طبقات الواقع في "ليل ينسى ودائعه" لجوخة الحارثي

بناء سردي يعتمد على التكثيف

الكاتبة العمانية جوخة الحارثي

طبقات الواقع في "ليل ينسى ودائعه" لجوخة الحارثي

تبرز "ليل ينسى ودائعه"، الصادرة أخيرا عن "منشورات تكوين" في الكويت، وهي المجموعة القصصية الرابعة للكاتبة العمانية جوخة الحارثي، عمق فهمها للإنسان وحالاته الوجودية، وتجسد محاولاتها المستمرة لاختراق طبقات الواقع والذهاب إلى ما هو أبعد مما يظهر للعين، مسلطة الضوء على معاناة الفرد في محيطه، ومسكتشفة التفاعلات الدقيقة بين الذات والآخر، وبين الفقد والبحث المستمر عن الهوية. هي قصص تنقب في صمت الوجود، وتثير فضول القارئ لاستكشاف العوالم التي خلقتها بحرفية عالية، بأسلوب سردي يعكس خصوصية إبداعها الأدبي.

تستمد هذه القصص خصوصيتها من تنوع عوالمها السردية، التي تتقاطع جميعها عند قاسم مشترك يتمثل في السؤال الوجودي العميق عن معنى الحياة والفقد وتعقيد العلاقات الإنسانية. وتبنى القصص على تفاعل بين شخصيتين تشكلان المحور السردي والنبض الحيوي للأحداث، وتتناول أفرادا عاديين يعيشون في بيئات مألوفة، لكنهم يحملون في داخلهم آلاما وأحلاما غير مرئية، مما يشكل نقطة التقاء حيوية بين اللغة والموقف النفسي. هذا التفاعل بين الشخصيات يفتح أفقا جديدا للرؤية الإنسانية، حيث يتحقق السرد القصصي من خلال التناقضات والتقلبات التي تعيشها الشخصيات في مواجهاتها مع ذاتها ومع الآخر.

بناء سردي

يتجاوز استخدام عنصري الزمان والمكان في قصص المجموعة كونهما مجرد إطار تقليدي للأحداث، ليصبحا سياقات نفسية ودلالية تعمق التجربة الإنسانية التي تعيشها الشخصيات. في هذا السياق، تحمل التفاصيل الصغيرة أهمية كبيرة، إذ تبدو الأشياء واليوميات العادية محملة بالرمزية والدلالات العميقة، كما يتجلى ذلك في تصويرها الأشياء، مثل "الكرسيين من قصب أو خشب أو كرتون مقوى"، حيث تبرز براعتها في أن تعكس من خلال وصف الأشياء البسيطة واقعا أعمق وأوسع، وبذلك تقلص المسافات بين القارئ والمكان أو الحدث، مما يمنح القارئ فرصة الانغماس الكامل في عوالم القصص بطريقة غير تقليدية.

يتجاوز استخدام عنصري الزمان والمكان في قصص المجموعة كونهما مجرد إطار تقليدي للأحداث، ليصبحا سياقات نفسية ودلالية تعمق التجربة الإنسانية

تعتمد جوخة الحارثي في بناء سردها على التكثيف، فتتخلى عن الحشو والتكرار لصالح كتابة مشبعة بالصمت المعبر، إذ تكفيها الصورة الماثلة، واللفظة المشذبة، واللحظة المشحونة بالدلالة. بهذا الاقتصاد اللغوي المتقن، تفتح القصص منافذ جديدة تتجاوز ظاهر الحكاية، وتغمر القارئ في عمق الأسئلة الوجودية المقلقة، كمعنى الهوية، وتجربة الفقد، وذلك القلق المتواصل في البحث عن الذات.

غلاف مجموعة جوخة الحارثي

يترافق ذلك مع مرونة لافتة في تناول الزمن، إذ تتحرر القصص من أسر التتابع الزمني التقليدي، وتنفتح على تحولات زمنية متداخلة تنبع من تأمل عميق للحاضر، تسترجع ظلال الماضي، وتستشرف احتمالات المستقبل. هذا التنقل بين الأزمنة يأتي بوصفه أكثر من مجرد تقنية، فهو يكشف عن شبكة خفية تربط بين اللحظات والأمكنة والانفعالات، مظهرا الوجود بوصفه سلسلة مترابطة من التجارب المتقاطعة، تتكثف فيها التوترات الداخلية وتصطخب بالتحولات الخارجية.

وبالقدر نفسه من الخصوصية، تعمد الحارثي إلى توظيف الرمزية على نحو ينضح بالمعنى العميق، إذ تتحول التفاصيل الصغيرة في نصوصها، من مفاتيح الأبواب إلى زوايا الأمكنة الدقيقة، إلى إشارات حميمة لما يدور في داخل الشخصيات من ارتباك وقلق، وتوق إلى الخلاص أو الطمأنينة. في هذا العالم القصصي، لا شيء يقدم على نحو محايد أو عابر، فكل تفصيل يحمل في طياته دلالة مضاعفة، تتجاوز ظاهر السياق لتلمس طبقات أعمق في التجربة الإنسانية، مما يكسب المجموعة تنوعا دلاليا وثراء تأويليا.

سرد تجريبي

تخوض جوخة الحارثي في مواضيع غير مألوفة، نابعة من تفاعلها العميق مع الواقع الإنساني العماني والعربي، وتتمدد لتلامس أسئلة كونية تتعلق بالهوية والوجود، وتجربة الفقد، وذلك بحساسية سردية تمكنها من تجاوز الوصف الخارجي للمكان أو الحدث، وتنغمس في البنى النفسية والفكرية لشخصياتها، وهو ما يمنح نصوصها بعدا تأمليا وتجريبيا، ويجعل من كل قصة مشروع بحث سردي في تعقيدات الذات وعلاقاتها بالعالم.

الكاتبة العمانية جوخة الحارثي

ولعل من السمات اللافتة في مواضيع قصص جوخة الحارثي تركيزها على اللحظات اليومية البسيطة التي تختزن في عمقها دلالات وجودية واسعة. فهي تنصت الى حيوات الأفراد العاديين في أوقات تبدو بلا زمن أو تاريخ، حيث تواجه الشخصيات صراعات داخلية مع أسئلة عصية، تقدم الحياة إجابات واضحة عنها. في هذا المناخ السردي، يتردد صدى الحنين إلى ما فقد، ويشتد القلق من غياب المعنى في عالم متحول ثقافيا واجتماعيا، وتكشف لحظات التفاعل بين الشخصيات عن هشاشة الهوية وضياع اليقين، لتبقى الأسئلة معلقة بين التلميح والبوح، بين ما يقال وما يحجب.

من السمات اللافتة في مواضيع قصص الحارثي تركيزها على اللحظات اليومية البسيطة التي تختزن في عمقها دلالات وجودية واسعة

من جهة أخرى، يتقاطع الفردي والجماعي في مواضيع الكاتبة، مما يمنح قصصها طابعا اجتماعيا نادرا، حيث تركز على العلاقات الإنسانية في سياقاتها "الزمكانية". تتجسد في هذه القصص الهويات المتعددة للأفراد، خاصة في بيئة ثقافية تمر بتحولات وتحديات كبرى، مما يبرز أهمية البحث عن الذات في ظل هذه التغيرات السريعة. كل ذلك يجعل مواضيع الحارثي متنوعة وغنية، إذ تتناول قضايا إنسانية شاملة يتم التعبير عنها عبر أصوات فردية تعكس الألم، الأمل، والعزلة التي يعاني منها الإنسان في عالمه المعاصر.

يبرز العنوان هنا بوصفه أداة فنية تنطوي على دلالات متعددة تتراوح بين الإشارة إلى الموضوعات الأساسية التي تتناولها القصص وبين توجيه القارئ نحو الأسئلة الفلسفية والوجودية التي تثيرها هذه الحكايات. فتظهر الكاتبة حرصا على اختيار العناوين التي تفتح أمام القارئ آفاقا واسعة للتأمل والتفسير. فعنوان المجموعة، على سبيل المثل، يوحي بمفهوم الزمن المتعرج الذي يعكس تناقضات الذاكرة بين الحضور والغياب. كلمة "ليل" تشير إلى الظلام الذي يغلف الوجود الإنساني، بينما "ينسى" تضيف بعدا من الخفاء والتراكم الزمني، و"ودائعه" تحمل إيحاء بالفقد المستمر، مما يتناغم مع المواضيع التي تركز عليها القصص في معالجتها للحزن، والفقد، والأمل الضائع.

تعتمد استراتيجيا العنونة لدى الحارثي على الجمع بين البساطة والغموض في آن واحد. فالعناوين لا تقدم إجابة جاهزة أو تفسيرا قاطعا للقصص، بل تتيح للقارئ مساحة واسعة للتأويل، مما يثير فضوله لاكتشاف التفاصيل المخفية وراء كل عنوان، كما أنها تدعو إلى تأمل عميق في الأسئلة الوجودية الكبرى، التي تشكل جوهر سردها. وتعكس هذه الخيارات قدرة على خلق تفاعل فوري بين العنوان والمحتوى، مما يعزز الرابط بين القارئ والنص ويعمق قدرة القارئ على استكشاف معاني القصص وتحليلها من مختلف الزوايا.

بين القصة والرواية

إذا كانت جوخة الحارثي أظهرت براعتها في فن السرد القصصي من خلال هذه المجموعة، فإن قدرتها على التنقل بسلاسة بين الأجناس الأدبية، بما في ذلك السرد الروائي، تستحق التأمل. تكمن المقاربة بين السرد القصصي والسرد الروائي في أسلوب الحارثي في تناول الشخصيات والأحداث، إلا أن السرد القصصي هنا يتسم بالاختصار والعمق في الآن معا، مما يختلف عن الرواية التي توفر مساحة أوسع لتطوير الأحداث وبناء الشخصيات.

تتركنا الحارثي أمام الأسئلة فقط، دون إجابات قاطعة، وكأننا في لحظة فجر يتكشف فيها العالم من خلال نظرات ضبابية

في السرد القصصي، تنجح الكاتبة في خلق تفاعل مكثف بين الشخصيات في لحظات حاسمة، مع إيلاء أهمية ضئيلة للزمن والمكان، ولكن من خلال تفاصيل دقيقة تحمل طابعا رمزيا. أما في السرد الروائي، فتوفر الرواية مساحة أوسع لتطور الأحداث والشخصيات، مما يسمح بتركيز أكبر على العلاقات والتفاعلات ضمن سياقات أرحب. ومع ذلك، لا يفتقر السرد القصصي لدى الحارثي إلى العمق النفسي، بل يضيف عليه نكهة مميزة من خلال اللغة المكثفة والتلميحات الرمزية التي تمنح كل لحظة مغزى وجوديا.

الكاتبة العمانية جوخة الحارثي

نجد في "ليل ينسى ودائعه" مثالا حيا على قدرة الأدب القصصي على الغوص في أعماق الوجود الإنساني بكل تقلباته وتناقضاته، إذ تخلق الكاتبة عوالم تفتح أمامنا أفقا لفهم الإنسان في صراعاته الداخلية وخيباته، وتبقى شاهدة على ذلك الحوار العميق بين الإنسان وذاته، وبين الفرد ومحيطه، وبين الماضي والحاضر، في رحلة مستمرة نحو الأفق المجهول.

يأتي اختتام هذه المجموعة متوافقا مع روحها: "ليل ينسى ودائعه"، حيث تتركنا الحارثي أمام الأسئلة فقط، دون إجابات قاطعة، وكأننا في لحظة فجر يتكشف فيها العالم من خلال نظرات ضبابية لا تنقطع عن البحث.

font change

مقالات ذات صلة