لِمَ يصلحُ الأدب؟ إجابة شافية من أكاديميّ فرنسي

لا يزال محتفظا بقيمته الجوهرية

AFP
AFP
البروفسور أنطوان كومبانيون

لِمَ يصلحُ الأدب؟ إجابة شافية من أكاديميّ فرنسي

"وداعا للأدب!"، عنوان كتاب لمؤلفه وليام ماركس يعدّ مصدرا بحثيا في جامعات مثل السوربون وكولومبيا وغيرهما من الجامعات المرموقة. شعار "موت الأدب" صار خطابا متداولا منذ تسعينات القرن المنصرم. يدافع البروفسور أنطوان كومبانيون رئيس كرسي الدراسات الأدبية في جامعة السوربون، عن الأدب، وعن فاعليته وأهميته واستمراره بيننا في العصر الراهن، في هذا الكتيّب الذي هو نافذة جميلة على المستجد في مجال الأدب وفلسفته والأطروحات حوله وهو في الأساس نص لمحاضرة مهمة ألقاها في "الكوليج دو فرانس" عام 2006، حيث حاضر الأديب والفيلسوف رولان بارت، والفيلسوف والمؤرخ الكبير ميشال فوكو وآخرون قبله.

الكتاب صدر أخيرا بالعربية، بترجمة حسن الطالب عن "دار الكتاب الجديد" في (ضمن سلسلة نصوص). في المقدمة يستعرض المترجم الحال التاريخية في النظر إلى الأدب وأزمته، مشيرا إلى أننا سنفهم هذه المحاضرة إذا فهمنا انحسار الأدب وقيمته وازدياد النقد حوله منذ التسعينات مرورا ببداية الألفية إلى يومنا هذا، خصوصا (يؤكد المترجم) مع تضخم الشبكة العنكبوتية وحضور التواصل الاجتماعي.

سنفهم لماذا هذه المحاضرة وهذا العنوان مهمان إذا استعرضنا بعض الكتب التي ذكرها المترجم في مقدمته مثل: "أفول الثقافة الأدبية" لجان ماري دوميناش (1995) وكتاب "نهاية الأدب" في جزءين ويضم دراسات وأوراق ندوات دولية صدر عام 2011-2012، وكتاب "وداعا للأدب" لوليام ماركس الصادر 2005 وغيرها.

يذهب كومبانيون ممسكا بطرف عنوان محاضرته إلى جوهر الأزمة وطُرق مباشرتها فيقول: "ما الذي يستطيعه الأدب؟ بعبارة أخرى: لِمَ يصلح الأدب؟ ولا ضير، إذ نخاطر في الإجابة عن هذا السؤال، في أن نبدو أناسا ساذجين تجاوزهم الزمن بعد كل هذه السنوات من الجدال النظري في شأن الأدبية بوصفها القيمة الشكلية التي تؤسّس الأدب بما هو أدب، بدلا من الجدال في شأن الوظيفة المعرفية والجمالية والأخلاقية أو العمومية للأدب، لأن المراوغة ستكون عملا غير مسؤول في وقتٍ يُنشر فيه في كل فصل من فصول السنة، كتاب من الكتب التي مضمونها "وداعا للأدب".

كومبانيون هو أحد المؤهّلين فعلا لمباشرة هذا السؤال ليس لأنه المتقلّد كرسيّ الدراسات الأدبية في السوربون منذ عام 1994 بل لأنه انخرط قبل الأدب في المجال العلمي، حيث عمل مهندسا للجسور، ثم حوّل وجهته بقوة بعد تأثره بمحاضرات رموز كبار في العلوم الإنسانية مثل فوكو التي كانت تقام في "الكوليج دو فرانس"، فسُحر الشاب آنذاك وقرّر تحويل دفّة حياته ودخول مجال الدراسات الإنسانية وقدّم أطروحته للدكتوراه وواصل ترقياته العلمية.

أي شيء يمكن أن نستفيد منه في حضور الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع؟ الأدب بدوره يعاني من أزمة، أزمة بقاء وفائدة بمعنى براغماتي حديث


يُفترض أن كومبانيون يعرف روح العلم، ويعرف الحال والذهنية الحديثة العلموية في النظر إلى الأشياء. لذلك يُرتجى من دفاعه أن تكون فيه شرارة هذه الخلفية واستيعابها.

بعدما انتهى العلم والحداثة من موت الإله عند نيتشه وموت المؤلف مع رولان بارت (1967) ونهايات وميتات كثيرة لا حصر لها كنهاية التاريخ لفوكوياما، نحن حاليا بإزاء موت الأدب والدفاع عنه. يبدو أن العلم لا يعرف الإنسانيات، لذلك كان طبيعيا ربما من هذه الزاوية أن يستمر في اجتياحاته الكولونيالية للثروات الإنسانية، وبات هناك سؤال يتردّد بين جدران الجامعات وأروقتها: أي فائدة للأدب؟ أي شيء يمكن أن نستفيد منه في حضور الفلسفة (التي هي بدورها تعاني أزمة) وفي حضور علم النفس وعلم الاجتماع؟ الأدب بدوره يعاني من أزمة، أزمة بقاء وفائدة بمعنى براغماتي حديث.

في تعليق مباشر على أهمية الأدب يقول كومبانيون مقتبسا: "يؤكد إميل زولا قائلا: الحقيقة أن أُمهات الأعمال الروائية المعاصرة تقول عن الإنسان والطبيعة أكثر مما تقوله لنا أخطر كتب الفلسفة والتاريخ والنقد شأنا. فالأدب بوصفه ممارسة فكرية وتجربة كتابية يستجيب لمشروع معرفي للإنسان والعالم". فالرواية بما هي غوص في المسلك العملي والأخلاقي والإنساني للإنسان، هي فلسفة عميقة وحكمة جمّة ومعرفة ثمينة، فهل المعرفة نظرية فحسب؟ وقد قسمها اليونان منذ القديم بين نظرية وعملية مثلما فعل أرسطو. فالأدب هو مشروع عملي لا غنى عنه في نظر المؤلف، بل حتى نظريا كما سيتضح.

يؤرّخ كومبانيون لبدايات هذا النزاع بين الأدب والعلم في السياق الفرنسي فهو يتحدث بشكل عام عن الأدب وبشكل خاص عن حال الأدب الفرنسي وأزمته وذلك في رأيه منذ عام 1852 لما بدأت إصلاحات تعليمية فصلت وهمّشت تدريجيا اللغات القديمة والإنسانيات الكلاسيكية في الصفوف المبكرة والثانوية. ويعتبر ذلك بدايات القطيعة غير المحمودة بين المعرفة والأدب، ويؤكد: "إن ما ينبغي لنا الدفاع عنه، أولا وقبل كل شيء، هو المعرفة الأدبية".

 

أربع حجج

تدور المحاضرة حول أربع حجج يقدّمها كومبانيون دفاعا عن الأدب.

الحجّة الأولى: اعتبار الأدب، وبالتالي الشعر مثلا عند أرسطو، هو فن المحاكاة، أو فن التمثيلي أو التخييلي. وذلك يعني أن البشر لما كان لهم جميعا هذه النزعة، كان الأدب وسيلة تعليم وتهذيب جوهرية، وفي ذلك يستشهد كومبانيون بأبيات وضعها جان دو لافونتين (1621-1695):

ليست هذه الحكايات مجرد حكايات.

فأبسط حيوان فيها يقوم مقام المعلم الناصح.

والموعظة العارية لا تورث إلا الملل.

ففي الحكاية تكمن الموعظة.

ومن طريق هذه الحيل يجب التثقيف والإمتاع.

ويورد كومبانيون اقتباسا حول معنى التهذيب: "نادرة هي الحكايات التي لا نجد فيها تهذيبا للأخلاق".

كتاب "وداعا للأدب!"

ويقول عن الأدب ودوره: "يحاكي لا بطريقة مجردة بل ملموسة، وهو لا يحاكي العام، بل يحاكي حالات خاصة لا تخلو نبراتها المعقدة أيضا من نوتات ملتبسة عامة، فمع الأدب يحل الملموس محل المجرد، ويحلّ النموذج محل التجربة، بغية استلهام حِكم عامة".

الحجّة الثانية: دور الأدب في تشكيل الحريات. فالأدب بحسب المؤلف كان رديفا لكل ثورة، وكان الصوت الوحيد الموجود عندما تخبو كل الأصوات، والأدب يعيش حيث لا يعيش شيء معه، القشة الأخيرة لحفظ الفرد وصوته، وهو كما نرى في الثورة الفرنسية وأدبياتها، وكما نرى في السياق العربي عند محمود درويش  والكثير من الشعراء ورمزياتهم، يبقى خارج النطاق السياسي وإن عبّر عنه في نصوصه، وهو خارج التاريخ كما سيأتي ذكره في التنبيهات القادمة بحسب رأي كومبانيون.

 

اللغة والأدب والخطاب

الحجة الثالثة:الأدب والشعر بوصفهما الإصلاح اللغوي المتقدّم للغة. فالأدب والشعر بحسب كومبانيون يحافظان على نضارة اللغة، وهما متقدمان على اللغة من حيث هي ألفاظ وحروف، وهما يكتشفان الخلل فيها ويقيمان صروحا جديدة فيها، لذا لا غنى عن الأدب لأي لغة، وهذا من الأسباب التي يضعها كومبانيون في استحالة ترك الأدب وراء ظهورنا، فهو يصون لنا اللغة ويثريها ويسدّ خللها ويصلحها.

ويؤكد كومبانيون طابع الأدب غير النفعي والتخييلي الذي هو غاية في ذاته على الرغم من نتائجه المفيدة وذلك في عالم موسوم بالرأسمالية والإنتاج كمبدأين رئيسين وحصريين في وجه من الوجوه الشرسة والمنتشرة.

الحجة الرابعة:لا مركزية الأدب. فعلى الرغم من أن الأدب لا مركزيّ بمعنى أنه يستوعب كل أنظمة الخطاب الأخرى في داخله، إلا أن له سلطة سياسية على مستوى الحريات وعلى مستوى معرفي وأخلاقي وحتى على مستوى فلسفي، فيقول في خصوص الفلسفي مثلا: "إن سلطة اللغة الحديثة تجعل من الأدب ترياقا للفلسفة، ونظاما مضادا أو فلسفة مضادة. ولأنه يسمو على الفلسفة فهو ينوب عنها، ويبعث فيها روحا جديدة".

الأدب والشعر بحسب كومبانيون يحافظان على نضارة اللغة، وهما متقدمان على اللغة من حيث هي ألفاظ وحروف، وهما يكتشفان الخلل فيها ويقيمان صروحا جديدة فيها

وفي استشهاد مهم على وقوع الأدب خارج التاريخ وعلوه على غيره يقول كومبانيون مستحضرا فوكو: "لم يتعامل فوكو قط مع الأدب بوصفه جهازا من أجهزة السلطة بالمستوى نفسه الذي تعامل به مع الخطابات الأخرى، ظل بذلك مرجعية مفضلة تقع خارج إطار الفلسفة، وكان يرى أن الخطابات لم تكن شيئا آخر غير الأدب".

ذلك يعني أن كل خطاب هو أدب، والأدب يبتلع في داخله كل خطاب مؤسساتي أو غير مؤسساتي. هو مجمع كل خطاب ممكن للدرس، لذلك هو أوليّ ومهم ولا يمكن أصلا إلغاؤه لأن به تكون الخطابات.

بعد هذه الحجج على أهمية الأدب، يسخر كومبانيون من أهل الأدب الذين يستنكفون عن الدفاع عنه في حين أن مجالات أخرى تكتشف قيمته وأهميته الخاصة ويذكر منها تاريخ الثقافة وفلسفة الأخلاق. ويضع كومبانيون النقاط على الحروف فيقول: "إن الأدب منبع من منابع الشعورية، تماما مثلما كانت تفعل القراءات الوعظية الدينية في أسلافنا. وهو يسمح بالوصول الى تجربة حسية وإلى معرفة أخلاقية يصعب، إن لم يستحل، اكتسابها في الدراسات الفلسفية. وهو يُساهم، من ثمّ، بصورة لا مثيل لها في الأخلاق العملية وكذلك في الأخلاق النظرية".

لا يدري كومبانيون إذا كان ردّه كافيا وقويا، لكنه يؤكد أن الأدب لن يرحل، وأنه رهانه الأبدي.

 

السينما والأدب

في علاقة السينما بالأدب والجدال حول إلغاء أو تهميش المرئي للمكتوب، يقول كومبانيون في ذلك نصا أقرب إلى الفلسفة: "فجميع أشكال السرد، ومنها الفيلم والتاريخ تحدّثنا عن التجربة الإنسانية، والرواية تفعل ذلك بيقظة أكبر من الصورة المتحركة، وبفعالية تفوق فعالية الحدث العادي، لأن أداتها الثاقبة هي اللغة، وتترك للتجربة التخييلية وتطارح الأخلاق كامل الحرية في فعل ذلك، ولا سيما داخل العزلة الممتدة للقراءة. فالزمان فيها ملكي أنا. ولا ريب في أني أستطيع أن أُوقف مجرى الفيلم، أو التوقف مليا عند صورة ما، لكن مدته دائما ساعة ونصف الساعة، في حين أني أنا سيد قراءتي وسيد ضروب ما أحبذه وأستحسنه، وسيد ما أدينه وأستهجنه مما تثيره القراءة في ذاتي من ألوان التفاعل معها". هذه لفتة للعلاقة الوثيقة بين القراءة والحرية في التصور والاستقبال وبالتالي الإبداع والاستيعاب الأكثر نجاعة، وفي طبيعة الزمان وضروبه وانعكاس ذلك على تجربة الاستقبال للمقروء في أثناء القراءة.

 

معنى الأدب

ينقل كومبانيون عن صمويل جونسون قوله "إن الغاية الوحيدة للأدب هي أن يجعل القراء قادرين على أن يستمتعوا بالحياة أو يتحملوها بصورة أفضل". أما إليوت فكان يعتبر أنه "يمكن وصف الثقافة ببساطة بأنها ما يجعل الحياة حقا جديرة بأن تُعاش"، ويضيف كومبانيون معلقا: "ولا يمكن فهم الشرط الإنساني في تعقيده من غير مساعدة الأدب، فالذين يقرأون أفضل الكتّاب يعرفون أكثر عن العالم، ويعيشون فيه بصورة أفضل من غيرهم".

 يسخر كومبانيون من أهل الأدب الذين يستنكفون عن الدفاع عنه في حين أن مجالات أخرى تكتشف قيمته وأهميته الخاصة ويذكر منها تاريخ الثقافة وفلسفة الأخلاق


ويستحضر كومبانيون كلام هرمان بروش الذي استشهد به بدوره الروائي ميلان كونديرا: "العبرة الأخلاقية الوحيدة للرواية هي تحقيق المعرفة. ولا رسالة لرواية لا تكتشف أي جزء مجهول من الوجود الإنساني". فيقول كومبانيون: "بيد أنه (أي الأدب) أفضل من غيره في إلقاء الضوء على السلوكات ومختلف الدوافع الإنسانية. فالأدب يمارس التفكير، لكن لا على شاكلة العلم أو الفلسفة. إن تفكيره استكشافيّ (فهو لا يكف عن البحث) وليس خوارزميا. إنه يتحسس طريقه على غير هدى ودون تقدير، بل بحدسه وشمّه فقط. إنه كلب صيد بكل ما في الكلمة من معنى".

ويختتم كومبانيون محاضرته بقوله الحازم في دفاعه: "رهان الأدب الذي سيخوض هذا الرهان في عليائه، وسيراهن على قيمته. ومشروعه هو تأكيد مصادرة الأدب التي شُرع فيها منذ زمان طويل، بل ربما دائما، لن تصل أبدا إلى منتهاها".

font change

مقالات ذات صلة