"الثوريوم"... كنز مصر المخفي في الرمال السوداء

الاحتياطي يكفي لتشغيل المفاعلات المستقبلية بكفاءة أعلى من اليورانيوم

غيتي
غيتي
كرات الثوريوم، تستخدم في الهند كمادة أساس في الطاقة النووية، الصورة من مفاعل نووي بمدينة مومباي

"الثوريوم"... كنز مصر المخفي في الرمال السوداء

ينظر الخبراء إلى مادة الثوريوم كإحدى أبرز الثروات المعدنية التي قد تغيّر معادلات الطاقة والتكنولوجيا والاقتصاد والأمن القومي في العالم. تتصدر مصر لائحة الدول ذات الاحتياطي الكبير من هذا المعدن، بكمية تصل إلى 380 ألف طن، مما يضعها في المرتبة السادسة عالميا بعد الهند، والبرازيل، والولايات المتحدة، وأوستراليا، والصين، متقدمة على روسيا وكندا وجنوب أفريقيا. فماذا ينتظر مصر بين التحديات وفرص التحول إلى قوة نووية واقتصادية؟

وسط سباق عالمي محموم على الموارد الطبيعية، يبرز معدن الثوريوم كإحدى أبرز الثروات المستقبلية التي يتوقع أن تغيّر معادلات الطاقة والتكنولوجيا والاقتصاد والأمن القومي. وبينما تتجه أنظار العالم إلى هذا المعدن النادر، تتصدر مصر قائمة الدول ذات الاحتياطيات الكبرى منه، خصوصا عبر الرمال السوداء الموجودة على سواحلها الشمالية. في ظل هذه المعطيات، تبرز تساؤلات عن مدى سرعة تحرك مصر للاستفادة من هذه الثروة، وما إذا كان التصدير يشكل حلا موقتا إلى حين توافر بنية نووية متكاملة قادرة على استغلال الثوريوم محليا.

شهدت السنوات الأخيرة تصاعدا غير مسبوق في التنافس الدولي على ما يُعرَف بالمعادن النادرة، وهي تلك العناصر التي تدخل في صناعة التكنولوجيا المتقدمة، من الشرائح الإلكترونية إلى البطاريات والمركبات الكهربائية وأسلحة الجيل الحديث.

تشير البيانات إلى أن مصر تمتلك 11 موقعا غنيا بهذه الرمال، وأن الاحتياطي الجيولوجي منها يقدر بـ200 مليار متر مكعب، وهو ما يكفي لتشغيل مصانع لفصل المعادن لمدة 150 سنة، بطاقة استهلاك تبلغ ألف متر مكعب في الساعة على مدار 24 ساعة

لكن من بين هذه المعادن، تزداد أهمية الثوريوم تحديدا، بالنظر إلى خصائصه الفريدة كوقود نووي نظيف وآمن وأكثر كفاءة من اليورانيوم التقليدي.

وقد أشار تقرير مشترك صادر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية ووكالة الطاقة النووية التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إلى أن الثوريوم - 232 هو النظير الطبيعي الوحيد لهذا المعدن الفضي، وموجود بكميات صغيرة في معظم الصخور والتربة. وعند تحلله، ينتج نظائر أخرى تنتهي به إلى عنصر الرصاص.

ديانا استيفانيا روبيو

وبحسب التقرير، تتصدر مصر قائمة الدول ذات الاحتياطي الكبير من هذا المعدن، بكمية تصل إلى 380 ألف طن، مما يضعها في المرتبة السادسة عالميا بعد الهند، والبرازيل، والولايات المتحدة، وأوستراليا، والصين، متقدمة على روسيا وكندا وجنوب أفريقيا. ومع احتدام السباق على الطاقة النظيفة، بات الثوريوم مطلوبا بشدة، خصوصا مع توجه دول كبرى مثل الصين والهند لتطوير مفاعلات نووية تعتمد عليه، بدلا من اليورانيوم.

مورد استراتيجي لم يُستغل بعد

الرمال السوداء، التي لطالما اعتُبِرت مزيجا من الرواسب الشاطئية الداكنة، تحوّلت اليوم إلى مصدر من مصادر الأمل الاقتصادي. وتُعَد هذه الرمال، الممتدة من رشيد إلى العريش على ساحل بطول يقدّر بـ400 كيلومتر، من الرمال الأغنى بالمعادن النادرة في العالم. تشير البيانات إلى أن مصر تمتلك 11 موقعا غنيا بهذه الرمال، وأن الاحتياطي الجيولوجي منها يقدر بـ200 مليار متر مكعب، وهو ما يكفي لتشغيل مصانع لفصل المعادن لمدة 150 سنة، بطاقة استهلاك تبلغ ألف متر مكعب في الساعة على مدار 24 ساعة.

احتياطي الثوريوم في مصر كافٍ لتشغيل المفاعلات المستقبلية بكفاءة أعلى من اليورانيوم، إلا أن تكلفة الاستخراج والمعالجة لا تزال مرتفعة، وأن مشاريع تطوير هذه المفاعلات لا تزال في طور التجريب عالميا

أسامة فاروق، الرئيس السابق لهيئة الثروة المعدنية

يوجد الثوريوم في هذه الرمال بكثافة كبيرة، إلى جانب معادن أخرى مثل الزركون والمونازيت والإلمنيت والروتيل، وكلها تدخل في صناعات الطيران، والصواريخ، والسيارات، والإلكترونيات، وحتى السيراميك وطلاء السيارات. لم تُستغَل هذه الثروة لعقود طويلة من الزمن بسبب غياب التخطيط والتمويل، إلى أن تغيّرت الأمور مع صدور قانون الثروة المعدنية الجديد، الذي أعطى الدولة أدوات قانونية وتشريعية للبدء في استغلال هذه الموارد بشكل منظم، بما يعزز القيمة المضافة للاقتصاد الوطني.

"الشركة المصرية للرمال السوداء"

بدأ التحول الحقيقي عام 2016 حين أعلنت الدولة تأسيس "الشركة المصرية للرمال السوداء" بالتعاون مع الهيئة العامة للمواد النووية وجهاز الخدمة الوطنية، لتبدأ أولى خطوات فصل المعادن واستخدامها صناعيا. وكان المشروع الأول في منطقة البرلس بمحافظة كفر الشيخ، حيث جرى تحويل أراضٍ كانت مستنقعات وبركا إلى مصانع عملاقة، باستخدام تكنولوجيا أوسترالية وصينية. وبدأ تشغيل أول مصنع لفصل المعادن على مساحة 80 فدانا (نحو 324 ألف متر مربع). واستعين بـ"كراكة" (آلية تجريف) هولندية عملاقة صُمِّمت خصيصا للعمل بالكهرباء، وتزن 550 طنا، وتستخرج ألفين و500 طن من الرمال السوداء في الساعة.

وزارة الدفاع المصرية
اتفاقية للتعاون بين شركة الرمال السوداء، مع شركة مينرال تكنولوجيز الأوسترالية

كذلك أنشئ مصنع ثانٍ في منطقة غرب البرلس على مساحة 35 فدانا (نحو 142 ألف متر مربع) باستثمارات بلغت 24 مليون دولار، مع تدريب الكوادر المصرية على أحدث التقنيات العالمية، وتطبيق أعلى معايير السلامة البيئية والصحية. لم تهدف هذه المشاريع إلى فصل المعادن فقط، بل كذلك إلى تأسيس صناعات تكميلية ومتطورة تقوم على معالجة هذه المعادن في الداخل، مما يساهم في خفض فاتورة الاستيراد، ويرفع مساهمة قطاع التعدين في الناتج المحلي، ويوفر آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة.

وقود المستقبل أم عبء اقتصادي مؤجل؟

على الرغم من الميزات الفنية والعلمية الكبرى لمعدن الثوريوم، لا يزال استخدامه كمصدر  فعلي للطاقة النووية في مراحله التجريبية على الصعيد العالمي، ولم تدخل المفاعلات العاملة عليه مرحلة الإنتاج التجاري الواسع بعد. في حديث إلى "المجلة"، يوضح خبير الاقتصاد والطاقة، مدحت يوسف، أن الثوريوم "لا يحتاج إلى التخصيب كما هي الحال مع اليورانيوم، مما يجعله أكثر أمانا وأقل تكلفة لجهة الوقود، لكنه يحتاج إلى تحويل كيميائي لإنتاج ثوريوم- 233، ثم يتم تشغيله داخل مفاعلات متخصصة، وهي مفاعلات مكلفة جدا في مراحل البناء والتشغيل والبحث العلمي".

ويشير الرئيس السابق لهيئة الثروة المعدنية، أسامة فاروق، في حديث لـ"المجلة" إلى أن احتياطي الثوريوم في مصر "كافٍ لتشغيل المفاعلات المستقبلية بكفاءة أعلى من اليورانيوم"، لكنه يلفت إلى "أن تكلفة الاستخراج والمعالجة لا تزال مرتفعة، وأن مشاريع تطوير هذه المفاعلات لا تزال في طور التجريب عالميا".

دخلت الصين السباق بقوة، إذ أعلنت اكتشاف أكبر منجم للثوريوم في العالم، باحتياطي يبلغ مليون طن، يكفي لتشغيل مفاعلاتها لمدة 60 ألف سنة بالإمكانات الحالية

ولذلك، يطرح الخبيران خيارا بديلا وهو تصدير خام الثوريوم حاليا، إلى حين توافر البنية التحتية النووية اللازمة، أو إلى حين انخفاض تكاليف الإنشاء والتشغيل. ويُعَد هذا الخيار واقعيا بالنظر إلى الطلب العالمي المتزايد، خصوصا من دول مثل الصين والهند اللتين تسعيان إلى تأمين كميات ضخمة من الثوريوم لتغذية مفاعلاتها المستقبلية.

أمام هذا الواقع، تُطرح تساؤلات كبرى: هل تصدر مصر الثوريوم موقتا وتستفيد من قيمته المرتفعة في الأسواق الدولية، أم تنتظر حتى تبني قدراتها التقنية وتصنعه محليا ضمن رؤية طويلة الأجل؟

Shutterstock
حجر الثوريوم في منطقة صخرية في فنلندا

ترى خبيرة الاقتصاد والطاقة، وفاء علي، في حديث إلى "المجلة"، "أن على الدولة أن تسير في كلا الاتجاهين، فمن جهة، يجري تصدير الفائض من الرمال والمعادن النادرة لتوفير العملة الصعبة وتعزيز الاحتياطي النقدي، ومن جهة أخرى، يجري العمل على مشاريع بحثية وتطويرية، مثل تلك التي تقودها جامعة كفر الشيخ، والتي تسعى إلى استخدام نواتج فصل الرمال السوداء في صناعات تكنولوجيا النانو، مما قد يحوّل مصر إلى مركز إقليمي لصناعات المستقبل". ويُنتظر أن تساهم مشاريع الرمال السوداء بنحو 5 إلى 10 مليارات جنيه سنويا (100 إلى 200 مليون دولار) في الناتج المحلي خلال السنوات المقبلة، وهي أرقام قد تتضاعف إذا طُورت الصناعات التكميلية المرتبطة بهذه الثروة.

المعادن تصنع السياسات

في خلفية هذه التحركات كلها، لا يمكن تجاهل البعد الجيوسياسي للمعادن النادرة، ومنها الثوريوم. فالعالم يشهد منذ سنوات سباقا محموما على احتكار المناجم والمصادر، ويتجلى ذلك في محاولات الرئيس الأميركي دونالد ترمب ضم جزيرة غرينلاند الغنية بالمعادن النادرة، وفي دعم واشنطن لشركات أميركية للاستثمار في مناجم أوكرانيا.

ودخلت الصين السباق بقوة، إذ أعلنت اكتشاف أكبر منجم للثوريوم في العالم، باحتياطي يبلغ مليون طن، يكفي لتشغيل مفاعلاتها لمدة 60 ألف سنة بالإمكانات الحالية. وهذا الاكتشاف وحده قد يعيد تشكيل خريطة الطاقة العالمية إذا استُثمر بكفاءة.

لا شك أن الثوريوم المصري أصبح ورقة استراتيجية حساسة، ليس فقط من الناحية الاقتصادية، بل أيضا في ميزان القوى العالمية، مما يستدعي إدارة هذه الثروة بحكمة وعقلانية تراعي الاعتبارات السياسية والديبلوماسية إلى جانب المعايير الفنية. الطريق ليست سهلة، وتحديات التمويل والتكنولوجيا حقيقية، إلا أن ثروة الثوريوم المصرية تشكل فرصة حقيقية للنهوض الصناعي والطاقوي، وجسر عبور استراتيجيا نحو مستقبل أكثر استقرارا، خصوصا إذا اقترنت برؤية وطنية واضحة تتكامل فيها التشريعات، والاستثمارات، والبحث العلمي، والتعاون الدولي.

font change

مقالات ذات صلة