تفصلنا أيامٌ قليلة عن اجتماعات "جاكسون هول" السنوية في ولاية وايومنغ، التي ترقى في عالم المصارف المركزية إلى ما يشبه مهرجانَ كانّ السينمائي من حيث الأهميةُ والتأثير في رسم السياسات النقدية، في الولايات المتحدة والعالم.
في مثل هذا التوقيت من كل عام، يترقب المصرفيون والمستثمرون خطابَ رئيس مجلس الاحتياطي الفيديرالي جيروم باول، وما يتبعه من مواقفَ لحكام البنوك المركزية الأميركية، ومدى انعكاسها على أسواق الأسهم والسندات.
في العام المنصرم، عُقدت الاجتماعاتُ وسطَ اضطراب الأسواق، عقِبَ بياناتِ التوظيف التي أظهرت ارتفاعًا طفيفًا في البطالة، ما اعتُبر مؤشرًا إلى الركود. لكن بياناتٍ اقتصاديةً قوية سرعان ما بددت المخاوفَ، ودعمت ثقةَ الأسواق في استقلالية قرارات الفيديرالي.
آنذاك، آثر باول التريث، كعادته، حتى موعد "جاكسون هول"، ليعلن تحولاتٍ جوهرية في السياسة الاقتصادية، وانخفاضَ التضخم، وتباطؤَ سوق العمل، مؤكّدًا استعدادَ بنك الاحتياطي الفيديرالي لخفض الفائدة دعمًا للاستقرار.
اتهامات سياسية "ترمبية"
التريث والتأني، أثارا غضبَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي اتهم باول بتسييس قراراته والانحياز للديموقراطيين، متهماً إياه بتوقيت خفض الفائدة لخدمة المرشحة كامالا هاريس في حينه.
وقد انسحب التروي على التزام الاحتياطي الفيديرالي روزنامةَ الخفضِ التدريجي للفائدة خلال عام 2024، قبل أن يزداد حذرا مع عودة ترمب إلى البيت الأبيض وبدء قراراته المثيرة للجدل، وصولا إلى "يوم التحرير" وفرض التعريفات الجمركية غير المسبوقة، في الثاني من أبريل/نيسان المنصرم، حين رفض باول أيَّ تعديلٍ للفائدة بناءً على أوامر سياسية، بعيدا من الأرقام والمؤشرات الاقتصادية، وعينه على ارتفاع الأخطار في عهد ترمب الثاني.
يتصدر موضوع الوظائف أجندة "جاكسون هول" هذه السنة بعنوان: "أسواق العمل في مرحلة انتقالية: الديموغرافيا، الإنتاجية والسياسة الاقتصادية الكلية". سيناقش حكام المصارف المركزية تأثير التحولات السكانية وتطور الإنتاجية على ديناميكيات العمل، وسبل تكيّف السياسات النقدية، خصوصا ما يتعلق بالتضخم والفائدة
هذه السنة، يتصدر موضوعُ الوظائف أجندة "جاكسون هول" بعنوان "أسواق العمل في مرحلة انتقالية: الديموغرافيا، الإنتاجية والسياسة الاقتصادية الكلية". سيناقش حكامُ البنوك المركزية تأثيرَ التحولات السكانية وتطور الإنتاجية على ديناميكيات العمل، وكيفيةَ تكيّفِ السياسات النقدية، خصوصا ما يتعلق بالتضخم والفائدة.
توحي التطورات الأخيرة بأن مخرجات الاجتماع قد تكون ردًا مِهنيا قويا على اتهامات ترمب لباول، وضغوطه المتصاعدة لخفض الفائدة خارجَ إطار عمل الفيديرالي، وصلاحياتهِ واستقلاليتهِ المصونة بالدستور.
لا شك أن السياسات الاقتصادية التي انتهجها ترمب، تركت آثارا كبيرة على سوق العمل، من تباطؤ التوظيف إلى ارتفاع البطالة.
عودة إلى الأصول والأرقام
تشير بيانات أغسطس/آب 2025 إلى أن نحو مليوني أميركي يتلقَّون إعانات بطالة، في أعلى مستوى منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2021. وفي يوليو/تموز، ارتفع معدل البطالة في الولايات المتحدة إلى 4.2 في المئة، وأضاف الاقتصاد 73 ألف وظيفة في القطاع الخاص فقط، وهو أقل من التوقعات، وخسِرت الوظائفُ الحكومية نحو 12 في المئة من القوة العاملة الفيديرالية الإجمالية.
يُرجِع اقتصاديون هذه الأرقامَ إلى سياسات ترمب، بما في ذلك الرسومُ الجمركية الجديدة، وخفضُ الإنفاق الفيديرالي، وتشديدُ اجراءات الهجرة، مما رفعَ حالةَ عدم اليقين وأبطأ التوظيف، كما أن سياساتِ التجارة العشوائية ومفاوضاتِها المتقلبة، وارتفاعَ تكاليف الاستيراد تؤثر سلبا على القطاعات التي تعتمد بشكل كبير على العمالة، مثل التجزئة والبناء والصناعة.
من المفيد التذكير بأن قرارات الاحتياطي الفيديرالي تحدد اتجاهات الاقتصاد العالمي، وفوائد المصارف عبر المعمورة، خصوصا بالنسبة الى الاقتصادات المرتبطة بالدولار، وفي مقدمها الأسواق الخليجية
كل هذه المعطيات تشكل مادةً دسمة قد يستند إليها باول في إعلانه خفضاً جديداً لأسعار الفائدة، بعيداً من تدخلات ترمب وضغوطه السياسية ومحاولاتِه السيطرةَ على قرارات الفيديرالي بما يصب في مصلحة إدارته، كسبيل للتحوط من أي انعكاسات سلبية لتداعيات "جنونه الاقتصادي"، فتباطؤُ الوظائف عادةً ما يخفف ضغوطَ الأجور ويُضعف الاستهلاك، مما يحدّ من التضخم.
نصرٌَّ جديد لباول؟
على الرغم من أن هذا الجدل يبدو أميركيًا بحتًا، فإن المفيدَ التذكيرُ بأن قراراتِ الاحتياطي الفيديرالي تحدد اتجاهاتِ الاقتصاد العالمي، وفوائدَ المصارف عبر المعمورة، خصوصا بالنسبة الى الاقتصاداتِ المرتبطة بالدولار، وفي مقدمها الأسواقُ الخليجية.
في خطابه المنتظَر، ربما يتجنب باول الإعلانَ صراحةً عن خفض جديد للفائدة، لكنه سيحرص على إدارةِ التوقعات، وتسليطِ الضوء على أوجهِ عدمِ اليقين، والتشديدِ على أن القراراتِ ستبقى رهينةَ المؤشرات الاقتصادية لا الإملاءات السياسية الترمبية.
والأرجح أننا مُقبلون على جولةٍ جديدة من المشادات بين الرجلين في الاسبوع المقبل، فهل سينتصر جاي باول مجددا على ترمب، ومعه استقلاليةُ حكامُ البنوك المركزية؟