قد لا يكون الاصطفاف في المنطقة المخصصة انتظارا للقاء اللاعبين بعد المباريات في ملعب "إيلاند رود" بمدينة ليدز أفضل طريقة لقضاء ليلة السبت، خصوصا إذا اقترن هذا الانتظار الذي قد لا يسفر عن شيء ببرد قارس لا تعرف إنجلترا غيره في ليالي ديسمبر/كانون الأول.
صحافيو الجرائد المحلية ومراسلو المواقع التي لا تحظى بامتياز أصحاب حقوق بث المباريات ربما كانوا الأكثر حرصا على الانخراط في هذا الطقس الذي قد يوحدهم على خيبة الأمل عندما لا يتوقف أي لاعب للحديث معهم. لكن ما حدث لحفنة من هؤلاء الصحافيين ليلة السبت الماضي كان أبعد ما يكون عن أقصى تطلعاتهم من ليلة كتلك، عندما وجدوا أنفسهم ينقلون للعالم تصريحات أقامت عالم الكرة الأوروبية وما بعده ولم تقعده، وكتبت فصلا قد يكون الأخير في إحدى أنجح القصص بين لاعب وناديه في تاريخ الكرة الإنجليزية.
على بُعد متر أو أقل من حفنة الصحافيين تلك كان المصري محمد صلاح، نجم نادي ليفربول وثالث أفضل الهدافين في تاريخ النادي الممتد لأكثر من مئة وثلاثين عاما، يتهم إدارة ناديه "بمحاولة إلقائه تحت الحافلة" بعد أن أمضى مباراته الثالثة تواليا على دكة البدلاء، بأمر من مدرب الفريق أرني سلوت، الرجل الذي لم تعد تربطه علاقة بصلاح بحسب تصريحات الأخير، الذي واصل متهماً المسؤولين في ليفربول بعدم الرغبة في بقائه لاعبا في صفوف الفريق الذي عاش بين جدرانه ثماني سنوات ذهبية تعد أنجح ما قدمه لاعب عربي أو أفريقي في كرة القدم الإنجليزية، ووصلت به لأن يكون أفضل هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي الممتاز بين قائمة من الأسماء يمكنها أن تشرح حجم الإنجاز الذي حققه صلاح كأكثر من سجل في ملاعب الدوري الأقوى في العالم من غير أبناء البلد.
بين تلك اللحظة التي انفجر فيها محمد صلاح معبرا عن إحباطه مما يراه عدم تقدير لكل ما قدمه مع ليفربول عملاق الكرة الإنجليزية والبداية في ريف دلتا النيل المصرية محطات عدة على طريق لم يكن أبدا ممهدا لكي يصل المهاجم المصري صاحب القامة القصيرة والسرعة المبهرة إلى لحظة يتحول فيها إلى حديث وسائل الإعلام العالمية.
أبصر صلاح النور في قرية نجريج صيف عام 1992، ابنا لعائلة متوسطة دعمت بالقليل الذي لديها حلم ابنها في أن يصبح لاعبا لكرة القدم، لكن هذا لم يكن كافيا ليتغلب على إعياء رحلة الساعات الخمس من القرية مرورا بتشكيلة ليست فاخرة على الإطلاق من سيارات الأجرة والنقل الجماعي التي تربط الريف المصري بالقاهرة، حيث مقر نادي المقاولون العرب، لولا يقين من صلاح لم يكن مهماً أن يشاطره إياه أحد في قدرته على الوصول إلى ما لم يصل إليه لاعب مصري من قبل.
السرعة الفائقة غير المألوفة لدى اللاعب المصري، والقدم اليسرى التي تبحث عن المرمى من أقصر الطرق دون أن تبالغ في الاستعراض، خلافا لعادة اللاعبين الذين نتجوا عن ممارسة "الكرة الشراب" في أزقة مدن مصر وحقول ريفها غير الممهدة، مقومات لفتت أنظار الكشافين الذين نقلوه سريعا من مركز شباب بسيون، المدينة الأقرب إلى قريته بمحافظة الغربية، إلى نادي "عثماسون" الذي يتخذ من عاصمة المحافظة- مدينة طنطا- مقرا له، قبل أن يدرك من اكتشفوا موهبته أنها أكبر بكثير من أن تحتويها تلك المدينة التي لم تكن تاريخيا من معاقل الكرة في مصر، فنقلوه سريعا إلى المقاولون العرب، الفريق الذي يمثل إحدى كبرى شركات البناء والتشييد في مصر، والتي لم يكن في حساباتها أن يقترن اسمها حول العالم بالفتى الذي دخل مقر ناديها في الثالثة عشرة من عمره بشكل يتخطى كل مشروعاتها في مصر وما حولها من الدول.


