تحتل دولة بوتان موقعًا بين الهند والصين، وتلاصق حدودها نيبال. تُعتبر ملكية دستورية ومساحتها 38 ألف كيلومتر مربع، أي بحجم يقارب سويسرا، وعدد سكانها اقل من مليون نسمة. تشتهر بطبيعتها الخلابة ومعابدها الجبلية، وتحظى بنحو 10 في المئة من جبال الهملايا. وتُعرف بأنها "مملكة السعادة" لاعتمادها مؤشر السعادة الشاملة في قياس التنمية.
تستفيد مملكة بوتان اليوم من طاقتها الكهرومائية النظيفة منذ عام 2019 لتعدين العملات المشفرة، ما عزز النمو وفرص العمل وحدّ من الهجرة. لا تكتفي بوتان بالتعدين، بل تخطط لإطلاق عملة رقمية مدعومة بالذهب ("تير")، وأول بنك آسيوي باحتياطيات رقمية كاملة، ومنطقة تنظيمية تقبل المدفوعات بالـ"بيتكوين" والـ"إيثيريوم".
انتقلت عملة الـ"بيتكوين" بعد أكثر من 15 عامًا من موقع التجارب التقنية إلى قلب النقاشات المالية العالمية. ما بدأ كتكنولوجيا هامشية، حاربتها المصارف ولا تزال، بات اليوم يجذب اهتمام البنوك المركزية وصناديق الثروة السيادية وواضعي السياسات. وبهدوء محسوب، بدأت دول عدة تراكم احتياطياتها من هذه العملة المشفّرة.
العقوبات والسيادة المالية
اعتمدت حكومات كثيرة عملة الـ"بيتكوين" وسيلة لتنويع احتياطياتها. فمحدودية المعروض تجعلها انكماشية بطبيعتها، كما عززت التوترات الجيوسياسية هذا التوجه، إذ ترى دول خاضعة لعقوبات غربية، كروسيا وإيران وفنزويلا، في الـ"بيتكوين" أداة لتجاوز القيود المالية المرتبطة بسيادة التحويلات وعدم الارتهان لنظام "سويفت".
انتقلت الـ"بيتكوين" من التجارب التقنية الهامشية إلى قلب النقاشات المالية العالمية. وجذبت اهتمام البنوك المركزية وصناديق الثروة السيادية وواضعي السياسات. وبهدوء محسوب، تراكم دول عدة احتياطياتها من هذه العملة
أما في الدول التي دمّر التضخم والفساد وسوء الحكم عملاتها الوطنية، فقد تحولت الـ"بيتكوين" الى ضرورة، من الأرجنتين الى السلفادور، التي أطلقت في مطلع 2024 "سندات البركان" (volcano bonds) مدعومة بالـ"بيتكوين"، وتخطط لبناء "مدينة البيتكوين" المستقبلية، على الرغم مما يشوب تلك الخطط من تحديات اجتماعية وبيئية.
اتجاه نشط لمصادرة البيتكوين
ودخلت حكومات أخرى الحلبة. تحتفظ الولايات المتحدة بنحو 200 ألف "بيتكوين" صادرتها وزارة العدل، بقيمة تقدر بعشرات مليارات الدولارات. وتسيطر الصين على 194 ألف "بيتكوين" من قضية "بلَس توكن" الاحتيالية، وتمتلك المملكة المتحدة 61 ألفا من قضايا جنائية. أما ألمانيا فباعت نحو 50 ألف "بيتكوين" عام 2024 لدعم موازنتها، مما تسبّب باضطرابات في السوق.
واتخذت أوكرانيا مسارًا مختلفًا، فأنفقت أكثر من 46 ألف "بيتكوين" من التبرعات على تمويل مجهودها الحربي ضد روسيا. وعلى الرغم من الحرب، واصلت اختزان الكريبتو، لتحتل المرتبة الرابعة عالميًا بعد الولايات المتحدة والصين والمملكة المتحدة من حيث احتياطيات العملات المشفرة الحكومية.
إذا كانت البيتكوين تتصدر العناوين، فـ"العملات المستقرة" و"العملات الرقمية" للبنوك المركزية تغزو الساحة، حيث تخطط أكثر من 70 دولة لإطلاق عملة رقمية مدعومة من الدولة، وتندفع أوروبا نحو إطلاق "اليورو الرقمي"
لكن الـ"بيتكوين" ليس الأصل الرقمي الوحيد على رادار الحكومات، فهناك أيضا "العملات المستقرة"، وهي عملات مشفّرة تصدرها جهات خاصة وتُربط بأصول تقليدية، غالبا بالدولار الأميركي، لخفض تقلب الأسعار.
وإذا كانت البيتكوين تتصدر العناوين، فـ"العملات المستقرة" و"العملات الرقمية" للبنوك المركزية (CBDCs) تغزو الساحة بثقل مؤسساتي، حيث تخطط أكثر من 70 دولة لتجربة أو إطلاق عملة رقمية مركزية، مدعومة من الدولة تعزز الاستقرار وتخفض الاعتماد على الدولار، وتندفع أوروبا نحو إطلاق "اليورو الرقمي" بهدف الحد من "العملات المستقرة" الأميركية.
الأخطار ماثلة في كل وقت
تقدر القيمة السوقية الإجمالية للعملات المشفرة بنحو 4 تريليونات دولار، سواء عبر احتياطيات الـ"بيتكوين"، أم تنظيم "العملات المستقرة"، أو تجارب "العملات الرقمية" للبنوك المركزية. وتاليا، لم يعد في وسع الحكومات الاكتفاء بموقع المتفرج، بل أصبحت لاعبا أساسيا في هذا المجال.
تواجه الـ"بيتكوين" تحديات عدة، أبرزها تقلب الأسعار بنسبة قد تصل إلى أكثر من 20 في المئة في يوم واحد، ما يثير القلق حين تمس المالية العامة للدولة. وقد تهز الأسواق تصفية الحكومات لحيازات ضخمة بدوافع اقتصادية، كما حدث حين باعت ألمانيا احتياطها عام 2024. وتضاف إلى ذلك تعقيدات محاسبية، وأخطار أمنية، وتضارب المعروض الثابت مع أدوات السياسة النقدية.
هل تمنح مملكة بوتان كلمة يوما ما في أسواق الكبار. أو لعلها، بجبالها المقدسة وهدوئها، تهمس هناك لا لتقود السوق، بل لتذكّر بأن السعادة قد تكون، في النهاية، هي الاحتياطي الأكثر ندرة في هذا العالم الكئيب
على الرغم من هذه الأخطار، تحافظ الحكومات على ثبات تعاملها الاستراتيجي مع "العملات الرقمية" والمشفرة. فلبعضها، يمثل الـ"بيتكوين" ضرورة، وللبعض الآخر رهانا للمضاربة أو أداة جيوسياسية. وفي كل الحالات، يعكس هذا الحراك تحولا عميقا في التعامل مع الأصول الرقمية لتصبح في صلب السياسات الاقتصادية والنقدية.
الاحتياطي الأكثر ندرة
لم يعد السؤال ما إذا كانت الدول ستتبنى الأصول الرقمية، بل كيف ستفعل ذلك: هل تستخدم الـ"بيتكوين" كطوق نجاة اقتصادي؟ أم كسلاح جيوسياسي؟ أم كرمز للابتكار؟
الإجابة عن هذه الأسئلة سترسم مستقبل النظام المالي العالمي، وربما تمنح مملكة بوتان كلمة يوما ما في أسواق الكبار. أو لعلها، بجبالها المقدسة وهدوئها، تهمس هناك لا لتقود السوق، بل لتذكّر بأن السعادة قد تكون، في النهاية، هي الاحتياطي الأكثر ندرة في هذا العالم الكئيب.