"عدم اليقين" القاتل

"عدم اليقين" القاتل

استمع إلى المقال دقيقة

يهتزّ العالم اليوم تحت وطأة الصدمات الجيوسياسية والاختراقات الأمنية والتكنولوجية، وتقلبات الأسواق وضغوط الرسوم الجمركية وتفاقم الأعباء الضريبية وتضخم الأسعار. لم يعد "عدم اليقين" استثناءً، بل صار قاعدة توجه سياسات الدول والشركات وتربك حياة الأفراد، أصحاب الشركات كما الموظفين. لقد ضاعت شبكات الأمان الاجتماعي لكبار السن والأطفال والأسر، وتبدّد الاطمئنان إلى معادلات الاقتصاد والتكنولوجيا والأمن. باتت "المقامرات" بمصائر الأوطان والشعوب هي المشهد السائد.

في السياسة والأمن والعسكر، تتجلى نماذج صارخة من عدم اليقين: من إبادة غزة إلى الغزو الروسي لأوكرانيا، ومن توتر تايوان إلى أزمات السودان وسوريا ولبنان وإيران، وصولًا إلى العدوان الأخير على الدوحة وفوضى باريس. أما في أميركا، فمحاولة اغتيال الرئيس دونالد ترمب، قبيل انتخابه، ثم مقتل تشارلي كيرك برصاص قناص قبل أيام، ينذران بالانزلاق نحو حرب أهلية بين يسار فوضوي ويمين متطرف. ولا ريب أن الاستقطابات الأيديولوجية والدينية تلعب دورا قاتلًا في تقلب مصائر الأمم واقتصاداتها ومعيشة شعوبها.

وفي الاقتصاد، تتدفق وفرة لا تنتهي من مظاهر عدم اليقين: أرقام لا تُقنع، سياسات لا تُطمئن، واستثمارات تتردد. أكثر من 57 في المئة من سكان العالم يعلنون فقدان الثقة في حكوماتهم. ولا تخلو الصحافة الاقتصادية الرصينة من كلمة "Uncertainty" التي صارت ملح المقالات.

لم يعد "عدم اليقين" استثناءً، بل صار قاعدة توجه سياسات الدول والشركات وتربك حياة الأفراد، أصحاب الشركات كما الموظفين. باتت "المقامرات" بمصائر الأوطان والشعوب هي المشهد السائد

تتراكم مظاهر عدم اليقين الاقتصادي: من النقص في إمدادات الطاقة وتبعات تدفق اللاجئين، إلى ارتباك السياسات التجارية وتوقعات النمو التي تهبط الى ما دون 2 في المئة. وتكشف تقارير الوظائف أن أكثر من نصف العاملين حول العالم يخشون فقدان وظائفهم خلال عام. وتزيد توقعات أثر الذكاء الاصطناعي الطين بلّة، إذ يُرتقب أن يتعرض للاهتزاز نحو من 40 في المئة من الوظائف عالميا، مع أخطار أشد على الاقتصادات المتقدمة، وفق تحذيرات مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا.

المسيّرات والديون والتضخم والمناخ

ولا حاجة إلى برهان إضافي، فمنذ نوفمبر/تشرين الثاني 2022 أشاع الذكاء الاصطناعي التوليدي رعبا مضاعفا من الغموض، خصوصا مع تحوّل الطائرات المسيّرة إلى أدوات ترسم خرائط جديدة للحروب، من الغابات الى غرف النوم.

يضاف إلى عناصر المشهد الدرامي هذا، التضخم المتصاعد، وعجوزات الموازنات، وتقلبات أسعار النفط والذهب والمعادن النادرة، فيما تتفاقم ديون دول مجموعة السبع ومعظم دول العالم، من واشنطن ولندن وباريس وبرلين إلى الاقتصادات النامية، وتلك الفاشلة تماما. ناهيك بالشعوب التي تعاني في مختلف القارات من كوارث المناخ وتقلبات الطقس المتطرف كعوامل مضاعفة لأخطار عصر اللايقين.

لا يُحسَد أصحاب رؤوس الأموال، فإدارة الأخطار التقليدية لم تعد كافية وسط هذا الخضم المتلاطم من المعضلات والصدمات المتداخلة والمركبة. تبدو الحكومات والشركات عاجزة عن تجاوز المشكلات بردود أفعال ومعالجات نمطية

فأي استثمارات يمكن التعويل عليها، وبأي تكلفة؟ لا يُحسَد أصحاب رؤوس الأموال، فإدارة الأخطار التقليدية لم تعد كافية، في حين أن المطلوب اليوم قدرة حقيقية على التخطيط، ووضع سيناريوهات بالغة الحذر تحافظ على قدر من الثبات وسط العواصف. وما العودة إلى السياسات الحمائية، والتحوّط من أخطار الذكاء الاصطناعي، وهشاشة الأسواق المالية، سوى شواهد إضافية على أن الثقة المتزعزعة باتت ركنا أصيلا، بل الركن الأساس في أي رؤية أو استراتيجيا، مالية أكانت أم حكومية.

بين المعالجات النمطية والخيارات الصعبة

على إيقاع هذه المعطيات المتعاظمة، وتدفّق المعلومات، الكاذبة منها والصحيحة، تتوتر الأسواق العالمية صبح مساء. في حين ان تبدّل السياسات النقدية، والتوترات الجيوسياسية، والمضاربات المدفوعة بالتكنولوجيا والعملات المشفرة، والمخاوف من قيود محتملة على الذكاء الاصطناعي... كلها تعزّز حالة عدم اليقين اللامتناهي، وتُبقي التداولات في تأرجح دائم بين ليلة وضحاها. وليست هذه التقلبات إشارات عابرة، بل عوامل حاسمة في قرارات التمويل والتقييم والاستثمار.

وسط هذا الخضم المتلاطم من المعضلات والصدمات المتداخلة والمركبة، تبدو الحكومات والشركات عاجزة عن تجاوز المشكلات بردود أفعال ومعالجات نمطية. وحتى مع تبنيها اجراءات أشد للتحوط  من خلال التنويع في سلاسل التوريد وقواعد التصنيع وإعادة توطينها، وخصوصا الاستثمار بحذر في الذكاء الاصطناعي، وتعزيز الحصانة المالية، إلا أن هذه الاستجابات ليست سهلة التنفيذ، فهي تواجه تحديات مثل التكاليف المرتفعة، والغموض التشريعي، ومقاومة التغيير لا سيما داخل الشركات، أما بالنسبة الى الحكومات فهي تواجه اختبار الصمود لنماذجها الاقتصادية أمام الصدمات المتتالية، الخارجية والداخلية.

اليقين الوحيد... هو "عدم اليقين"

لقد اعتدنا أن الأزمات تأتي وتذهب، أما اليوم فعدم اليقين صار هو الثابت الوحيد. المطلوب رؤية شمولية للواقع، والاعتراف بأن "اليقين الوحيد" هو أن لا دولة ولا شركة في مأمن، مما يفرض الاستعداد لسيناريوهات قد لا تتحقق أبداً... والتحلي بالجرأة لاتخاذ قرارات صعبة وسريعة وخطرة. 

"عدم اليقين" لم يعد خللاً في النظام، بل صار النظام نفسه.

من المفيد أن نستخلص العبر من الدروس التاريخية مثل جائحة "كوفيد-19" التي غيرت وجه العالم وأرست حقبة جديدة يشكل الارتباك الدولي إحدى أبرز مظاهرها، والقادر على الصمود فيها هو كل من يثبت مرونة تنظيمية وقدرة أعلى على التكيف.

كل صباح نصحو على أسئلة بلا أجوبة: أين تستقر السياسة؟ كيف يتوازن الاقتصاد؟ هل يبقى العمل كما عرفناه؟ "عدم اليقين" صار رفيقنا الدائم، يقاسمنا الرغيف والخوف ويختبر شجاعتنا في مواجهة المجهول

ولنتذكر انهيارات 1997 و2008، فماذا لو شهدنا ما يشبه "ليمان براذرز"، وماذا لو هوت الأرض تحت "إنفيديا" أو "أوبن إيه. آي."، أو الـ"بيتكوين" أو حتى "جي. بي. مورغان تشيس"؟ أي "أبوكاليبس" ينتظر أسواق العالم التي تتغير ألوانها أسرع من العواصف؟

لا ينهار الاقتصاد العالمي بضربة واحدة، بل يتآكل من الداخل تحت وطأة أفق ضبابي، حيث تخسر الشركات الكبرى مئات المليارات بسبب تبدّل السياسات، وتتراجع الاستثمارات لأن التخطيط للسنوات المقبلة لم يعد القاعدة الأساس لدراسات الجدوى.

كل صباح نصحو على أسئلة بلا أجوبة: أين تستقر السياسة؟ كيف يتوازن الاقتصاد؟ هل يبقى العمل كما عرفناه؟ "عدم اليقين" صار رفيقنا الدائم، يقاسمنا الرغيف والخوف ويختبر شجاعتنا في مواجهة المجهول.

لعمري أن "عدم اليقين" هذا العابر القارات، هو القاتل الأعظم في هذا الزمن البائس.

font change