6 ساعات في "المتحف المصري الكبير" قبيل افتتاحه التاريخي

إجابات قديمة عن أسئلة معاصرة

Khaled DESOUKI / AFP
Khaled DESOUKI / AFP
زوار المتحف المصري الكبير في الجيزة، في الجهة الجنوبية الغربية من العاصمة القاهرة، في ٥ مايو ٢٠٢٥

6 ساعات في "المتحف المصري الكبير" قبيل افتتاحه التاريخي

خلال فترة افتتاحه التجريبية على مدى عام، تدفق آلاف الزوّار من كل أنحاء العالم على منطقة الجيزة، قرب الأهرامات الثلاثة الشهيرة بالقاهرة، من أجل التواصل عن كثب، في مكان جذاب وجامع، مع مولدات طاقة فكرية وروحية، قد تساعد في بناء اجابات عن أسئلة محيّرة، لا في مجال علوم الحضارات والآثار وأشكال الحياة قبل آلاف السنين، فحسب، وإنما أيضا في شؤون علوم الميكانيكا والهيدروليك، والزراعة المستدامة والحفاظ على مقدرات ودور مملكتي النبات والحيوان، وأيضا الاقتراب من الأساليب العلاجية عبر روحانيات التأمل وأثر الشعر، ومن ثم اعادة الاعتبار الى الفكر وأخلاقيات الكلمة، وغير ذلك من العناوين المعاصرة التي تبدو معاصرة وملحة جدا.

"المجلة" استبقت الافتتاح الرسمي لما سيعتبر "أضخم متحف مصريات في العالم" وتفقدت المتاح من المعروضات والمفتوح من الصالات، في جولة دامت ست ساعات، لم تخل من الاستلاب العميق الذي يشكله سحر العلوم لدى شعوب بدأت خط سرديتها قبل 7 آلاف سنة ولا تزال تلهم العالم الى لحظتنا.

غواية رمسيس الثاني

يخطف الملك رمسيس الثاني القلوب من دون أن "ترف له عين".

اعتاد ملك "مصر العليا"، منذ اكتشاف تمثاله التجسيدي البالغ ارتفاعه 11 مترا ووزنه 83 طنا، على لعبة غواية لا تنتهي، ينثرها في كل الأماكن التي يتنقل فيها.

منذ ذلك اليوم الذي كشف فيه عن وجهه، لأول مرة، للمنقب جيوفاني كافيليا (1770-1845)، قبل أكثر من مائتي عام، مرورا بالأيام التي أمضاها (أو أمضتها أجزاء منه) تحت مبضع النحات والأكاديمي المصري العالمي أحمد عثمان (1907-1970)، الذي أعاد إليه ساقيه، ليكتمل هيكل جسده الجليل، بعدما عثر عليه في 6 أجزاء، تمكن صاحب التاج البديع، الموشومة رجلاه باسمي ابنتيه، ميريت آمون وبنت عنات، من الارتحال بين ميادين مصر وأهواء وسياسات حكامها، طوال مائة عام، في رحلة بدأت في "ميت رهينة" بالجيزة، لتعود إلى المنطقة ذاتها، بعد إقامات في محطة مصر، ثم باب الحديد، ثم ميدان التحرير استغرقت عقودا من الزمن.

ومن دون احتساب منجم الغوايات التقليدي وغير الآخذ بالنضوب لأسرار الفرعونيات وشيفراتها، فإن تمثال رمسيس الثاني الذي يقف شامخا في استقبال زوار المتحف، يستمد سحره أولا من تلك الارتحالات التي أضافت إلى سجل حجارته سجلا آخر أكثر معاصرة وارتباطا بأهل مصر الحاليين، وإنما ايضا من تلك الدروس العلمية في تقنيات البناء والنحت التي لا تزال إلى يومنا هذا تشكل مصدر إلهام وحيرة للعلماء والدارسين.

في الباحة، تموج الظلال المتسربة من السقف المليء بمتواليات هندسية معاصرة وأنيقة ومنسجمة مع طاقة المكان، لكن غلالتها لا تقوى أبدا على سرق الأنظار من هيبة الملك. سيكون عليك أن تقترب قليلا لتفحص جماليات صقل الأحجار، في التمثال العملاق، ومن ثم تبتعد كثيرا، ليتسنى لك الإحاطة الكاملة به، ليبدأ عقلك على الفور بالتفكير في الحسابات ومنطق الهندسة. هكذا، في طقس التنقل بخفة بين ضفتي الفن والعلم، يكمن وجه آخر من غواية رمسيس، فتزداد الألفة وينبت شعور بين عمق البشر وعمق الحجر.

في طقس التنقل بخفة بين ضفتي الفن والعلم، يكمن وجه آخر من غواية رمسيس، فتزداد الألفة وينبت شعور بين عمق البشر وعمق الحجر

لا يرتاح كريستوفر دن (1946-)، المؤلّف الإنكليزي، ابن مانشستر، إلى النظريات التي تركن للتحدث عن أدوات تقليدية بسيطة استخدمها المصريون في نحت هذا التمثال، وتماثيل ومسلات وواجهات معابد أخرى، احتاج العمل بها إلى زمن وجهد مديدين يشيران الى شكل من أشكال العبودية. يفضل بدلا من ذلك  تخيل الأصعب: "لقد امتلكوا معارف هندسية لا تزال عصية على فهمنا حتى اليوم.

Khaled DESOUKI / AFP
يسير الزوار بجانب التمثال الغرانيت الوردي الضخم للملك رمسيس الثاني، البالغ عمره ٣٢٠٠ عام، عند مدخل المتحف المصري الكبير في الجيزة، ٧ فبراير ٢٠٢٥

في تمثال رمسيس الثاني وغيره، تحيلنا مقاييس التماثل المذهلة والدقة التي تصل إلى مستويات أبعاد الميكرون في التعامل مع الأحجار، ناهيك عن تقنيات القص التي خلفت آثارا شبيهة بتلك التي تتركها المناشير وآلات الحفر العالية السرعة، إلى تكنولوجيا متقدمة ترتكن إلى معرفة دقيقة بالهندسة والميكانيا"، كما يرد في كتابه المرجعي: "عموم التكنولوجيا المفقودة لمصر القديمة: الهندسات المتقدمة في معابد الفراعنة". وهو ما تدعمه بحماسة عالمة الأثريات المصرية فرخندة حسن (1930-2020) في كتابها "التكنولوجيا المصرية القديمة"، الذي وسّعت فيه دائرة التقصي والتأمل من النحت الى التقنيات المستخدمة في الري والزراعة وصناعة الخبز والمواد الغذائية، والتعدين، وصناعة الأسلحة الحربية، والممارسات الطبية وصناعة العقاقير.

نظام الأصل العائم

بين الردهة السفلية للمكان ومدخل الصالات، يصعد بارتفاع 10 أمتار درج استمد وصفه "العظيم" من اصطفاف تماثيل ضخمة على عتباته تزن مئات الأطنان، بمعدل 35 طنا لبعض منها. تشرك هذه التماثيل الزائر في متاهة السؤال عن جهود الهندسة التي واءمت بين التصميم والقدرة على التحمل من جهة، وسيناريوهات نقل التماثيل (هي في المناسبة مفضلة كثيرا لمحبي التقاط صور "إنستغرام" و"تيك توك" من المشاهير والمؤثرين والطامحين) وتثبيتها. لكن نظرة سريعة إلى الخارج، عبر النافذة الزجاجية الضخمة في أعلى الدرج، تظهر أهرامات الجيزة الثلاثة الشهيرة جاثمة في مكانها القريب، والتي أريد لها أن تكون جزءا من زيارة المتحف. تبدد الأهرامات أي "حيرة هندسية" مذكرة بأن الانجازات الخلاقة للمعماري في هذا المكان، لم تنقطع عبر العصور. وبداية القصة قد تكون من تمثال صغير معروض داخل المتحف، مرفق برسوم بيانية، يجسد نموذجا لما يعرف بـ"أصل الهرم" أي "هرم الملك زوسر" الموجود في سقارة.

Khaled DESOUKI / AFP
زوار المتحف المصري الكبير في الجيزة، في الجهة الجنوبية الغربية من القاهرة، ٥ مايو ٢٠٢٥

إنّه أول "بناء حجري ضخم فى العالم، يعود وجوده إلى حوالى العام 2700 ق.م". في وقت لاحق، قام ملوك الدولة القديمة بتطوير هذا التصميم ليصل إلى شكل الأهرامات ذات الجوانب الملساء، أو ما يسمّى بـ"الشكل الهرمي الكامل"، والتي يعتبر أضخم تجسيد لها هرم خوفو الأكبر.

و"قد يكون هرم زوسر بُني مستفيدا من نظام معقد للرفع الهيدروليكي لا يزال مطبقا إلى اليوم"، بحسب ما تشير دراسة حديثة نشرت في "ساينس فوكس" المتخصصة. تضيف الدراسة: "على مقربة من موقع بناء الهرم الذي يطابق ارتفاعه مبنى من 14 طابقا، تم جرّ المياه من سد لتتم معالجتها عبر نظام عائم، امتد 400 مترا، وبعمق 27 مترا لضمان جودة المياه المستخدمة في عملية البناء".

مساحة المتحف 500 ألف متر مربع، تشمل 12 قاعة يعادل اتساعها ضعفي مساحة "متحف اللوفر" الفرنسي الشهير وضعفي ونصف الضعف "المتحف البريطاني"

هذا النظام الذي ساهم في نقل الكتل الحجرية العملاقة يُعتقد بشكل كبير أنه تضمّن مضخات داخل الأعمدة في الهرم، رفعت إليها المياه قبل تصريفها باستخدام نظام سدادة، مما سمح بإعادة استخدام العملية أكثر من مرة.

Khaled DESOUKI / AFP
تنظر إحدى الزائرات نحو أهرامات الجيزة أثناء جولتها في المتحف المصري الكبير، الجيزة، ٥ مايو ٢٠٢٥

"نفر"... الذي قدّس الحرف

في "المحيط" الهادر لـ"المتحف المصري الكبير" تستمر رحلة الغوص في أعماق حكايات تحف ذات أثر حضاري كبير. ووسط أكثر من 24 ألف قطعة معروضة من أصل 100 ألف يخطط لانكشافها جميعا، مع الافتتاح الرسمي المزمع، وعلى مساحة تمتد على 500 ألف متر مربع، تشمل 12 قاعة يعادل اتساعها ضعفي مساحة "متحف اللوفر" الفرنسي الشهير وضعفي ونصف الضعف "المتحف البريطاني"، ليس من السهل الاهتداء إلى قطعة صغيرة لا يتجاوز حجمها سنتيمترات قليلة، لكن ما تعبر عنه له أثر عظيم.

مجموعة من فرق موظفي المتحف، المتمرسين على المعرفة ولباقة الاستضافة التي لا تخلو من الحس المصري المميز، تعاون الزوار للاهتداء إلى قطع مخصصة ذائعة الصيت، كما يساعد التقسيم الداخلي المبتكر والسهل للمساحات على الوصول لها بسهولة: يجحظ الكاتب "نفر" عينيه، مذكّرا بالعهود المعرفية الذهبية للأسرة الخامسة (قبل حوالى 4500 سنة)، ومحاطا بهالة من الغموض مكمنها "النصوص المقدسة" التي خطها في بردياته المرتكزة على ساقيه المعقودتين.

Khaled DESOUKI / AFP
تمثال الكاتب الجالس "نفر" (الأسرة الخامسة، ٢٤٥٠–٢٣٢٥ ق.م) الذي عُثر عليه في أبو صير، يُعرض في المتحف المصري الكبير خلال التشغيل التجريبي، ١٥ أكتوبر ٢٠٢٤

منذ أن عُثر عليها في "أبو صير"، حظيت هذه القطعة الجيرية ذات الأكاسيد اللونية، بشعبية مذهلة بين رواد المتحف الذي، هو أيضا، تنقلت إقاماته على مدى أكثر من قرن بين مواقع متعددة في القاهرة، من بولاق إلى الجيزة، ثم ميدان التحرير حيث "المتحف المصري القديم" بلون بنائه الزهري الشهير منذ 1902، وصولا إلى الجيزة مرة أخرى حيث "المتحف الجديد".

يقترب زائر صيني من الصندوق الزجاجي الذي "يتعبد" فيه " نفر" في هيكل الحروف التي غيّرت وجه الحضارة. تبدو المصادفة طريفة، إذ قبل أن يعرف أهل حضارته الصينيون لفائف الورق للكتابة، عرف المصريون البرديات، بزمن طويل. وغدت "وثائق البردى" إسهاما موثقا للحضارة المصرية في سجل الفكر البشري، وهي "لم تحمل فكر وإبداع أسلافنا البشر فقط، بل توثيقا لنبض حياة لا يخلو من العاطفة والأحاسيس"، على ما يصف المؤرخ الروماني بيلينيوس الأكبر (؟-79) في القرن الأول للميلاد، ويقتفي أثره عبد اللطيف أفندي في كتابه "البردى: دراسة أثرية وتاريخية" بالقول: "أينما وجدت البرديات، وجد التاريخ الصحيح".

Khaled DESOUKI / AFP
زوار المتحف المصري الكبير في الجيزة، في الجهة الجنوبية الغربية من القاهرة، ٥ مايو ٢٠٢٥

"لقد صرت مدرّبا على الأسرار العظيمة"، تخاطب النقوش القديمة "نفر المعروف لدى الملك" وأمثاله من الكتاب الذين تمتعوا بامتيازات عريضة بسبب "ثقافة الكتب المنقوشة على قلوبهم" ومهارات "ألسنتهم الفصيحة وعباراتهم العريضة"، ناهيك عن أعماقهم الأكثر غورا من الأرض "واتساعا من السماء" وأفكارهم "المتدفقة كموج البحر". فكلمتهم مسموعة عند الحاكم وهم معفَون من الضرائب واحترامهم واجب طالما يتعاملون باستمرار مع اللفائف المشعة المصنعة من تلك النباتات التي تنمو بغزارة حول مستنقعات نهر النيل، والتي لا تزال تمنح هدايا فائقة القيمة لرواد العلم وأيضا الفن في يومنا هذا.

البردى يمنحنا فكرا جديدا في علوم التصميم يمثل أقصى درجات الاستدامة، إذ أن المادة تزرع وتصنع وتسوى بالكامل في مصر ومن خامات مصرية – هشام العيسوي

فخلال دورة العام 2022 التي عقدت في مصر من "مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي" (مؤتمر الأطراف كوب) أعلن مصمم أثاث مصري أنه وجد، في البردى، بديلا تصنيعيا مستداما "يحول دون  تقطيع مزيد من الأشجار والمساس بالغابات، ومنع الأثر الضار للكربون المنبعث من عمليات شحن وتقطيع الخشب عند استيراده إلى مصر، وكذلك وقف الكم الهائل من الماء المهدر أثناء ذلك". وعرض المهندس أمام زوار المؤتمر من العالم كله كرسيا عبر عن فخره بأنه مصنع من خامة البردى وبطريقة النجارة القديمة التي امتهنها قدامى المصريين وسموها "تجميع الخامة" (وبالوصف الدارج حاليا العاشق والمعشوق) التي تستغني عن المسامير في تثبيت الكساء على المتن: "البردى يمنحنا فكرا جديدا في علوم التصميم يمثل أقصى درجات الاستدامة، إذ أن المادة تزرع وتصنع وتسوى بالكامل في مصر ومن خامات مصرية"، يذكر المصمم هشام العيسوي، مؤكدا الفائدة الاقتصادية لمنتجه، إذ أن مصر "لم تكن في يوم دولة منتجة للأخشاب، وهي تستوردها بما يقدر بملياري دولار سنويا".

يبدو "نفر" سعيدا بأن لفائفه قد تمدد استخدامها الى عصرنا الحالي، في صناعة الأثاث الراقي، بعيدا من الكتابة، لكن جحوظ عينيه ربما يحمل "إشارة احتجاج" ضمنية وتحذير من التخلي عن العلاقة المقدسة بين خامة البردى وبين التعبير الكتابي، والتي تظهر في أبهى تجلياتها في النصوص الشعرية الآسرة التي تركها المصري القديم مدونة تخط فكر الحب ومشاعره.

Khaled DESOUKI / AFP
زوار المتحف المصري الكبير في الجيزة، في الجهة الجنوبية الغربية من العاصمة القاهرة، في ٥ مايو ٢٠٢٥

خلال عهد "الملوك الرعامسة" (من الأول إلى الخامس) انعكس التقدم في مختلف مناحي الحياة على رفاهية ما في سلوك الناس، فازدهرت وسائط التعبير العميقة، ومن بينها الشعر.

مما وجد في البرديات وعلى جدران المعابد، تعرض لوحات وخراطيش في المتحف، نقرأ شذرات منه: "ثغر حبيبتي برعم زهرة لوتس، صدرها ثمرة طماطم، جبينها حلقة من خشب السنط، وأنا أوزة برية، أتطلع بنظراتي إلى شعرها المسترسل، كأني طُعم في شرك وقعت فيه". و"أنا صديقتك الأولى، أنظر! أنا كالبستان الذي زرعته زهورا، بكل أنواع العشب العطر الرقيق. جميل هو المكان الذي أتنزه فيه عندما تكون يدك في يدي، جسدي في غاية الراحة، وقلبي مبتهج لأننا نمشي معا. أنا أحيا بسماع صوتك، وإذا نظرت إليك، فكل نظرة بالنسبة لي أطيب من المأكل والمشرب". وكذلك ما ترجمه عن الإنكليزية محمد حسين الشيخ: "سأنام وأحتجب في البيت، سأكذب وأدّعي المرض، سيأتي الجيران يطمئنون، وستأتي معهم حبيبتي"، و"مررتُ بمنزلها الذي غطاه الظلام، محجوبة عني ماذا أفعل كي أراكِ، طرقت الباب فلم يردّ أحد، ليلة سعيدة على عزولنا، حاجبنا! أيتها المسامير سأخلعك، أيتها المحجوبة مصيري لك، ألست روحي التي تحييني".

Khaled DESOUKI / AFP
إحدى الزائرات أمام الدرج الكبير في المتحف المصري الكبير وتلتقط فيديو لتيجان الأعمدة التي تصوّر الإلهة المصرية القديمة حتحور، الجيزة، ٥ مايو ٢٠٢٥

قرد في "وضعية العشق"

تلك الترنيمات من "الحب العتيق" لم تكن كفيلة فقط في جذب قلوب البشر إلى دائرة العشق، بل أيضا قلوب صنف من اصناف الحيوانات التي لا يزال علماء الآثار والحمض الوراثي يحاولون جاهدين فك طلاسم علاقتها بقدامى المصريين. وهي حيوانات تقفز وتهلل وتصدر أصواتا عريضة وتنادي الشمس بـ"وضعية العشق": إنها قرود "البابون" ذات الحضور الضخم والمحبب.

تكشف هذه النظرة التشاركية أسلوب حياة تركز عليه النظريات الأحدث في مجال التوازن الطبيعي والانسجام مع الكائنات الأخرى التي تشاركنا العيش على كوكب الأرض

في المتحف، تشير البيانات المعلقة إلى جانب "لوح البابون"، إلى اعتقاد المصريين القدماء بأن هذا النوع من القردة يعرف كيف يحتفي بالصباح ويهلل لشمسه الطالعة، "لذا غالبا ما نحتت تماثيل لقردة البابون رافعة أيديها في وضع تعبدي".

لكن هذه التماثيل الجيرية التي تعود الى وقت الدولة الحديثة، لا تزال الى اليوم تحفّز العلماء على مزيد من بذل الجهد.

Khaled DESOUKI / AFP
إحدى الزائرات قرب تمثال نصفي للملك المصري القديم إخناتون في المتحف المصري الكبير بالجيزة، ٧ فبراير ٢٠٢٥

ويم فان نير، الباحث في المعهد الملكي البلجيكي للعلوم الطبيعية، هو أحدهم، وقد نشر أخيرا دراسة  ذكرت أن المصريين القدماء "انتهجوا تربية قردة البابون ضمن أنواع مختلفة من الحيوانات بهدف تحنيطها لأغراض دينية، وهو السلوك الذي بدأ في القرن التاسع قبل الميلاد وامتد حتى القرن الرابع الميلادي". ووفق الدراسة، قام باحثون من فرنسا وبلجيكا وألمانيا بفحص بقايا 36 قردا بأعمار مختلفة يعود تاريخ بعضها الى 2500 سنة، وجدت مع مومياوات استخرجت من موقع وادي القرود على الضفة الغربية للأقصر. وتوصلوا إلى مكانة  "البابون" المقدسة باعتباره تجسيدا أرضيا لـ"تحوت"، إله القمر والحكمة ومستشار رع، إله الشمس. وبهذا، حسب وصف عالمة الأحياء من جامعة "كونستانس" الألمانية، جيزيلا كوب، فإنه "يبدو أن قردة البابون خدمت غرضا روحيا مزدوجا، إذ هي محاورة روحانية شمسية-قمرية مبكرة في التاريخ، وهو ما يؤكده سليم حسن في موسوعته التاريخية الشهيرة "مصر القديمة"، إذ كشف أن المصريين القدماء "كانوا يألفون ويستأنسون نوعين من القردة، أولهما لونه أخضر كلبي الرأس، أطلقوا عليه اسم ميمون أو قردوح، والثاني رسم بلون أصفر... كانوا يعتبرون الحيوان عموما شريكا لهم في عمارة الأرض وبناء الحضارة، وظهرت في عدة مقابر فرعونية صور ورسوم وجدران تكشف دور القردة في الصيد وري الأرض وجمع المحاصيل".

تكشف هذه النظرة التشاركية أسلوب حياة تركز عليه النظريات الأحدث في مجال التوازن الطبيعي والانسجام مع الكائنات الأخرى التي تشاركنا العيش على كوكب الأرض. نظرة قد يصفها البعض بالمثالية، لكن محض حاجتنا لها، كما للاستلهام من معارف القدماء لأجل إنقاذ ما تبقى من مقدرات كوكبنا من براثن الفوضى والتلف، كفيلة لجعلها ملحّة وثرية. تماما كما هي زيارة "المتحف المصري الكبير" لمرات لا تحصى، اذ هو، بالفعل، كما وصفه أخيرا عالم الآثار في "الجمعية الجغرافية الوطنية الأميركية"، فريدريك هيبرت "المتحف المثالي في المكان المثالي".

font change