التعريفات والمعادن ترسم خرائط النفوذ الاقتصادي

ثروات تحت الأرض تحرّك مفاوضات فوق الطاولة... من أميركا إلى الصين وأوروبا فأفريقيا

غيتي
غيتي
نحاس يتم صحهره في منشأة لمعالجة والتصينع من المعادن، في منطقة ماشالي، تشيلي 2 أبريل 2025

التعريفات والمعادن ترسم خرائط النفوذ الاقتصادي

تستخدم الصين ورقة المعادن النادرة في حروبها التجارية مع الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي. وهي تستغل سيطرتها على عدد من مناجم العالم، لفرض شروط جديدة في مفاوضات التعريفات الجمركية، التي قد لا تنتهي في الآجال التي حددها الرئيس الأميركي دونالد ترمب. وتمثل حرب المعادن النادرة فصلا جديدا، من صراع جيوسياسي واقتصادي على من يتحكم في المعادن الاستراتيجية، الضرورية للصناعات الحديثة، خصوصا السيارات الكهربائية، والهواتف الذكية، ومنظومة الدفاع، والتجهيزات العسكرية.

تفيد مصادر أوروبية "أن الصين ألزمت الشركات العاملة في تصدير بعض أنواع المعادن النادرة، التي تدخل في صناعة السيارات والهواتف الذكية وتكنولوجيا الفضاء والمعدات الحربية، الحصول على تراخيص مسبقة من الحكومة، تتضمن الكمية والجهة المستفيدة من الصادرات".

واعتبرت أن تلك التدابير ذات الطابع الإداري، لم تعد تُرخص سوى لواحد من كل أربع طلبات تصدير، تحت ذرائع غير تجارية. كما أبدت واشنطن خيبة أمل من هذا القرار، الذي يخالف في رأيها تفاهمات مفاوضات جنيف في شهر مايو/أيار المنصرم، بخفض الرسوم الجمركية الأميركية من 145 إلى 30 في المئة، وخفض الرسوم الصينية على الواردات الامريكية من 125 إلى 10 في المئة، في مقابل السماح باستيراد بعض أنواع المعادن والمواد النادرة، التي تتحكم الصين بنسبة 60 في المئة من تجارتها العالمية، وفق وكالة الطاقة النووية.

تمثل التعريفات الجمركية وتراخيص تصدير المعادن النادرة، فصلا جديدا من المنافسة التجارية بين الصين والاتحاد الأوروبي، ويذكر أن المبادلات بينهما بلغت 859 مليار دولار عام 2024، منها 609 مليارات دولار من الصادرات الصينية، و250 مليار دولار صادرات من الاتحاد الأوروبي

وقالت "الجمعية الأوروبية لموردي السيارات" (CLEPA) "إن الحكومة الصينية باتت تخضع بعض تراخيص التصدير إلى إجراءات إدارية معقدة، ويتم أحيانا طلب الإدلاء بمعلومات حساسة، تدخل ضمن حماية الملكية الصناعية".

بداية حرب المعادن بين الصين وأوروبا

أشهرت الصين ورقة المعادن أو ما يعرف بـ"الأراضي النادرة" ردا على قرار الاتحاد الأوروبي فرض رسوم جمركية إضافية على السيارات الكهربائية المصنعة في الصين، على الرغم من أنها تحمل علامات تجارية دولية. وتجد بروكسيل نفسها في وسط صراع تجاري ثلاثي بين الولايات المتحدة والصين، تمثل فيه الحلقة الأضعف، بسبب قلة مواردها الطبيعية النادرة، وارتفاع تكلفة الإنتاج الصناعي، وضرورة الوفاء بتدابير حماية البيئة، والملكية الفكرية، ونقل الطاقة.

غيتي
مركبات تحمل معدن الكوبالت المستخرج من منجم تينكي الصناعي، في منطقة لوالابا، الكونغو الديمقراطية، 17 يونيو 2023

وتتخوف شركات صناعة السيارات الأوروبية من تضييق الخناق على صادرات معادن استراتيجية مثل النيوديميوم والديسبروسيوم التي تدخل في صناعة المغناطيسات التي تتحكم الصين في 90 في المئة من إنتاجها العالمي. ولهذه المعادن الداخلة في التصنيع، دور أساس في المحركات الكهربائية، وأجهزة استشعار التوجيه الكهربائي، وأنظمة الكبح التجديدية.

وكلها معدات ضرورية للسيارات الجديدة ذات الانبعاث الضعيف لثاني أكسيد الكربون، سواء العاملة بالشحن الكهربائي أو الهجينة. وسبق للاتحاد الأوروبي أن أصدر قرارات أوقف بموجبها تصنيع المحركات الملوثة للبيئة في حلول 2035. وقد يكون هذا الهدف بعيد المنال، إذا أصرت الصين على معاقبة الاتحاد بمنع تصدير بعض المواد النادرة، التي تتحكم فيها بشكل مطلق، وبدعم مالي مباشر من الحكومة.

ويفرض الاتحاد الاوروبي عقوبات جمركية على واردات السيارات الكهربائية الصينية تصل إلى 35,3 في المئة، لحماية صناعتها، التي تعتمد على بطاريات ضخمة من مادة ليثيوم-حديد-فوسفات، مما يزيد في وزن السيارة وكلفة تصنيعها.

فائض تجاري صيني بـ 357 مليار دولار

تمثل التعريفات الجمركية وتراخيص تصدير المعادن النادرة، فصلا جديدا من المنافسة التجارية بين الصين والاتحاد الأوروبي، ويذكر أن المبادلات بينهما بلغت 859 مليار دولار عام 2024، منها 609 مليارات دولار من الصادرات الصينية، و250 مليار دولار صادرات من الاتحاد الأوروبي.

المعادن سبب اهتمام الرئيس ترمب بوقف الحرب في أدغال أفريقيا، والتوسط لإنهاء نزاع بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية عمره خمسون سنة، لم يكن يحظى بأي اهتمام إعلامي دولي من قبل

وسجلت بروكسيل عجزا تجاريا بقيمة 357 مليار دولار، وفق  بيانات "يورو نيوز" الإعلامية، التي قالت "إن الصين ليس من مصلحتها المواجهة التجارية مع أميركا وأوروبا في وقت واحد". وتدرس بروكسيل إمكان إخضاع ملايين السلع البريدية الواردة من الصين للضرائب، والتي لا تتجاوز قيمة الواحدة منها  176 دولارا، لكن ذلك قد يضر بحرية تجارة التسوق عبر الانترنت داخل دول الاتحاد، وقد لا يلاقي إجماعا من تكتل الـ 27.

رسوم ترمب على النحاس مدخل لحرب جديدة

وفي إطار الحرب التجارية المستعرة، كان الرئيس ترمب أعلن فرض رسوم جمركية بنسبة 50 في المئة على واردات بلاده من النحاس مطلع تموز/ يوليو المنصرمK لكنه استثنى النحاس المكرر. وتستخرج الولايات المتحدة 850 ألف طن من النحاس، وتستهلك سنويا ضعف هذه الكمية، التي تصل إلى 1,6 مليون طن، تستورد غالبيتها من تشيلي بنسبة 40 في المئة، وكندا 30 في المئة. ويعتبر النحاس مادة استراتيجية في عدد من الصناعات التحويلية. ويشكك محللون في قدرة الصناعة الأميركية على تحمل تكاليف إضافية بنسبة 50 في المئة من الرسوم. ولم يستبعد ترمب فرض رسوم جديدة على توريد معادن استراتيجية أخرى، على غرار التعريفات التي ستطبق على الألمنيوم والفولاذ والصلب.

رويترز
وزير خارجية روندا أوليفيه ندوهونغيره، يحمل عملات معدنية مهداه من الرئيس ترمب، واشنطن 27 يونيو 2025

وتعتبر تشيلي والبيرو والصين وجمهورية الكونغو الديمقراطية أكبر المصدرين العالميين للنحاس، وهي مادة ارتبطت بالإنسان منذ آلاف السنين، وكانت ضرورية في عدد من الصناعات المدنية والحربية، وهي اليوم جزء رئيس من مكونات أجهزة تصنيع مولدات الطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر، وجل الصناعات الأخرى. وقد يرتفع الطلب عليها نحو 600 في المئة في أفق 2030، بحسب تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي حول الانتقال الطاقي.

حرب المعادن من أوكرانيا إلى أفريقيا

يوجد نحو 17 إلى 25 نوعا، وتُعرف بالمعادن النادرة. وهي ليست نادرة من حيث الكمية، لكنها تتميز بنوع آخر من الندرة، فهي لا توجد منفصلة في الطبيعة، بل مختلطة مع معادن أخرى، مما يجعل استخراجها وفصلها عملية معقدة، تتطلب تقنيات متقدمة جدا، تكاد تتفوق فيها الصين على بقية العالم.

إقرأ أيضا: إنّها الحربُ العالمية على المعادن

من هنا المعادن سبب اهتمام الرئيس ترمب بوقف الحرب في أدغال أفريقيا، والتوسط لإنهاء نزاع بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية عمره خمسون سنة، لم يكن يحظى بأي اهتمام إعلامي دولي من قبل، على الرغم من أنه خلف ملايين الضحايا، وزاد في فقر السكان المحليين، بعدما غابت عيون الكبار عن رصد معاناتهم، واكتفت باستغلال ثرواتهم. السبب أن البحيرات الكبرى تستحوذ على 73 في المئة من الإنتاج العالمي لمادة الكوبالت، وقد تقترب من 90 في المئة باحتساب مخزون المغرب، وهي مادة استراتيجية تنتج في 17 دولة فقط كلها من الجنوب، وتستخدم إلى جانب النيكل والمنغنيز لإنتاج البطاريات الكهربائية المتعددة الوظائف والمعروفة اختصارا بـNMC. تعتبر هذه التركيبة المعدنية الأفضل في صناعة السيارات الكهربائية، إلى جانب تركيبة الفوسفات والحديد والليثيوم.

في كل الاتصالات مع نظيره فلاديمير بوتين حرص ترمب على إثارة الموضوع الاقتصادي، لأن نهاية أي حرب هي بداية لمشاريع وصفقات وعمولات من وجهة نظره. وهذا ينطبق على أوكرانيا وغزة والكونغو وكل الحروب والنزاعات التي ستتحول إلى برامح استثمارية عبر مشاريع إعادة الاعمار

وجميع هذه المعادن توجد في أفريقيا بوفرة كافية لعشرات السنين. وأهم المعادن في القارة السمراء هي الذهب، والماس، والفوسفات، والكوبالت، والليثيوم، والنحاس، والحديد، والمنغنيز، والبلاتين، والفضة، والروديوم، والكولتان، والتنتال، والغرافيت، والبوكسيت وغيرها الكثير، وجميعها تصنف ضمن المعادن الاستراتيجية.

الصين أكبر مستفيد من معادن أفريقيا

في الأرقام، ارتفعت المبادلات التجارية بين الصين والدول الأفريقية إلى 134 مليار دولار خلال الشهور الخمسة الأولى من السنة الجارية، بزيادة 12,4 في المئة. وزادت الصادرات الصينية 20 في المئة، وأصبحت بذلك الشريك التجاري الأول للقارة، والمستفيد الأول من المعادن الأفريقية، حيث تسيطر على استخراج واستغلال 87 في المئة من المعالجات العالمية للمعادن النادرة، خاصة في منطقة البحيرات الكبرى، وعلى ضفاف المحيط الأطلسي، ووسط القارة وشرقها، على المحيط الهندي. وتقدم الصين تمويلات في البنى التحتية خاصة الموانئ والطرق والمطارات والسكة الحديد، في مقابل استغلال تلك المعادن، التي تستخدمها بكين في حروبها التجارية مع القوى المنافسة. لكن القارة السمراء التي تمتد على 30 مليون كيلومتر مربع، لا تملك ما يكفي من قدرات الاستغلال والتحويل الصناعي والتكتل الجماعي، مما يجعلها عرضة للطامعين الخارجيين. وتسيطر الصين على مناجم الليثيوم في زيمبابوي، وهي المادة الأولى لصناعة بطاريات السيارات الكهربائية، التي تتفوق فيها على نظيرتيها الأميركية والأوروبية. ويقول معهد الدراسات الاستراتيجية الأفريقية "إن القارة لا تستفيد من الطلب المتزايد على المعادن النادرة والاستراتيجية في السوق العالمية، ولا يستفيد السكان المحليون من عائداتها".

أفارقة في البيت الأبيض

تقدم الولايات المتحدة نفسها على أنها صديقة للقارة في مواجهة الأطماع الجديدة والنفوذ القديم، وقد حرص الرئيس ترمب على الاجتماع بقادة خمس دول أفريقية في مكتبه البيضاوي، يجهل أسماءهم، ومواقع دولهم على الخريطة. لكنه يعلم بحسب التقارير، أن المنطقة تملك من المعادن النادرة مما يجعل أميركا قوية من جديد، وتنتصر على خصومها غير الطيبين كما يصف الصينيين والأوروبيين. لكنه هذه المرة استخف بضيوفه الأفارقة، عندما قاطعهم في الكلام. لكن الرئيس ترمب الذي بات يحكم العالم من وراء مكتبه، ويصدر قرارات أحيانا متناقضة، يدرك أن أفريقيا قارة تزخر بالمعادن المختلفة، وأن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تظل غائبة عن كعكة معدنية، تتسابق عليها قوى أخرى مثل الصين وروسيا واليابان وكوريا والهند وحتى تركيا وإسرائيل والدول العربية وإيران. بعد تراجع النفوذ الاستعماري الأوروبي أصبح صوت القارة السمراء مطلوبا في القرارات الدولية، لترجيح كفة هذا الفريق أو ذاك في صراع النفوذ على اقتسام العالم، وإنشاء عالم جديد.

.أ.ف.ب
سيدة تقوم باستخراج معدن الكوبالت من بين الطين والصخور، بالقرب من منجم كولويزي 31 مايو 2015

ولم يعد سرا أن التوصل إلى إنهاء الحرب الروسية على أوكرانيا، يجب أن تسبقه تفاهمات بين واشنطن والاتحاد الأوروبي من جهة وروسيا من جهة أخرى، حول من ستعود إليه أحقية الأرض التي أخذت بقوة السلاح، ومن ستعود إليه الثروات الباطنية، والمقصود بها المعادن التي تزخر بها جيولوجيا أوكرانيا، التي تم التوصل إلى اتفاق مبدئي في شأنها مع الرئيس فولوديمير زيلنسكي، في مقابل دعم أميركي صاروخي، لاستعادة جزء من الأرض التي فُقدت بسبب النقص في العتاد.

اعتبر الرئيس ترمب أن هذه الحرب كلفت حلف شمال الأطلسي 350 مليار دولار في ثلاث سنوات، ثلثاها يعود إلى الولايات المتحدة، وأن إنهاءها ضرورة إنسانية ومصلحة أوروبية. وفي كل الاتصالات مع نظيره فلاديمير بوتين حرص الرئيس ترمب على إثارة الموضوع الاقتصادي، لأن نهاية أي حرب هي بداية لمشاريع وصفقات وعمولات من وجهة نظره. وهذا ينطبق على أوكرانيا وغزة والكونغو وكل الحروب والنزاعات التي ستتحول إلى برامح استثمارية عبر مشاريع إعادة الاعمار.

font change

مقالات ذات صلة