تختزل صورتان سردية حرب أوكرانيا بعد ثلاث سنوات وستة أشهر: لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترمب مع القيصر الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا، حيث بدت الندّية واضحة، ومشهد قادة أوروبا مصطفّين أمام ترمب في المكتب البيضاوي كالتلاميذ أمام أستاذهم.
التقطت العدسة ما عجزت التصريحات الديبلوماسية عن إخفائه، غير أن الصورة الأوضح تظل في المشهد الاقتصادي، حيث الحرب تستنزف أوروبا في وقت تنتعش روسيا مرحليا.
ما بين ندّية ألاسكا ووصاية البيت الأبيض، لا يستجدي الأوروبيون حماية أوكرانيا فحسب، بل يتطلعون أيضا الى إنقاذ اقتصاد هشّ وضعيف النمو، وفق تقارير حديثة للبنك المركزي الأوروبي. وقد أضحت الحرب عبئًا ماليًا ضخمًا بعد قرار قمة لاهاي لحلف الناتو في يوليو/تموز المنصرم (مع معارضة اسبانيا) رفع إنفاقها الدفاعي من 2 إلى 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2035، وسط صعوبة تقدير الأثر على اقتصاداتها.
خسائر أوروبا ومكاسب روسيا
تكاد أوروبا تختنق تحت أعبائها المالية، وجاءت الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب على الاتحاد الأوروبي بنسبة 15في المئة مع استثناءات، لتزيد الطين بلة. تتوقع "كابيتال إيكونوميكس" انخفاض الناتج المحلي للاتحاد بنسبة 0.5 في المئة، بينما تظهر مفاوضات التعريفات اختلاف مصالح الدول الأوروبية، وهو ما سيتجلى أكثر لاحقا.
لم تنفع العقوبات مع روسيا، هي عززت السوق المحلي وتحول الانفاق العسكري إلى النمو والوظائف، مع مكاسب جغرافية وسياسية واستمرار الانتعاش الاقتصادي الداخلي المؤقت بقيادة الأوليغارشية الروسية
في روسيا، تحول الانفاق العسكري إلى النمو والوظائف، مع مكاسب جغرافية وسياسية واستمرار الانتعاش الاقتصادي الداخلي المؤقت بقيادة الأوليغارشية الروسية.
يظل "اقتصاد الحرب" العامل الرئيس وراء تردد موسكو في التفاوض الجدي، ورفض أي اتفاق مع الناتو في خصوص انتشار قوات حفظ السلام الأوروبية. وهو ما يحول دون التوصل إلى سلام مستدام، عبّر عنه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بقوله: "الأمر لا يزال بعيدا عن النهاية".
مكاسب روسيا من الحرب
من الواضح أن العقوبات التي تتحدث أرقام عن بلوغها 24 ألفا على السياسيين والأفراد والكيانات الروسية، لم تحقق ما كان متوقعا. بل دفعت روسيا الى تعزيز بنيتها الداخلية، وحلت بدائل محلية محل الشركات الأجنبية المنسحبة، مما أنعش قطاعات الصناعة والزراعة والدفاع.
أدت العقوبات إلى توجيه الاقتصاد نحو السوق المحلية، وفرض قيود على الاستيراد من الدول "غير الصديقة" لروسيا، وفصل المصارف الروسية عن نظام "سويفت" للتحويلات المالية الدولية. وقد أعطت الحرب روسيا مبررا لإرساء نموذج اقتصادي مركزي يمكن الكرملين من تعزيز سيطرته على الدولة، وترسيخ ثروة النخبة.
كما وسعت روسيا علاقاتها مع الصين والهند وتركيا ودول الجنوب العالمي، مما أكسبها بدائل تجارية حيوية، ولا تزال مبيعات النفط والغاز المخفضة الأسعار تشكل شريانا مهما للإيرادات.
مع ذلك، فإن الاقتصاد الروسي هو أكثر ضعفا من مستويات ما قبل الغزو، إضافة إلى ارتفاع التضخم وخسارة احتياطات النقد الأجنبي، وتزايد الصعوبات في أعمال الشركات المحلية.
سيشكل تثبيت المكاسب الجغرافية للاحتلال الروسي، السيطرة على موارد ثمينة، ولا سيما مصانع الصلب في ماريوبول، مرورا بالأراضي الزراعية الخصبة في خيرسون وزابوريجيا، وصولا إلى المرافئ الاستراتيجية على البحر الأسود.
لا شك أن السلام سيفتح الباب أمام تخفيف جزئي للعقوبات على روسيا، وجذب استثمارات أجنبية بعيدا من الغرب، وتقليص الإنفاق العسكري الذي يثقل كاهل موازنتها ويُتوقع أن يبلغ 170 مليار دولار، أي نحو 8 في المئة من الناتج المحلي المتوقع هذه السنة.
كما سيشكل تثبيت المكاسب الجغرافية للاحتلال الروسي، السيطرة على موارد ثمينة، ولا سيما مصانع الصلب في ماريوبول، مرورا بالأراضي الزراعية الخصبة في خيرسون وزابوريجيا، وصولا إلى المرافئ الاستراتيجية على البحر الأسود. تاليا، فإن الاحتفاظ بالأراضي التي احتلتها موسكو بالفعل، يحقق للقيصر منافع اقتصادية فورية، ويمنح روسيا نفوذا طويل الأجل في التجارة العالمية.
السلام المعلق على نوبل
أما القارة العجوز، وعلى الرغم من تقليص اعتمادها على الغاز الروسي، فإن التهديد المستمر بقطع الإمدادات (هبطت من 40 الى 11 في المئة في 2024) يعزز تقلبات أسواق الطاقة، ويوفر لموسكو أوراق ضغط في المفاوضات بشأن العقوبات.
يقف القادة الأوروبيون عند باب البيت الأبيض، من أجل استقرار أسعار الطاقة، وتخفيف الأعباء الدفاعية، واستعادة الثقة بالأسواق، ويقبلون بالتعريفات الجمركية، حيث يستقبلهم ترمب بعين على الصفقات، وبأخرى على نوبل، في حين أن يده على احتياطيات أوكرانيا من المعادن الحيوية.
يقف القادة الأوروبيون عند باب البيت الأبيض، يستقبلهم ترمب بعين على الصفقات، وبأخرى على نوبل، في حين أن يده على احتياطيات أوكرانيا من المعادن الحيوية
ذلك كله في وقت يستمر النزيف الأوكراني، وتنتظر كييف إعادة الإعمار، واستعادة الاستثمارات ودورها كمصدر رئيس للحبوب ومحور لوجستي للطاقة نحو أوروبا.
بعد قمة ألاسكا ثم اجتماعات البيت الأبيض مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وقادة أوروبا، تتسع الهوة بين شعارات السلام والواقع الميداني العسكري والاقتصادي. غياب الثقة بين موسكو والغرب متجذر، وأي تنازل يتحول إلى ورقة ابتزاز جديدة. وتتضح الفجوة أيضا كل يوم بين أقوال قائد العالم دونالد ترمب وما يفعله على أرض الواقع، من أجل الفوز بجائزة نوبل للسلام.