كيف صنعت "قضية دريفوس" حقلا أدبيا وسم الحداثة الأوروبية؟

من يتكلم حين نتكلم؟

AFP FILES
AFP FILES
صورة أرشيفية غير مؤرخة للضابط الفرنسي ألفريد دريفوس

كيف صنعت "قضية دريفوس" حقلا أدبيا وسم الحداثة الأوروبية؟

ليس مبالغة القول إن قضية دريفوس (1894–1906) فعلت في الحقل الأدبي ما تفعله المحاكمة في جسد نص: أرغمته على إنتاج الأدلة، على إعادة توزيع زمنه بين زمن الواقعة وزمن الحكي وزمن التلقي، وعلى تسجيل الشائعة بوصفها وثيقة ينبغي تفكيكها، وكذلك إعادة صوغ الذات الجماعية (الـ"نحن") في مرآة العدالة والحقيقة. فجأة صار النص ساحة مرافعات وأسئلة أخلاقية يستدعى فيها الضمير واللغة والذاكرة معا، وتختبر قدرة السرد على تحويل الوقائع إلى حجج وتحويل الضوضاء إلى معنى قابل للمساءلة.

يصرخ إميل زولا فتغادر القضية قاعة المحكمة إلى الفضاء العمومي، يتلاعب أناتول فرانس بالرموز ليعيد ترتيب سلم القيم، ويضع شارل بيغي المفاهيم والتصورات كمن يبني جهازا نقديا للوعي، ويستقلب مارسيل بروست الأثر في نسيج الذاكرة ليكشف كيف تصاغ الحقائق من مادة الزمن. وخلف هذه الإيماءات الفرنسية تلوح ساحة أوروبية أوسع: فرانز كافكا يجرب متاهة القانون والملف، كارل كراوس يفكك مونتاج الصحافة، وفالتر بنيامين يرقب انقلاب الأزمنة وتجاور الوثيقة والصورة، وهنري جيمس يصغي إلى دراما الشائعة والأخلاق في عيون السرد... هكذا يستقر منطق صار مشتركا: ملفات محكمة الإغلاق، ومونتاج إعلامي، وزمنيات قابلة للعكس، ويغدو الأدب مختبرا عموميا لإعادة تركيب "الحق" والـ"نحن".

من "الرواية-الملف" إلى "أخلاقيات الحجة"

فرضت "قضية دريفوس" واجب الإثبات على مستوى الكتابة، وهذا الإثبات ليس علميا، إنما إثبات يبنى بالسرد، عبر عرض الوقائع، إظهارها ومقارنتها. البداية مع زولا: رسالته المفتوحة كانت فعلا أدبيا يقوم على التسمية المباشرة، وهو ما تجلى في رسالته المفتوحة المعنونة بـ"إني أتهم". يبرز زولا نظام السرية في المحاكمة حين يقول: "لكن ها هو دريفوس أمام المحكمة العسكرية. يطلب عقد جلسة مغلقة بكل صرامة"، ليبين أن الحجب هو المشكلة التي يواجهها النص. هكذا تربط الفقرة بين دهشة الجمهور والإجراءات الإغلاقية، فتستخدم السرد لفتح ما أغلق أكثر من مجرد زخرفة. وهذا ما يتجلى في استخدام صيغة المضارع في التراكيب الجملية، فالهدف من ذلك هو إشعار القارئ وكأنه "في قلب الحدث".

غير أن الاستنكار وحده لا يحقق الاستمرارية الأدبية، وهذا ما أدركه أناتول فرانس حين حول القضية إلى تخييل تحت قناع شخصية بيرو في روايته "جزيرة البطاريق": في الكتاب السادس، ما يلفت النظر هو عرض آلية الحجة نفسها وليس السخرية فحسب، فحين يقول الوزير غريتوك: "قضية بيرو سرية، يجب أن تبقى سرية"، تؤدي الجملة مبدأ "إثبات مستحيل"، جاعلة من الغياب القطعة الرئيسة في الملف، إنها مشهد مبدأ لا مشهد نفس.

فرضت "قضية دريفوس" واجب الإثبات على مستوى الكتابة، وهذا الإثبات ليس علميا، إنما إثبات يبنى بالسرد، عبر عرض الوقائع، إظهارها ومقارنتها

كثيرا ما لخص بيرو بوصفه حكاية ضد الإكليروس وضد النزعة القومية، إلا أن فرانس يصوغ فيه قبل كل شيء بلاغة لعبث الإثبات. "لحسن الحظ، هكذا قيل، كان لدى القضاة يقين لأنه لم تكن هناك أدلة". هنا تتجاوز المفارقة الأثر الأسلوبي لتغدو وصفا لإجراء حرفي: اليقين لا يأتي من قرائن، بل من "خيال سيادي" يفرض نفسه ويعيد ترتيب الوثائق على مقاسه. بعد قليل يعود بانتر محملا "الأدلة" على شكل رزم، مشهد يقدم الكمية (الأمتار المربعة والأشكال والأوزان) بدافع القول إن النوعية بلا أهمية. هكذا يثبت فرانس في النثر نزعة العصر: هوس "الملف" كشيء بذاته، حتى لو كانت "الأدلة" أدبية بحتة.

AFP
صورة من سبتمبر 1899 تُظهر الضابط الفرنسي ألفريد دريفوس بعد إدانته مجددا في محكمة رين والحكم عليه بالسجن عشر سنوات

يلتقي هذا التشخيص الفرنسي بفكرة معرفية عند باحثين آخرين: لاحقا سيسمي كارلو غينزبورغ ذلك "نموذج الأثر"، حيث تطلب الحقيقة في الآثار والقرائن والأعراض، والأدب الدريفوسي جرب هذا المنحى قبل أن يصاغ له اسم: يصنع مشاهد يصبح فيها غياب القرائن قرينة بحد ذاته (عند أناتول فرانس)، أو تعرض فيها القرينة كأداة سياسية مباشرة (عند زولا). من جهته يقول ميشال فوكو، في بحثه حول "الأشكال القانونية للحقيقة"، إن الاعتراف والإجراءات هما مكونا الحقيقة، وفي "جزيرة البطاريق" يجعل فرانس الوزير غريتوك يقرر أن "ما من دليل لا يدحض سوى الاعترافات"، عبارة حرفية تبدو مقتبسة من دليل في عملية إجرائية متشائمة.

هكذا يضع زولا وأناتول فرانس (وعلى المستوى النظري كارلو غينزبورغ وميشال فوكو) طريقة عمل أدبية واضحة: الكتابة تحقيق. من هنا ستتبنى الرواية الفرنسية في القرن العشرين صيغا لـ"الخبرة المضادة" (أندريه جيد وروجيه مارتان دوغار) أو لـ"الأرشيف التخيلي" (مارسيل بروست الذي «يؤرشف» الصالونات والرسائل). بذلك يصبح الدليل نفسه بنية سردية.

الزمنيات القابلة للعكس

فرضت "قضية دريفوس" زمنا سرديا جديدا: نحكي بالرجوع إلى الوراء، نعيد كتابة الماضي كلما ظهرت وثائق جديدة، ننتظر الحكم أو العفو ثم نعيد التمثيل. هذا النسق الزمني يتسرب إلى الأدب ويشكل طرق سرده.

في العودة إلى "بحثا عن الزمن المفقود" لبروست، نجد أن الفصول "الدريفوسية" تعيد تنظيم التسلسل العاطفي للرواية، فالزمن هنا يتجاوز ما يطلق عليه هنري برغسون "المدة"، فهو زمن مراجعة يعيد فيه حدث عام تشكيل ماضي الشخصيات (آل غيرمانت وبلوخ وسوان) بإظهاره في ضوء يناقض الإدراك السابق. في "جانب غيرمانت" يعاد تشكيل الصالونات وفقا لخط مؤيدي دريفوس ومناهضيه، أما الاكتشاف الحقيقي فهو أن التحول السياسي يبدل الذاكرة التي نحملها عن الأشخاص: قابلية عكس الحكم الاجتماعي تتحول إلى محرك للسرد (ويسجل بروست ذلك بتبدل "بلاغي" في الصور والملامح، في السر).

الأدب الدريفوسي جرب هذا المنحى قبل أن يصاغ له اسم: يصنع مشاهد يصبح فيها غياب القرائن قرينة بحد ذاته أو تعرض فيها القرينة كأداة سياسية مباشرة

في النمط المقالي، يقدم شارل بيغي الصيغة الشعارية الأكثر نفوذا: "كل شيء يبدأ بمثالية روحانية وينتهي بالسياسة". لكن، إذا قرأنا "شبابنا" بوصفه سردا للتأخر (فالسياسي لا يصل إلا بعد فوات الأوان، حين تخبو الروحانية)، غدت الدريفوسية آخر انتفاضة لزمنية بطولية: "لقد كانت قضية دريفوس آخر انتفاضة، الرجفة القصوى لتلك الروحانية". إنها صيغة تقفل زمنا بات مطويا، وتلزم الأدب ابتكار أشكال حاضرة زائلة (افتتاحيات، أعمدة، يوميات)، كأن العمل لم يعد يستطيع ادعاء زمن مديد من دون المرور بهذه التأخيرات والاستئنافات.

أما في ما يتعلق بالأدب غير الفرنسي، فنجد أن هنري جيمس (في "مقدماته" ورواياته المتأخرة)، وفرانز كافكا على وجه الخصوص، يدفعان هذا النسق إلى أقصاه، فالأخير في "المحاكمة" يمسرح الزمنية المؤجلة لقانون بلا أفق: المشاهد تصف الإرجاء الدائم بوصفه الشكل عينه للعالم (إذ لا نبلغ قط "نهاية" التحقيق القضائي). وإن لم يكتب كافكا عن دريفوس، فإنه يكتب ضمن أثر أوروبي لاحق صار فيه الحدث القضائي الكلي نموذجا لزمن الأدب: أن تروي يعني أن تجري تحقيقا بلا نهاية.

AFP
بطاقة بريدية ألمانية تُظهر سجن ألفريد دريفوس في جزيرة الشيطان بمستعمرة غويانا الفرنسية

لنعد إلى فرانس: تدفع روايته "جزيرة البطاريق" إلى أقصى حد زمن الدليل الذي يصل متأخرا (رزم من "أدلة" جاءت بعد صدور الإدانة)، إذ تبنى السردية على تسليم متأخر للوثائق يفرض إعادة كتابة القضية. "لم تكن لدينا حين حكمنا عليه، لكننا عوضنا ذلك جيدا منذئذ"، هذا ما يقوله بانثر وهو يدخل في موكب من الحمالين، والمشهد يبرهن أن مجرد لوجستيات الملفات تكفي لضبط زمنية القص: الفعل يغدو تدفقا من الواردات.

تتكيف الرواية الفرنسية بعد عام 1900 مع هذه الآلية: يكيف أندريه جيد "حقيقة دفاتره" وفق تأخيرات وشطوب، ويمسرح روجيه مارتين دوغار مراجعات عائلية بوصفها قضايا صغرى. وهكذا نجحت "القضية" في تحقيق هذا المفارقة: إذ أعادت إلى الرواية قوة الحاضر (الكتابة في حالة ترقب)، وفي الوقت نفسه فرضت شكلا استرجاعيا (الكتابة بغرض التصحيح).

الكتابة بالتلويث

التحول الثالث الذي فرضته "قضية دريفوس" شكلي: يمتص الأدب الصحافة والإشاعة لا بوصفهما موضوعين فحسب، بل بوصفهما تقنيات. يتعلم أن ينسق مع أصوات دخيلة (الأبواب الصحافية، "اللغط"، الرسوم الكاريكاتورية)، وأن يركبها داخل النص.

فرضت "قضية دريفوس" زمنا سرديا جديدا: نحكي بالرجوع إلى الوراء، نعيد كتابة الماضي كلما ظهرت وثائق جديدة، ننتظر الحكم أو العفو ثم نعيد التمثيل

يقدم أناتول فرانس هنا "دليل الاستخدام". أولا الإشاعة بوصفها ليتورجيا وطنية: "لقد علمت جزيرة البطاريق كلها، برعب، بجريمة بيرو"، وبالأخص: "أن الناس يحسون نوعا من الرضا لمجرد العلم بأن هذا الاختلاس، المقرون بالخيانة والمقارب للتدنيس، قد ارتكبه يهودي صغير"... هذه الجملة الجافة تصف التوافق الوجداني لجمهور ونظام إثبات يماهيه (إذ تغدو الإدانة مقالة إيمان). ثم يعرض فرانس "اقتصاد اللغط": يغدو غريتوك في "صمت بديع"، فيما "كان بانثر يفيض بخطب لا تنضب، ويثبت كل صباح ذنب المحكوم عليه في الصحف"، ثم يجزم الراوي قائلا: "البداهة غير قابلة للبرهنة". هكذا يغدو النص الساخر رسالة في صحة الفضاء العام: فرط الدليل يقتل الدليل، وكثرة الخطاب تكدر الذهن.

Reuters
مقال "إني أتهم" لإميل زولا كما نُشر في صحيفة "لُورور"، في متحف دريفوس بممتلكات زولا قرب باريس، 26 أكتوبر 2021

بالحديث عن زولا وصحيفة L'Aurore، لا تكون الصحافة مجرد وسيط ناقل، بل فضاء تجيز فيه الدلالة الأدبية لنفسها النداء المباشر وتعداد الأسماء، فتغدو أكثر صيغ التلفظ سجالا أداة لإجراء جردة (مقالات "إني أتهم…!"). وإذا كان الأدب اليوم "يركب" الوثائق، فذلك لأن زولا، بادئ ذي بدء، أقام داخل النص "منضدة الأدلة" بوصفها آلية جمالية لا ملحقا بسيطا. ومن هنا يفهم أن يجعل كارل كراوس (النمساوي) في مجلة Die Fackel من تدوير قصاصات الصحف فنا للجملة: الأدب لا يقتبس الصحافة، بل يتوسل بها لكشف علل لغة الفضاء العام (القلب، الإنكار، والحذف المضلل). لاحقا سينظر فالتر بنيامين لهذا الفعل قارئا للقضية عن بعد: إن المونتاج (للصور والاقتباسات) هو الشكل الوحيد الملائم لحداثة لا تبقى فيها الحقيقة إلا بثمن تجزيئها.

يدفع فرانس التمرين إلى المهزلة اللوجستية: يحصي بانثر الأدلة بالأمتار المربعة وبالأحجام، إلى أن يصير الإحصاء شعرية للزيف، وتبلغ السخرية ذروتها حين يعلن غريتوك تفضيله ألا تكون هناك أدلة ("لعله أجدى ألا نملكها")، لأن الاعتراف (ولو كان اعترافا بريئا) يعد سيد الأدلة. إن حرفية النص تصف نحو الإشاعة - ex opere operato (بمفعول الفعل ذاته): الكلمة ("لقد اعترف") تصنع موضوعها.

يمتص الأدب الصحافة والإشاعة لا بوصفهما موضوعين فحسب، بل بوصفهما تقنيات. يتعلم أن ينسق مع أصوات دخيلة وأن يركبها داخل النص

ومن ثم تترتب نتيجتان شكليتان على الأدب الفرنسي: (1) ازدهار نصوص هجينة (كرونيك/عمود، منشور هجائي، رواية-أرشيف) تقبل أن تستشهد بالإشاعة لتفكيكها على نحو أفضل، (2) إعادة تشكيل شعرية الأسلوب غير المباشر الحر، لا بوصفه إجراء "نفسيا" صرفا، بل بصفته تقنية عدوى/تلوث متعمدة (إشاعة تتكلم داخل رأس ما، والكاتب يدعها تمر - مميزة، مسكورة بسخرية، لكنها تظل بقايا/أثرا رسوبا).

منظورات أقلياتية مقابل الكلاسيكية الوطنية

يبقى أثر أعمق: تحدث "القضية" صدعا في إيثوس "نحن". تتواجه جماليتان.

الأولى هي الجمالية الأقلية، حيث تصاغ "نحن" انطلاقا من تبئيرات منقصة: وجهات نظر شخصيات مسندة إلى هويات بعينها (يهود، أجانب، "مثقفون")، وزوايا "مائلة"، وأصوات مسقطة الصدقية أو معاد تأهيلها بسخرية. يتقن بروست ترك الإدراك السياسي لعائلة (آل جيرمانت) يتشكل عبر تحيزات ضيف (الراوي)، وصديق يهودي (بلوخ)، وعاشق (سوان)، فالسياسة تقيم في انزياحات النبرة، وانقلابات التحالف والنعوت التي تنقلب، لا في خطاب سادة البيت المباشر: فلان "فاتن" ثم "مشتبه به"، "قويم" ثم "لا يطاق". بهذا المعنى فإن النثر البروستي الكبير أقل ابتعادا عن السياسة مما قيل: إنه يبتكر سوسيولوجيا للإدراك بوصفها أثرا مباشرا لـ"القضية" (حيث تعيد كل نظرة توصيف أحد ما).

AFP
صورة قديمة تُظهر مطبعة صحيفة "لو فيغارو" في باريس

أما الثانية فهي الجمالية الكلاسيكية الوطنية، حيث يعود الأدب إلى سرد الهوية، إلى ملحمة جماعية أحادية الصوت. في مؤلفه الشهير "مشاهد وعقائد القومية"، يحول موريس باريس القلق المعاصر إلى مبرهنة هوياتية ("الأرض والموتى"، والوراثة معيارا): أسلوب قصير حكمي، منطق موافقة وإقرار، وصمت محسوب - نثر شكله نفسه يقوم مقام الجملة الحكمية. في حين يثبت شارل موراس، عبر صحيفته "الحركة الفرنسية"، نبرة تقريرية قضوية (حكم، "تشخيصات" للدولة، مواقف/مقاطع)، لا تخلو من جودة بلاغية، غير أن "نحن" فيها يفرض من عل. في هذه الكلاسيكية السياسية يغدو الأدب جسد عقيدة: لا يظهر ولكنه يصرح.

قوة اللحظة بين 1900 و1925 أن هاتين الجماليتين تتعايشان، تترصد إحداهما الأخرى، وتتبادلان التقليد أحيانا، فالنثر الهامشي الأقلوي يستعير من الكلاسيكية جملتها الدورية وسعتها ‏(بروست وفرانس في الفصول النظرية)، بينما تتبنى الكلاسيكية الوطنية أحيانا مؤثرات روائية ‏(أمثلة، شخصيات نمطية، مشاهد قصيرة). وعلى المسرح الأوروبي يعيد كتاب أجانب تمثيل هذا التوتر: يقابل توماس مان في "الجبل السحري" كلاسيكية إيديولوجية ‏(ستمبريني/نافتا) ببؤر سردية واهنة ‏(كاستورب)، بينما يبين ت. س. إليوت في قصائده بين 1919 و1922 ما الذي يصير إليه "الصوت الجماعي" حين يتفتت إلى اقتباسات. إذا ليست فرنسا وحدها: لقد حقنت قضية دريفوس الأدب الأوروبي بسؤال: من الذي يتكلم حين نتكلم؟

عند هذه العتبة يبدأ سؤال إضافي: كيف تكتب رواية-أرشيف في زمن تدفق لا ينقطع؟ وكيف يحافظ الأدب على طاقته التحقيقية من غير أن يستسلم لمقاييس الملف الجاهز؟

التقط فرانس هذا الصراع على سبيل الاستباق: حين يعلن الوزير أن السر هو المصلحة العليا، فإنه يقيم "نحن" مجردة (جزيرة البطاريق) في مواجهة "هم" معينين (بيرو، كولومبان). وفي المحكمة يأمر الرئيس كولومبان بالصمت "حفاظا على المصلحة العليا للدولة"، أي باسم "نحن" كلية. يقدم النص ذلك للقراءة بلا تعليق، بوصفه مشهدا لتلفظ الجماعة - تصييغا حرفيا لابتزاز بـ"نحن".

AFP
نسخة من صحيفة "لورور" الصادرة في 13 يناير 1897 تنشر رسالة إميل زولا الشهيرة "رسالة إلى رئيس الجمهورية"

"الشجاعة هي أن نبحث عن الحقيقة وأن نقولها"

يتهيأ لنا أن "القضية" جهاز يشتغل داخل الكتابة أكثر منها موضوعا يروى: ما بدا محاكمة على الورق صار مختبرا عموميا يعيد ترتيب أزمنة السرد وتوزيع الأدوار بين شاهد وراو وقارئ. الإدانة الأولى كانت سرية، لكن النصوص أخرجت السر إلى ضوء محاجج، فصار الملف عنصرا من عناصر الإنشاء، والإشاعة مادة تفكك بدل أن تستعاد. بين زولا الذي نصب منضدة للأدلة، وأناتول فرانس الذي جعل الغياب قرينة، وبيغي الذي صاغ توقيت الأخلاق، وبروست الذي قلب الذاكرة على مهل، وهنري جيمس وكافكا حيث التحقيق لا ينتهي، تتشكل بلاغة تعيد صوغ الـ"نحن": مرة بصوت مركب قليل الثقة بنفسه، ومرة بنبرة كلاسيكية نافذة تعلن ولا تبرهن. هكذا يتبين أن الأدب تجاوز مسألة التعليق على القضية فحسب، إذ غير بنية القول حين نتكلم معا.

من هنا يمكن أن تمتد أسئلة "من يتكلم حين نتكلم؟" إلى خرائط أبعد: أرشيفات رقمية تتكاثر بلا رقيب، ومونتاج صوري يسبق الوقائع، وخوارزميات تمنح الاعتراف قبل الدليل، ومسارح عمومية جديدة يتجاور فيها الخبر والشهادة. يمكن قراءة "قضية دريفوس" اليوم بوصفها عتبة لسوسيولوجيا إدراك تعيد فحص الجماعة كلما تغير وسيط القول، وبوصفها درسا في أخلاقيات الحجة حيث تصاغ "نحن" على مرأى من قابليتها للعكس. عند هذه العتبة يبدأ سؤال إضافي: كيف تكتب رواية-أرشيف في زمن تدفق لا ينقطع؟ وكيف يحافظ الأدب على طاقته التحقيقية من غير أن يستسلم لمقاييس الملف الجاهز؟ ما يفتح هنا برنامج قراءة وتجريب جديدين لعدالة النص وحدود صوته الجماعي.

font change

مقالات ذات صلة