياة من كل الجهات.

تستدعي القصائد صور الطبيعة لتكون شاهدا على الألم، مثل الأشجار التي تبكي خوفا أو الزهور التي تذوي وتتحول إلى رمز للزوال والرحيل

تراعي قصائد الديوان التوازن بين التعبير المباشر والصورة الشعرية المكثفة، إذ يستخدم الشاعر لغة حسية تنسج من الحزن والحنين ومن غموض الزمن قصصا تجعل القارئ يعيش التجربة بكل حواسه. كثيرا ما تستدعي القصائد صور الطبيعة لتكون شاهدا على الألم، مثل الأشجار التي تبكي خوفا أو الزهور التي تذوي وتتحول إلى رمز للزوال والرحيل. هذه الاستعارات تفصح عن الصراع الداخلي للشاعر مع فكرة الموت والغياب.

في قصيدة بعنوان "حنين" يخلق الشاعر عالما مظلما توحش فيه العتمة، حيث يغرق الحزن في بئر الصمت، وتبقى الذات محاصرة في عزلة لا يسمعها أحد، عاكسة انعدام الحضور والاختفاء الكامل: "أتذكر الأشجار حين تبكي خوفا/ من وصول البشر فجرا بالحبال/ لتغدو غصونها مشانق/ للأغنام الهاربة من بهجة الأعياد".

هنا، تشكل الأشجار رمزا للعنف الذي يهدد الجمال والحياة، فهي تتحول إلى مشانق تعلق عليها براءة الأغنام، في تصوير بليغ يدعو إلى التفكير في الأضرار التي تلحق بالبراءة في سياق الصراعات الدموية.

shutterstock
مشهد عام لمدينة مسقط

أما قصيدة "دم الفراشة" فتقدم موت الطفولة كأفق نهائي محاط بالخوف، حيث يأخذ الشاعر من الفراشة الوردة والدم، كأن الموت يسرق من الحياة كل ما هو جميل ورقيق. فالفراشة، رمز الطفولة والحيوية والحرية، تصبح شاهدا على ليلة النهاية، على اللحظة التي يغيب فيها الإنسان عن الأرض: "سيأخذك النسيان بعيدا عنا/ الشمس زرقاء بلون الطفولة/ زرقاء بلون الحب".

هنا، تغمر الصور مشاعر الوداع المؤلم للنسيان، حيث الشمس الزرقاء تحمل لون الحب والطفولة، مما يجعل الفقد أعمق وأكثر قسوة.

تتوسع قصيدة "أتحدث عن الزهرة" في استحضار الحزن المتمثل في الغياب والموت المحتوم، الزهرة التي تذبل على باب البيت تمثل الزمن الذي يذوي فيه الإنسان تدريجيا، ويغدو يابسا مثل الطبيعة المحترقة: "أتحدث عن الزهرة/ عما يعود ولا يفنى/ أتحدث أنا الراحل دون عودة إلى التراب". تأتي هذه القصيدة كمونولوغ داخلي يعبر عن التجربة الشخصية والوجودية التي تواجهها الذات في مواجهة النهاية.

تتحول الصور الشعرية في القصيدة التي حملت عنوان الديوان "كيف نضحك أمام القتلة؟"، إلى مشاهد متعددة تتداخل بين الفقد والغربة والحنين، مفعمة بالحزن الصامت والماء الذي لا يعود، والحصان الميت الذي يرحل عن البيت، كرمز للألم والذكريات التي تبقى رغم الرحيل. تتقاطع المفردات لتعكس الصراع بين الحياة والموت، وبين الأمل والخذلان: "يرحل الحصان الميت/ عن البيت الذي يختبئ به الألم والهجر/ عن نوافذ المطر المبللة باللوعة والفراق".

المشهد الشعري هنا يحاكي مأسوية الوجود، ويطرح فكرة أن الجمال والهدوء قد يكونان آخر حصون الإنسان أمام الظلم والقتل

المشهد الشعري هنا يحاكي مأساوية الوجود، ويطرح فكرة أن الجمال والهدوء قد يكونان آخر حصون الإنسان أمام الظلم والقتل.

معاناة كونية

تأخذ لغة الديوان شكل الحوار الداخلي، تفتح ثغرات في الزمن والمكان، حيث تحرر الذات من أسر الواقع الملموس نحو فضاءات رمزية، وتثير في النفس تموجات الحزن والحنين والانتظار. فيما ينفذ الشاعر إلى أعماق النفس المتمزقة، ليغدو النص منصة لتعبير متعدد الطبقات، ينزع عن المعاناة بعدها الشخصي لتصبح معاناة إنسانية كونية.

التكرار والتماثل في التراكيب اللغوية في بعض القصائد يخلقان إيقاعا داخليا يضفي على النص حالة من التأمل والإدهاش، حيث يعيد الشاعر تجربة الفقد بطرق مختلفة، لكنه دائما يحافظ على وحدة موضوعية حول فكرة الحزن والموت والطفولة والغياب. الصورة الشعرية تبدو متماسكة ومشدودة نحو تعبير مركزي، تلتقط الضوء في ظلام الذاكرة.

"كيف نضحك أمام القتلة؟"

يبرز في الديوان حضور جلي لموضوع الحنين، كقوة متحركة تؤثر في الذات وتعيد تشكيلها. الحنين هنا يتجاوز فقدان شخص أو زمن ليغدو حالة إنسانية تبحث عن دفء يحميها من برودة الموت والخراب. كثيرا ما تتحدث القصائد عن الأم، الحضور الغائب الذي يشكل مركزا شعريا عاطفيا، تمثل رمز الحياة والأمان الذي ينقطع عن الشاعر، ليصبح الحزن والغياب هاجسا مستمرا في قصائده.

يدمج العالم الشعري في "كيف نضحك أمام القتلة؟" بين الحلم والواقع، بين الميتافيزيقي واليومي، فالموت يظل حاضرا، لكن الحياة تحاول أن تلمع عبر بوابات الشعر. هذا التداخل يجعل من الديوان تجربة إنسانية متكاملة، تتجاوز التعريفات البسيطة، وتعرض الحياة في تقلباتها وقسوتها وجمالها.

تجمع لغة سماء عيسى (من مواليد مسقط، 1954) بين الكلمة البسيطة والتعبير المركب، فتغدو النصوص أشبه بلوحة فنية تمزج بين ألوان الحزن والحنين والألم مع بساطة الحياة اليومية. هذه الثنائية تفتح أمام القارئ مساحات واسعة لفهم المعاني والتفاعل معها. كما يتجلى في كل قصيدة حضور الصمت والغياب، الذي يسبق الموت أو يواكبه، وكأن النص يلتقط تلك اللحظات القليلة بين الحياة والموت.

يحتفي بعض النصوص بالعزلة والوحشة، ولكنها عزلة ذات معنى، حيث تتبدى الذات متيقظة في مواجهة قسوة العالم، ولا تستسلم للفراغ. هذا الانعتاق من اليأس يشي بإرادة صلبة خلف الألم، تحاول أن تحفر في الذاكرة فتجد فيها بذور الخلاص أو على الأقل صدى الوجود المستمر.

يرسم سماء عيسى وجوها مليئة بالانكسار والحنين داخل عالم يعج بالألم والتمزق، فتتحول الكلمات إلى جسور تواصل بين الذات والعالم، والماضي والحاضر

تتعدد الإشارات الرمزية إلى الطبيعة في الديوان، فالأشجار والزهور والماء والسماء، وحتى الفراشة، تتحول إلى رموز حيوية تحكي عن دورة الحياة والموت، عن الجمال الذي يذوي، وعن الأمل الخافت الذي يرافق العدم. هكذا، يصبح الشاعر وسيطا بين الإنسان والطبيعة، بين الذات والكون، مستعيدا تواصلا عميقا مع عناصر الحياة الأساسية، رغم الظلام الذي يلف النصوص.

تتقاطع هذه الرموز مع هموم الإنسان المعاصر، في القصيدة التي تحمل عنوان الديوان، حيث الحروب والتهجير والغربة والحسرة التي تخلفها المسافات بين الإنسان وأرضه وأحبائه، بينما تبدو اللغة كأداة لتثبيت الذاكرة التي تحارب النسيان، والكتابة تصبح شكلا من أشكال المقاومة الحياتية.

AFP
رجل يزور سوق نزوى في محافظة الداخلية بسلطنة عُمان، 5 أكتوبر 2023

زمن ممزق

ثمة في الديوان حضور واضح لمفهوم الزمن بتعقيداته المختلفة، فهو زمن ممزق بين الماضي والحاضر، بين ما كان وما هو آت، ليغدو ساحة للصراعات الداخلية والوجدانية، ومرآة تعكس زيف الواقع وعنفه، لكن في الوقت ذاته يمكن أن يكون فرصة للتجديد والتأمل.

يتعمق "كيف نضحك أمام القتلة؟" في الجانب الفلسفي، حيث يتطرق الشاعر الى موضوعات الوجود والموت والفقد، والإنسانية في زمن الأزمات. هنا، يلتقي الشعر أسئلة الحياة الكبرى، ليغدو النص صوتا يعبر عن وجدان جماعة عانت من ويلات الحروب والدمار، دون أن يتوقف عن البحث عن مخرج أو بصيص أمل في وسط الظلام.

تشكل صور الديوان موجة من المشاعر المكبوتة والمواجهات الحادة مع قسوة الواقع، غير أنها مع ذلك تحمل جرعة من الجمال الذي يصنعه الشاعر من الرماد، وهو جمال يضفي على النص لمسة إنسانية تحمل تأملا واحتفاء بالرغم من الحزن.

يرسم سماء عيسى وجوها مليئة بالانكسار والحنين داخل عالم يعج بالألم والتمزق، فتتحول الكلمات إلى جسور تواصل بين الذات والعالم، والماضي والحاضر، والموت والحياة.

font change

مقالات ذات صلة