ثمة صراع محتدم تُرسَم خرائطه الجيوسياسية الجديدة، من مشارق الأرض إلى مغاربها، بناء على "جغرافيا المعادن"، شريان التكنولوجيا الحديثة، وعنوان الاقتصاد وانتشار العسكر.
فقد تحولت المعادن في بقاع الأرض من ثروة ونعمة تجلبان النمو والازدهار، إلى نقمة تؤجج المطامع والنزاعات والحروب، وهي صارت وسيلة لتعزيز مواقع الدول، كبرى أكانت أم مغمورة، من مناجم الكونغو إلى القطب الشمالي.
لم يعد التعدين مجرد قطاع استثماري أو تجاري، يتربع على عرشه الذهب والفضة والنحاس. في زمنٍ تُسيّر فيه الرقائق وأشباه الموصلات السيارات، وتُشغّل الهواتف الذكية وتُوجّه الصواريخ، وتلتهم الروبوتات الوظائف، بل صار قُبلة لصراعات سياسية حيث تستخدم الدول الاتفاقات التجارية، والرسوم الجمركية والشراكات العسكرية، والكيد الديبلوماسي، من أجل الوصول لكنوز الأرض مهما كلف الثمن.
تشير تقديرات الوكالة الدولية للطاقة، إلى أن الطلب على المعادن سيشهد ارتفاعا يتراوح بين أربعة وستة أضعاف في عام 2040، في إطار السعي لتحقيق أهداف التحول إلى الطاقة النظيفة فقط. ولعل إحدى أبرز المبارزات، الجلية على الشاشات في الأشهر الأخيرة؛ قصف الرئيس الأميركي دونالد ترمب الصين بالتعريفات الثقيلة، لترد بكين بالمعادن النادرة، فكانت هدنات وتسويات موقتة قبل استئناف جولات جديد بين الطرفين.
تحولت المعادن في بقاع الأرض من ثروة ونعمة تجلبان النمو والازدهار، إلى نقمة تؤجج المطامع والنزاعات والحروب، وصارت وسيلة لتعزيز مواقع الدول، كبرى أكانت أم مغمورة، من مناجم الكونغو إلى القطب الشمالي
صارت المناجم بمثابة حقول النفط الجديدة، وكما كان النفط، ولا يزال، فإنها توقد شُعلة التقدّم ونيران الحروب. من الصين الى أوكرانيا وغرينلاند ومدغشقر، يشتد التنافس الشرس للتنقيب عنها، واستخراجها، والسيطرة على أراضيها. ليست خافية المعادلة التي تفرضها "الجغرافيا المعدنية"، فالدول الغنية بثروات مثل السيليكون والليثيوم والكوبالت والتيتانيوم والمعادن النادرة تقف اليوم عند مفترق طرق. بعضها يعيش طفرة اقتصادية بفعل استثمار مدروس لتلك الموارد، فيما لا يزال بعضها الآخر رهينة استغلال خارجي متزايد، أو صراعات عسكرية تُغذّيها المطامع الدولية. فهذه الدول تعتبر الحلقة الأهم في سلاسل التوريد، ومن يسيطر عليها فهو حتما سيُملي مسار التنمية الاقتصادية والتكنولوجية العالمية.
المعادن والأمن القومي الصيني
تُهيمن الصين، اللاعب الأقوى في قطاع التعدين العالمي، على أكثر من 60 في المئة من الإمدادات العالمية للمعادن النادرة. ومن خلال شركاتها المملوكة للدولة واستثماراتها الضخمة في أفريقيا وأميركا اللاتينية وحتى في أوروبا، لم تضمن بكين تدفّق الموارد فحسب، بل أنشأت البنية التحتية لمعالجتها وتسويقها وتحقيق الأرباح منها. وقد دفع هذا التفوّق الاستراتيجي معظم دول العالم للسعي إلى تقليص الاعتماد على الصين والعمل على تنويع سلاسل التوريد لأهداف باتت تطاول مفاهيم الأمن القومي.
ليست خافية المعادلة التي تفرضها "الجغرافيا المعدنية"، فالدول الغنية بثروات مثل السيليكون والليثيوم والتيتانيوم وغيرها تقف اليوم عند مفترق طرق. بعضها يعيش طفرة اقتصادية، فيما لا يزال بعضها الآخر رهينة استغلال خارجي متزايد
تنظر بكين إلى هذه المعادن باعتبارها أصلا استراتيجيا ومسألة ترتبط ارتباطا وثيقا بأمنها القومي، وهي اليوم تواجه حملات تهريب لهذه المعادن بوسائل مبتكرة ومن أطراف دولية لم تَكشُف الصين هويتها بصراحة. كما استخدمت هيمنتها على إنتاج هذه المواد كورقة مساومة في المفاوضات على الرسوم الجمركية مع واشنطن التي تعول على الإمدادات الصينية في صنع مجموعة كبيرة من المنتجات، من بينها السيارات الكهربائية. وقد تعهدت بكين النظر في تراخيص التصدير، في مقابل موافقة واشنطن على رفع القيود التي فرضتها على التكنولوجيا، ومن بينها بعض نماذج رقائق الذكاء الاصطناعي المتقدمة.
ثروات أوكرانيا بين روسيا وأميركا
شهدنا في الأمس القريب ضجيجا عارما حول اتفاق المعادن الذي وقّع بين الولايات المتحدة وأوكرانيا في أبريل/نيسان المنصرم. ما كشف عن البعد الخفي لكن الحيوي للموارد الاستراتيجية مثل الليثيوم والتيتانيوم في النزاعات الجيوسياسية المعاصرة. فاحتلال روسيا أراضيَ أوكرانية غنية بالمعادن النادرة، يعكس في عمقه صراعا طويل الأمد على الموارد، تكتسب من خلاله موسكو نفوذا متزايدا، اقتصاديا وجيوسياسيا، في وقت يسعى فيه الغرب إلى تحجيم هذا النفوذ عبر دمج أوكرانيا في سلاسل التوريد الغربية.
أما الاتفاق الأميركي- الأوكراني، الذي يُعد سابقة من حيث الشكل والمضمون، فهو يقدم في حد ذاته مثلا جليًا لاستخدام المعادن لغايات سياسية وعسكرية واقتصادية، تدعم الأمن القومي لأوكرانيا، وتاليا أوروبا، كما أنه يجسد قوة الردع الأميركي في وجه التمدد الروسي بما يصب في مصلحة القارة العجوز والولايات المتحدة على حد سواء.
معادن أفريقيا نعمة أم نقمة؟
في قلب القارة الأفريقية، تقف الكونغو الديمقراطية كنموذج صارخ لمفارقة الثروة والمعاناة. ففي بلد يمتلك نحو 70 في المئة من احتياطيات الكوبالت في العالم، وهو معدن أساس في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية، تتحول الأرض الكونغولية إلى كنز استراتيجي وساحة للتنافس الدولي الشرس. حيث تتسابق الشركات الصينية والأوروبية والأميركية على الاستثمار في المناجم.
في زمن أصبحت المعادن النادرة تُسيّر الاقتصاد وتُغذّي التكنولوجيا وتُشعل الصراعات، ها هي كنوز الأرض تُعيد رسم خرائط النفوذ، وتُؤجّج سباقًا اقتصاديًا وعسكريًا غير مسبوق... إنها الحرب العالمية الأولى على المعادن... وقد بدأت بالفعل
لكن خلف هذه الطفرة، تكمن أخطار مزمنة، من فساد مستشرٍ، إلى ظروف عمل قاسية، وانعدام الاستقرار السياسي، مما يجعل الكونغو بلدا ينتج مستقبل الطاقة النظيفة بينما يعيش في دوامة من الاستغلال الخارجي والاستعمار المقنع والانقسام الداخلي.
في زمن أصبحت فيه المعادن النادرة تُسيّر الاقتصاد وتُغذّي التكنولوجيا وتُشعل الصراعات، ها هي كنوز الأرض تُعيد رسم خرائط النفوذ، وتُؤجّج سباقًا اقتصاديًا وعسكريًا غير مسبوق. إنها الحرب العالمية الأولى على المعادن... وقد بدأت بالفعل.