7 روايات حديثة تأخذك إلى عالم الكتب والمكتبات

المكتبات بوصفها استعارة عن المجتمعات والأنظمة

Getty Images
Getty Images

7 روايات حديثة تأخذك إلى عالم الكتب والمكتبات

لطالما كانت الكتب والروايات مستقرة هادئة بين رفوف المكتبات، ومن الطبيعي أن يرتبط القارئ بالمكتبة التي يبدأ عندها رحلة التعرف إلى عالم الكتب الثري الواسع، إلا أن عددا من الكتّاب يبدو أنهم أرادوا أن ينزعوا المكتبة من مكانها الأثير المعتاد، وأن يضمنوها داخل كتبهم ورواياتهم، فيبدو لافتا خلال السنوات الأخيرة انتشار عدد من الروايات العربية والمترجمة، يحمل كل منها في عنوانه كلمة "مكتبة" تشد أنظار القراء الشغوفين بعالم الكتب والمكتبات، ويبدو أنها تجذبهم للاندماج في عالمها مأخوذين بسحر ذلك المكان الفريد، الذي كان ولا يزال أول ارتباطهم وبداية علاقتهم بغواية الكتابة عالمها. وعلى الرغم من أهميتها الكبرى، ودورها الذي لا يُنكره قارئ ولا كاتب، إلا أنها تكاد تغيب عن المشهد، ولا يأتي ذكرها في الروايات العربية إلا نادرا.

نتوقف عند عددٍ من هذه الروايات.

"كوكب عنبر"... مكتبة واقعية وواقع مأزوم

منذ أكثر من عشر سنوات، نشرت رواية محمد ربيع "كوكب عنبر"، "الكتب خان" 2010، تناول فيها حكاية موظف الأوقاف شاهر المكلف كتابة تقرير عن مكتبة اسمها "كوكب عنبر" تقع في منطقة العباسية وتعترض طريق مترو الأنفاق. هناك يتعرّف شاهر إلى العاملين في المكتبة وعدد من روادها وحكاياتهم العجيبة.

تبدو الرواية لأول وهلة وفيّة لفكرة الحديث عن "المكتبة"، إذ أنها فضاء الرواية، وتدور حولها وحول شخصياتها أحداثها، وهي مكتبة عامة تنطوي على قدر من الغرابة والخصوصية، لا تتبع نظام الفهرسة المعتاد في تبويب الكتب، بل يبدو أن أصحابها غير مهتمين بما فيها من كتب، حتى أن سرقة أيّ كتاب تكون يسيرة، ويشير السارد إلى أن ذلك ربما يكون متعمدا لأن الحكومة/الوزارة غير مهتمة بالكتاب والمكتبة أصلا، بل على العكس يشغلها أن يعد موظفهم تقريره الذي قد يكون محفزا ودافعا لهدم المكتبة والإسراع في إكمال خطة المترو التي تمضي على قدم وساق، ولا شك أن أمر وجود المكتبة لن يعطلها.

تظهر المكتبة في آخر الرواية التي سمّاها الروائي "معبد أنامل الحرير"، في إِشارة واضحة الى الدور الذي تقوم به من أجل الحفاظ على الكتب والكتّاب، ويفترض بقاء هذا الدور حلا أخيرا للعالم الشديد السوداوية الذي سينتهي إليه البشر

تتناول الرواية عالم المكتبة بشيءٍ من التفصيل، فيتحدّّث الكاتب عن الكتب والمخطوطات ويورد آراء تخص الترجمة والمترجمين على لسان سيد الأهل، إحدى شخصيات الرواية، كما يعلّق على بعض الكتب التراثية التي تلفت نظره مثل حي بن يقظان. من شخصيات الرواية الثرية حنّا الناسخ، الذي تقضي مهمته بتصوير عدد من الكتب من خلال كاميرا خاصة، وكيف يواجهه أحد رواد المكتبة عندما يشك في أنه يقوم بتصوير "وثيقة وقفية المكتبة" التي يمكن أن تجعل من يمتلكها مالكا لها.

في النهاية تبدو الرواية واضحة في رسالتها التي تشير إلى تراجع الاهتمام الرسمي بالكتب والمكتبات والثقافة عامة، وأن المجال لم يعد مناسبا للاهتمام بالثقافة والعلم ولو ظاهرا، فالمشاريع الحكومية الإنشائية مقبلة ومتحقّقة لن تعطلها مكتبة أو مدرسة. وهو الأمر الذي يمكن أن نجد له صدى أكبر اليوم بعد مرور نحو عشرين عاما على كتابة هذه الرواية مع ما انتشر أخيرا من مظاهر قطع الأشجار وهدم المقابر والمناطق الأثرية من أجل توسعة طرقٍ أو إنشاء جسر.

 

"معبد أنامل الحرير"... مكتبة متخيلة

في رواية إبراهيم فرغلي "معبد أنامل الحرير"، "منشورات ضفاف" 2015، نحن إزاء عالم آخر متخيّل بالكامل، حيث "رواية" تحكي عن صاحبها/كاتبها رشيد الجوهري الذي اختفى، وتستنطق ما كتبه فيها، كأنها رواية داخل رواية. تدور أحداث وعوالم وشخصيات في المستوى الأول، وتتقاطع معها أحداث أخرى مختلفة وشخصيات أخرى في مستوى ثانٍ، ويبقى القارئ بين المستويين مشدود النفس مستمتعا بذلك الانتقال بين العالمين وتفاصيلهما الثرية.

أحد هذين المستويين يبدو شديد الصلة بحالة المستوى الأول، وما يمكن أن نعتبره "دور" الكتابة والرواية في العالم والموقف منها. يكشف رشيد الجوهري في ما تحكيه روايته، عن عالمٍ متخيّل فرضت فيه سطوة "المتكتّم" الذي هو بمثابة "الرقيب" على الأعمال الإبداعية سواء أكانت روايات أو أفلاما أو حتى كلام الناس، لينتقل الناس إلى "مدينة الظلام" تلك التي يهربون فيها ومن خلالها بأعمالهم بعيدا من سيطرة "المتكتّم" ورجاله! يتطوّر الأمر إلى أن أتباع "المتكتّم" (الرقيب) لم يعد لهم عمل بعدما أحرقوا الكتب وأغلقوا دور السينما والمسارح والأنشطة الثقافية كافة، وأصبح الأمر مقتصرا على بعض التظاهرات المؤيّدة للمتكتّم من أنصاره المنافقين ومؤيّديه المنتفعين، لذلك لم يعد أمامهم سوى أن يحصوا أنفاس الناس وأن يتنصّتوا على ما يقولون!

لا تكتفي الرواية بسرد حكايتها الخاصة، بل تتحوّل في حالاتٍ كثيرة إلى حالة "السارد العليم" الذي يحيط بشخصية كاتبها (يتحوّل من كاتب إلى بطلٍ تحكي عنه) ويعرفنا بأدق تفاصيل حياته، وهي إن كانت تقطع حكايتها عبر زمنين، الزمن الحالي (نراقب فيه كل من اقترب منها أثناء غياب صاحبها، والأيدي التي تناقلتها وعبثت بصفحاتها) والزمن الماضي (تنقلنا فيه إلى حكاية صاحبها قبيل وأثناء كتابتها) فإننا نلحظ أنها في ذلك الزمن الماضي أكثر دراية وتحررا وإحاطة بالكاتب، من زمنها الحالي الذي اقتصرت فيه الحكاية على معلومات يمكن وصفها بالمشاهدة.

هكذا تكشف "الرواية" عن حيل المؤلف، الذي يبدو في هذا النص قد مات بالفعل. فالرواية من بدايتها حتى نهايتها لا تعثر عليه، بل يبدو أنها تحوّلت إلى "لعنة" تصيب كل من يحصل عليها. لكنها تقوم هنا بدور الناقد الذي يحلّل ويفسّر ظهور شخصيات في النص، وتحولّها إلى "معادل موضوعي" لشخصيات حقيقية تعرّف إليها الكاتب في واقعه!

يغوص القارئ على حكاية رشيد وتقلباته، بين عالم "المتكتم" السري المتخيّل الذي تحكيه الرواية ثم تفاصيل حكاية ضياع الرواية من كاتبها وعلاقتها بمنقذها، حتى إنه يُفاجأ بغياب المعبد الذي جاء اسما للرواية حتى ثلثها الأخير تقريبا، والذي تكشف لنا فيه الرواية عن "أنامل الحرير" ذلك "المعبد"/ المكتبة... ذلك الصرح الذي أنشأه الناسخون لكي ينقذوا ما أُتلف:

"المكتبة بما تحويه من المعرفة بدت صرخة حق، توجّه كلماتها ساطعة إلى الرقيب المتكتم قائلة: إن كل كتاب تعرّض للطمس والنفي والحرق موجود هنا ليشير إلى كذبك أيها المتكتم المدعي، معلنا وجوده من جهة ومشيرا إلى الجرائم البشعة التي تمارسها أيها المتكتم بدمٍ بارد، المكتبة هنا تعلن للعالم أن الرقيب هو المجرم الحقيقي لا المعرفة ولا الحياة بكل ما فيها!".

Getty Images

هكذا تظهر المكتبة في آخر الرواية التي سمّاها الروائي "معبد أنامل الحرير"، في إِشارة واضحة الى الدور الذي تقوم به من أجل الحفاظ على الكتب والكتّاب، ويفترض بقاء هذا الدور حلا أخيرا للعالم الشديد السوداوية الذي سينتهي إليه البشر. تبدو الرواية بشكلٍ عام مشغولة بأسئلة الهوية وطريقة اكتشاف الذات، من خلال رحلة/ رحلات مع شخصياتها وأحداثها، يغيب فيها بطلها الرئيس لتبرز شخصيات أخرى نتعرف إليها تدريجيا وذلك من خلال  ثلاثة مستويات سردية يحرص الكاتب على أن يجعل في كل مستوى منها علاقة ملتبسة بأنثى. نجد في متن الرواية "المحكية" علاقة بين كيان وسديم، وفي حكاية الرواية علاقة بين رشيد وأكثر من شخصية نسائية أبرزها وأكثرها ثراء علاقته بيوديت. وفي الواقع الذي تعيشه الرواية وتدور حوله، تنشأ علاقة بين "منقذها" قاسم وفتاة أثيوبية هي ميهيريت. ندخل عوالم هذه الشخصيات الثلاث على اختلافها، وينجح الكاتب في أن يعرض جوانب من تلك الشخصيات وكيفية تعامل كل واحدةٍ منها مع ذلك الآخر/الرجل في فترات متباعدة.

 

"المكتبة السرية والجنرال"... صراع الثقافة والسياسة

تبدو رواية خيري الذهبي "المكتبة السرية والجنرال"، "دار الأهلية" 2018، أمثولة أخرى عن المكتبة التي تتسع دلالتها لكي تشمل ذاكرة الشعب والأمة بأسرها، ولذلك يسعى الحاكم الديكتاتور (الجنرال) إلى التحكّم بها والسيطرة عليها أو اخفائها. تبدأ الرواية من كتاب قبل المكتبة؛ كتاب واحد يحمل نبوءة نهاية عصر ذلك الحاكم، وهو كتاب "الجفر" الذي تُصادر كل نسخه بل ويعمل الحاكم من خلال جهازه الإعلامي على نشر نسخة مزورة منه تتنبأ بازدهار عصره، ولكن تبقى نسخة أصلية واحدة في مكتبة اليازجي، تلك المكتبة السرية التي يسعى للوصول إليها بكل طاقته وبكل الوسائل المتاحة، وعندها يستغل الراوي/السارد مهاراته ليحوّل المكتبة وموضوعها إلى أسطورة عصيّة على المواجهة. يقول على لسان الطاغية: 

"لن نستطيع حكم هذا البلد إلا لو سَلّم طواعية، وبيت اليازجي أصبح اليوم الراية الأخيرة لرفض التسليم… أعتقد أنك تتساءل: فلم لا نحرق الحي، وسكانه وكتبه، وكل ما تظنونه تميمة خلاصكم الخاصة، ناسين أننا اليوم في القرن الحادي والعشرين، ونملك من وسائل التدمير ما لم يفكر به حتى إبليس، وانحنى عليّ هامسا: نحن نتبناكم اليوم… لقد ورثناكم أحياء، وإن تفاخرتم بكثرتكم العددية، فسنخفضكم إلى الربع مزيحين كل المشاغبين، الرافضين لحقنا في الحكم… والمكتبة… كنزكم الذي تعتزون به… إما أن تستسلم لنا فنتبناها، أو نحرقها حتى الرماد… هل فهمت؟".

الكتب مثلها مثل التوابل لا تعيد التوازن إلى أيامنا بإعادة توجيهنا إلى وضعنا العادي، ولكن بأن تتيح لنا أن نؤكد كيف أن كل واحدٍ يمكن أن يعثر في حياته على فضاء، يطوّر فيه رغبته في الفرح، والحب، والسلام، والمغامرة

الرواية تتعرّض للواقع الذي تعيشه سوريا بشكل خاص منذ 2011، وما جرى فيها من دمار وتخريب ليس فقط للمنشآت والمباني التاريخية المهمة والكثير من المكتبات أيضا، بل وما تعمل عليه السلطة القمعية من ملاحقات ومطاردات في سبيل ترسيخ الصورة التي تريد إبرازها للعالم، إلا أنها تركّز في جانب منها على الحديث عن المكتبة نفسها، وتكون فرصة جيدة لكي يتحدث السارد عن عدد من الكتب، وتنتقل بالقارئ بين الزمان والمكان لتتعرّض للكتب والمكتبات في سوريا وما كانت تحويه من تراث عربي عظيم، فتتحدّث عن كتب السيوطي وابن عربي وجلال الدين الرومي مرورا بسير الملوك والمشاهير.

وعلى الرغم من أن الرواية تنتهي بالنهاية المحتومة لها منذ البداية حيث الدمار الذي يطول الجميع، إلا أن الكاتب استطاع أن يقدم رؤية مختلفة للمكتبة وعلاقتها بالثقافة، وكيف يمكن أن تكون حاضنة لتراث الأمة يجب الحفاظ عليها مهما طال الزمن!

 

"حارس سطح العالم"... مستقبل سوداوي آخر

إلى المستقبل تقفز بنا بثينة العيسى في روايتها "حارس سطح العالم"، "منشورات تكوين" 2019، في عالم ديستوبي يحضر فيه "الرقيب" مرة أخرى، لكنه يتورّط هذه المرة في سحر الكتب. تتناول الرواية تصورا للعالم في المستقبل، وترصد عددا من التغيرات الكبرى التي حدثت فيه، وأول وأهم تلك التغيرات القرار الذي اتخذه من تسميهم "المؤسسين الأوائل"، والذي أوصى بالتخلص من "الخيال" عند المواطنين، حيث انتهت كل الدراسات والأبحاث التي أجريت إلى أن ذلك الخيال هو أساس الشر ومكمن الفساد في الأرض، وأن السلام سيحل على العالم بنزعه من الناس. على هذا الأساس يكلّف عدد من الأشخاص منع الكتب ومصادرتها، ويحضر منهم ذلك الرقيب المختلف عمن سبقوه. تقوم الرواية على افتراضٍ يأخذ من الواقع الكثير من تفاصيله: ماذا لو وقع ذلك الرقيب الموكل بمصادرة الكتب ومنعها، في غرام تلك الكتب التي امتلأت بها مكتبته؟

"كل ما يريده الآن هو أن يكتشف تلك الكتب، أن يتحسّسها ويشم رائحتها، بقدر ما يريد أن يسمع صوت احتكاك إبهامه بالورق الخشن، وذلك الحفيف الغريب الذي ينبعث من الكتاب كلما قرر أن يطوي صفحة أخرى، يريد أن يرى الحسناوات يخرجن من الليمون المسحور، كل واحدةٍ تمد إليه ذراعين بضتين وتقول اسقني! ويريد أن يكون الماء، فالكتب تعطش أيضا، تطالب بحقها في أن تُقرأ".

تبدو الكتب والمكتبة في "حارس سطح العالم" مكانا للغواية لا مفر منه، يوقع ذلك الرقيب في الخطيئة على الرغم من كل محاولات تجنبها والابتعاد عنها، وبذلك تنقلب الآية ليبدأ صراع جديد مختلف، لا يكون الرقيب بطله الوحيد، بل يكتشف أن ثمة آخرين يسعون إلى تجاوز الحدود، وهنا تحضر طفلة حادة الذكاء، قادرة على مواجهة كل العقبات والتحديات.

بالتوازي مع حكاية الرقيب وصراعه مع الكتب بين أروقة المكتبة، تستحضر بثينة العيسى عددا من الروايات تناولت فكرة الرقابة والوصاية على المجتمع والكتب ومحاولات السيطرة عليها، مثل "1984" لجورج أورويل و"451 فهرنهايت" لراي برادييري، كما تستحضر عددا من الروايات مثل "التحول" لكافكا و"زوربا اليوناني" لكازانتزكيس وغيرهما، وتستخدم الكاتبة بعض تفاصيل عوالم هذه الروايات وتدخلها في نسيج روايتها وعالم حارس الكتب وما يسعى للتعرّف إليه.

هكذا ظهرت المكتبات في عدد من الروايات العربية، مكانا تسعى الأنظمة والحكومات إلى التخلص منه، وتحاربه بالفعل، ولكن يبدو أنه قادر على البقاء والاستمرار والتأثير سواء في الحاضر أو المستقبل.

أمّا في الروايات الأجنبية فقد اختلف حضور المكتبات ودورها  إلى حدٍ كبير.

 

"مكتبة ساحة الأعشاب"ـ.. حلم المكتبة المثالي

تعد رواية "مكتبة ساحة الأعشاب" لإيريك دو كيرميل (صدرت مترجمة عن المركز الثقافي العربي) قارئها بأنها رواية مختلفة، ستجعله يفكر وينظر بامتنان إلى هذه الكتب العديدة التي تركت أثرها في حياته، وهو الوعد الذي تأخذه على عاتقها أمينة مكتبة ساحة الأعشاب/بطلة الرواية وتعد رواد المكتبة به، تقول:

"الكتب مثلها مثل التوابل لا تعيد التوازن إلى أيامنا بإعادة توجيهنا إلى وضعنا العادي، ولكن بأن تتيح لنا أن نؤكد كيف أن كل واحدٍ يمكن أن يعثر في حياته على فضاء، يطوّر فيه رغبته في الفرح، والحب، والسلام، والمغامرة.. مثلما يمكن للبعض أن يحدد ما هو اللقاء الذي غيّر مجرى حياته، كذلك يمكن أن نضع قائمة بالكتب التي شكلت معالم في طريقنا قد تكون معالم مطمئنة في طريقٍ كنا تائهين فيه، وقد تكون في أحيانٍ أخرى دعوات لتغيير الاتجاه بل لإحداث تحول".

يأخذنا الكاتب في رحلة شيّقة وجميلة بين رواد مكتبة "ساحة الأعشاب" وأمينة المكتبة الذكية ناتالي التي تحب الكتب وتنصت جيدا إلى قصص زبائنها وتتأمل حياتهم وتطلعاتهم، وترشّح لهم الكتب التي تساعدهم في تجاوز ما يواجهونه من مشكلات، حتى تبدو المكتبة بمثابة المستشفى أو المصحة التي يدخل الناس إليها بأوجاعهم وآلامهم ويخرجون بكتبٍ تفيدهم في حياتهم بشكل عام. والجميل أن الرواية توزّعت بين حكايات أبطال الرواية/رواد المكتبة التعسة وبين حكاية قرية مكتبة ساحة الأعشاب الفريدة من نوعها، والتاريخ والجغرافيا والبلدان المختلفة، والعلاقات بين الأصدقاء والغرباء، بشكل ثري وممتع.

لا شيء له قدرة خفية على رؤية الحياة بأعين الآخرين مثل الكتب، المكتبة جسر بين الثقافات... لكل منّا كتاب قلب حياته رأسا على عقب، كتاب علّمنا، ولسنا وحيدين في ذلك... ساعدونا في نشر الخبر، ساعدونا في توصيل الكتب إلى جنودنا

بالإضافة إلى ذلك احتوت الرواية بشكل غير مباشر على عدد من النصائح والتوجيهات الخاصة بالقراءة، والتعامل مع الكتب، التي أظن أن كل قارئ سيجد فيها متعة خاصة لربط علاقته بالكتب، وحكايات تلك الكتب وما يمكن أن تؤثر عليه أثناء قراءتها، بالإضافة إلى حالة مراقبة رواد المكتبة وطريقة تعامل ناتالي، تلك الأمينة المخلصة للكتب ولعلاقتها برواد المكتبة على السواء والتي تضفي على حياة كل واحدٍ منهم إضافة حقيقية.

تجدر الإشارة إلى أن الكاتب صحافي فرنسي مطلع على الثقافة العربية، ساهمت طفولته في المغرب في تعريفه بالكثير من العادات والخبرات الثقافية العربية، لذلك ذكر اسم الناقد والروائي المغربي محمد برادة، وروايته "حيوات متجاورة" بين ما ذكر من الكتب.

 

"مكتبة باريس"... في مواجهة الحروب

"لا أحد يستطيع إسكات مكتبة"، بهذا العنوان الجانبي يدخل القارئ عالم هذه الرواية المتميزة التي كتبتها جانيت تشارلز (صدرت ترجمتها عن "دار كلمات") وأرادت من خلالها أن توثق حادثة تاريخية عن موقف أمناء مكتبة باريس أثناء الحرب العالمية الثانية، لكنها بدلا من عرض القصة بشكل تاريخي بحت لجأت الى الحكايات الإنسانية، فأدخلتنا معها الى عالم الشابة أوديل التي تحب الكتب وتحلم بالعمل في مكتبة باريس، ونتعرّف منها إلى حكاية تلك المكتبة وأمينتها دورثي ريدر التي قرّرت أن ترسل عددا من الكتب إلى المشتركين أثناء الحرب العالمية.

الجميل في هذه الرواية هو التوازي الذي صنعته الكاتبة بإحكام بين عالم المكتبة وتفاصيلها، وشغف الفتاة بذلك العالم، وذكرها لعدد من الروايات والكتب التي أحبتها وطريقة تصنيف الكتب فيها، وبين حكاية مواجهة الحرب وحياة الأفراد وأفكارهم وطرقهم للمقاومة، كما عكست بشكلٍ ما الدور الذي قام به أمناء المكتبة في ذلك الوقت، وهو الأمر الذي تؤكد تفاصيله الكاتبة في آخر الرواية. ربما لهذا السبب تصدّرت هذه الرواية قوائم الكتب الأكثر مبيعا في أميركا وترجمت إلى أكثر من 35 لغة حول العالم.

"لا شيء له قدرة خفية على رؤية الحياة بأعين الآخرين مثل الكتب، المكتبة جسر بين الثقافات... لكل منّا كتاب قلب حياته رأسا على عقب، كتاب علّمنا، ولسنا وحيدين في ذلك... ساعدونا في نشر الخبر، ساعدونا في توصيل الكتب إلى جنودنا".

 

"مكتبة منتصف الليل"... مات هيغ

على الرغم من ذيوع صيتها، كونها في قوائم الكتب الأكثر مبيعا، إلا أن رواية "مكتبة منتصف الليل" التي كتبها مات هيغ (صدرت ترجمتها عن "دار كلمات") لا تركز على فكرة المكتبة بشكلٍ أساسي، إنما على الفكرة الشائعة التي يتبناها الكثير من كتاب التنمية البشرية والعلاقات، وهي أن حياتك الحالية أفضل من كل الحيوات المختلفة التي تفكر فيها وتسعى إليها.

Getty Images

يدخلنا الكاتب في تفاصيل حياة بطلة الرواية نورا التي تقدم على الانتحار من خلال فصول قصيرة نتعرّف فيها الى آمالها وأحلامها التي ضاعت، وكيف أفضى ذلك كله إلى اتخاذها ذلك القرار القاسي بالانتحار، لكنها لحسن الحظ تفاجأ بالدخول إلى تلك المكتبة الغريبة في فترة ما قبل موتها، التي تشبه البرزخ إلى حدٍ ما في منتصف الليل تماما، وهناك تهدي اليها أمينة المكتبة كتابا يجمل تجربة جديدة تعيدها إلى حياتها القديمة لتغيّر شيئا فيها، لكنها تكتشف أن ما تسعى إلى تغييره لا يكون أفضل حالا مما كانت عليه!

وهكذا كانت كتب تلك المكتبة وسيلة البطلة وطريقتها لتغيير أجزاء من حياتها، واستطاعت من خلالها أن تمحو عددا من أخطائها وتحصل على ما كانت تصبو إليه من حياة تبدو مثالية، لكن الأمر لا يستقيم لها حتى النهاية، فتكتشف أن تلك القرارات وهذه التغييرات قد تتسبّب بخطورة أكبر من كل ما تعرّضت له سابقا.  

 

"المكتبة المظلمة"... هل تشاركنا الكتب المشاعر؟

يبدو العالم مختلفا في رواية سيريل مارتينز، "المكتبة المظلمة" (صدرت ترجمتها عن "دار جدل") إذ أن الأمر لا يتعلق بمكتبة وعالمها فحسب، وإنما ينتقل بنا إلى الكتب التي تعبّر عن نفسها، وتتحدّث مع القراء وتطالب بعض رواد المكتبة بأن يقرؤوها ويمنحوها بعضا من الاهتمام والحياة. يقسم مارتينز الرواية ثلاثة أقسام/فصول، ما بين "قارئ في خطر" نتعرف فيه إلى تلك المكتبة الوطنية الكبرى التي أنشئت وضمّت جميع أنواع الكتب ويسعى الراوي/القارئ إلى استكشافها، وهناك يرصد عددا من الملاحظات حول طبيعة الكتب والقراء ما بين المتصفحين الذين يطالعون صفحات الكتب بلا اهتمام، ولا يستفيدون من قراءاتهم، وبين الذين يستكشفون النصوص ويقرؤون بتمهل.

يبدو الكاتب مهتما بطرح عدد من الأفكار الخاصة بالكتب والقراءة من خلال سرد حكايته، لذا نراه يتحدّث عن أنواع القراء، وأهمية الكتب والمكتبات، وكيف يتعامل الكتاب مع القراء، وماذا يقولون عنهم في ما بينهم، هل من الضروري أن يكون الكتاب أكثر مبيعا لكي يحصل على قراء أكثر؟ من أين تأتي أهمية الكتاب؟ وهكذا يتوجه بتساؤلاته إلى أمينات المكتبة:

"هل تكفي زيارة المكتبة ليُعدَّ المرء قارئا؟ كم قارئا يوجد في هذه القاعة؟ هل علينا أن نطلق عليهم صفة قراء؟ كيف نميّز قارئا حين نلمح أحدهم؟ ستقلنَ لي: ليست الكتب من خلق القرّاء. هذا صحيح فالفضل لا يعود إلينا، ولا يعود إلى المكتبة أيضا. كان ثمّة قراء قبل افتتاح المكتبة، وسيبقون حتما بعد فنائها. كان الناس يقرؤون قبل بداية صدور الكتب، وسيواصلون القراءة حتى بعد إصدار آخر كتاب. ليس السؤال في شأن معرفة ما إذا كانوا سيواصلون القراءة، بل في شأن ماذا سيقرؤون، وكيف؟ هل سيقرؤون كتبا؟ وكم منّا سينجو؟ وما مصير أولئك الذين يلفظهم القرّاء؟".

 

font change

مقالات ذات صلة