فضل شاكر... عودة الابن الضال

لم يقبل أن يكون الإحباط قدرا له

لينا جرادات/المجلة
لينا جرادات/المجلة

فضل شاكر... عودة الابن الضال

بعد 12 سنة من تواريه داخل مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين شرق مدينة صيدا، فارا من أحكام قضائية على خلفية اتهامه بما عُرف بأحداث عبرا، قرر الفنان اللبناني فضل شاكر مساء يوم الرابع من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، تسليم نفسه لمخابرات الجيش اللبناني. مشى بكل ثقة وهدوء من مخبئه في عمق المخيم، باتجاه حاجز الجيش عند مدخل "الحسبة"، مفجرا مفاجأة لم تكن في الحسبان.

لجأ فضل إلى عين الحلوة بعد هزيمة "جماعة الأسير" السلفية السنية الصيداوية، التي كان ينتمي إليها، أمام الجماعة الأصولية الشيعية "حزب الله"، التي اختبأت خلف الجيش اللبناني، لإدارة المعركة التي دارت رحاها على أرض بلدة عبرا المتاخمة لمدينة صيدا، في يونيو/حزيران من عام 2013، والتي ما زال يحوم حولها الكثير من الشبهات؛ برغم الضخ الإعلامي والقضائي الذي شيطن طرفا فيها مقابل تبرئة الآخر.

قبل أن يعتصم فضل بمخيم عين الحلوة الذي يُعرف بعاصمة الشتات الفلسطيني، هربا من "ظلم ذوي القربى"، كان قد نشأ وشبّ فيه، ككثير من أبناء صيدا الذين يشردهم الفقر، ويعيد المخيم جمع أشتاتهم.

ومن داخل أحياء المخيم الفقيرة التي يقيم فيها الظلم والظلام متجاورين، سطعت شمس موهبته الغنائية، وبدأ مشواره الفني من على أسطح بيوته المتلاصقة، التي تتشكل منها مساحات حرية وفضاءات مفتوحة، تعوّض ضيق أزقته وزحمة عمرانه، مغنيا في الأعراس والحفلات الشعبية.

في العشرين من عمره، خفق قلبه بحب صبية فلسطينية اسمها ناديا، صارت لاحقا زوجته وأم ابنه محمد وابنتيه رنا وألحان التي أنجبت له حفيده فضل.

رويدا رويدا بدأ فضل بالخروج من المخيم، كمغنّ، والدخول في عالم الفن، وبسرعة قياسية تسلق سلم النجومية، حيث تحول بعد صدور ألبومه الأول "والله زمن"، الذي حوى الأغنية التي شكلت شرارة شهرته "متى حبيبي متى"، إلى نجم ينافس بصوته الدافئ وكلمات أغنياته المختارة بعناية وشخصيته الرصينة وملامح وجهه الرومانسية، أشهر نجوم الغناء على الساحة اللبنانية والعربية.

بدأ مشواره الفني من على أسطح متلاصقة، يتشكل منها مساحات حرية وفضاءات مفتوحة، تعوض ضيق الأزقة وزحمة العمران، مغنيا في الأعراس والحفلات الشعبية

ثم توالت الألبومات والأغنيات، وصاحبها المزيد من الشهرة والتألق: "عاش مين شافك"، "معقول"، "وافترقنا"، "لو على قلبي"، "بياع القلوب"، "يا غايب"، "ضحكت الدنيا"، "يا حياة الروح"، "بعدا عالبال"، "مأثر فيي" وغيرها، حاصدا جوائز غنائية عربية، ثم أنجز أول ثنائياته الغنائية "أحاول أخفي إحساسي" مع الفنانة نوال الكويتية، فكانت بمثابة جواز سفر نقله إلى الأذن الخليجية، كما غنى مع صديقته المخلصة  شيرين التي كسرت حصاره مرارا في عين الحلوة "العام الجديد"، واشترك مع إليسا في ثنائية "جوا الروح"، ودخل قلعة الرومانسية من أوسع أبوابها حين تشارك والمغنية اللبنانية يارا أغنية "خذني معك" المصورة على طريقة "فيديو كليب".

رويترز
فضل شاكر في حفل موسيقي في منطقة جميرا في دبي، 15 أكتوبر 2007

يقول عشاقه إن فضل خطف القلوب والألباب بسبب تمايزه النوعي أولا عن أبناء جيله من المغنين، الذين استسهلوا اللحن الخفيف والمعاني السطحية، للتعبير عن أكثر الأحاسيس الإنسانية تعقيدا: الحب... ثانيا بسبب رفعه مستوى الذوق الفني لدى الجمهور، فالأغنية التي تهز الروح أكثر جاذبية من الأغنية التي تهز الخصر، رغم أن غالبية الفنانين يبررون هبوط أعمالهم بعبارة "الجمهور عايز كده". وثالثا بسبب صوته الدافئ ومزجه الأصالة مع الحداثة في اللون الغنائي العاطفي الذي اعتمده، وجرعات الرومانسية الفائضة التي تتضمنها أغنياته.

يقول عشاقه إن فضل خطف القلوب والألباب بسبب تمايزه النوعي عن أبناء جيله من المغنين، الذين استسهلوا اللحن الخفيف والمعاني السطحية، للتعبير عن أكثر الأحاسيس الإنسانية تعقيدا: الحب

ظل فضل يمشي من أسطورة إلى أسطورة في عالم الغناء، من ساعة ظهور ألبومه الأول سنة 1998، إلى يوم ظهوره بقالب ديني متشدد سنة 2012، حيث دمر قلعة الرومانسية فجأة فوق رؤوس جمهوره، حين أطل على شاشة قناة "الرحمة" الصيداوية، ليعلن اعتزاله الغناء بسبب "حرمته الدينية"، ولأسباب سياسية أيضا، على رأسها الأحداث في سوريا وتدخل "حزب الله" فيها.

غيّر فضل شكله في هذه الفترة، أرخى لحيته وحف شاربيه، حتى ملامح وجهه تغيرت، انطفأ لمعان عينيه وابتسامته اللطيفة، وشحب لون بشرته حتى غدا مائلا إلى الزرقة!

في عام 2013، أعلن فضل مفاجأة ثانية لجمهوره، بانضمامه رسميا إلى جماعة الشيخ أحمد الأسير السلفية المتشددة، التي قيل إنها كانت تمولها جهات خارجية، لعرقلة طريق إمداد "حزب الله"، ثم صار يظهر في اعتصاماتها ونشاطاتها، مستخدما لغة استفزازية وألفاظا بذيئة وشتائم لا تشبه شخصية "ملك الرومانسية"!

رويترز
الشيخ أحمد الأسير وفضل شاكر في احتجاج ضد حكومتي سوريا وإيران في بيروت، 14 أكتوبر 2012

في هذا العام اندلعت أحداث عبرا، وأسفرت عن قتلى وجرحى وتدمير مسجد بلال بن رباح الذي يعد مكتبا سياسيا لـ"جماعة الأسير"، واتهم فضل بالمشاركة فيها، وأصدرت المحكمة العسكرية اللبنانية حكما بسجنه 5 سنوات، وتغريمه 500 ألف ليرة لبنانية مع الأشغال الشاقة وتجريده من حقوقه المدنية، تبعه حكمان آخران بعد أربع سنوات، الأول برفع سنوات سجنه إلى 15 سنة، والآخر بإعدام شيخه الأسير، ثم تم تعديل الحكم للمرة الثالثة في عام 2022 ووصل إلى 22 عاما، مع تهم بالضلوع في أعمال إرهابية وتمويل جماعة خارجة عن القانون.

ظل فضل يمشي من أسطورة إلى أسطورة في عالم الغناء، من ساعة ظهور ألبومه الأول سنة 1998، إلى يوم ظهوره بقالب ديني متشدد سنة 2012، حيث دمر قلعة الرومانسية فجأة فوق رؤوس جمهوره، حين أطل على شاشة قناة "الرحمة" الصيداوية، ليعلن اعتزاله الغناء بسبب "حرمته الدينية"

رغم هذه الأحكام التصاعدية، سلم فضل شاكر نفسه، ومنذ أيام خضع لاستجواب تمهيدي في محكمة جنايات بيروت لمدة نصف ساعة، من دون حضور إعلامي، ووسط إجراءات أمنية مشددة، وسيعاد استجوابه مرة أخرى بتهمة تأليف عصابة مسلحة ومحاولة قتل، رفعها ضده أحد عناصر العصابة المسلحة المعروفة بـ"سرايا المقاومة" التابعة لـ"حزب الله" في صيدا، هلال حمود! إلى جانب تهم أخرى تلفيقية، كما يقول محاموه.

في عام 2018، ظهر فضل على شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال حليق الذقن مستعيدا بعضا من وداعته، معلنا توبته وعودته إلى الموسيقى، ولم ينس أن يؤكد براءته من التهم المجحفة المنسوبة إليه، خصوصا التحريض على الجيش اللبناني والقتل، ويطالب بتسوية قانونية عادلة، وجاءت توبته بالتزامن مع حصوله على حكم براءة في هذه القضية، صدر عن المحكمة العسكرية ونشرته وسائل إعلام لبنانية.

وفي البرنامج الوثائقي "حكاية طويلة" الذي عرضته قناة "الجديد" اللبنانية أعلن فضل إصدار أغنية "ليه الجرح"، التي لقيت استحسانا من جمهوره، استكمل بعدها إصدار أعمال فنية أخرى باللهجات اللبنانية والمصرية والخليجية، وغنى أيضا أغنية وطنية بعنوان "صباح الخير يا لبنان".

في مطلع العام الحالي، عرضت منصة "شاهد" وثائقيا مؤثرا عن حياته، بعنوان "يا غايب" المستوحى من إحدى أغنياته، تفاصيل مؤلمة وملهمة ملأى بالتحديات والآمال رواها بنفسه، برقته المعهودة التي استرجعها بعد عودته من ضلال التشدد والتعصب.

وفي صيف هذا العام، دخل فضل قلعة الرومانسية فاتحا، على رأس جيش من اللطائف الموسيقية، مستعيدا عرشه ومملكته، بإصداره أغنية "كيفك ع فراقي"، يرافقه فيها ابنه محمد، حققت الأغنية انتشارا منقطع النظير، وتخطى عدد مشاهداتها أكثر من 3 ملايين خلال 24 ساعة فقط، أتبعها بأغنية "صحّاك الشوق" التي اجتاحت المنصات والإذاعات والشاشات، مانحة الفنان المعزول، المحاصر في المخيم المنسي، بعيدا عن الحياة وعن صيدا وبحرها الذي يحبه، بعضا من الإنصاف والعدالة!

غنى فضل لفلسطين، وحصل على جواز سفر فلسطيني هدية من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، بعدما تعرض لموجة تهكم من فئة من اللبنانيين أنكروا لبنانيته وادعوا أنه فلسطيني مجنس، وسخروا من اسم عائلته شمندر، وصارت هاتان الصفتان بمثابة شتمتين تلوكهما ألسنة خصومه في السياسة والطائفة!

وبعد سقوط نظام الأسد، منحته نقابة الفنانين السوريين عضوية فخرية، كون محنته سببها مواقفه المؤيدة لحق الشعب السوري بالخلاص.

تأتي خطوة تسليم فضل نفسه للقضاء اللبناني، كدليل على ارتخاء قبضة "حزب الله"، وتوغله في القضاء والأمن والفضاء السياسي اللبناني،

وهي ليست خطوة اعتباطية من قِبله، إنما ابنة التغيرات التي شهدتها المنطقة على أثر "طوفان الأقصى". محنة فضل سببها تعاطفه مع الثورة السورية، حتى التشدد الديني الذي وقع في فخه، كان نتيجة استفزاز وانسياق متهور مقابل فئة دينية تدعي احتكار الحق والحقيقة، إلى درجة المحو.

أزعج فضل "حزب الله" أكثر من حركة الأسير نفسها، وقف بكل حضوره الاجتماعي وتأثيره العاطفي في وجهه في عز غطرسته وانفلاشه الأمني، من سوريا إلى اليمن إلى العراق

أزعج فضل "حزب الله" أكثر من حركة الأسير نفسها، وقف بكل حضوره الاجتماعي وتأثيره العاطفي في وجهه في عز غطرسته وانفلاشه الأمني، من سوريا إلى اليمن إلى العراق، وفي وقت كان يحاول فيه "الحزب" تعميم خطاب حماية ظهر "المقاومة"، لتبرير قمع ثورة الشعب السوري، وكانت الاحتجاجات الشعبية في دول أخرى في أوجها، ومن البديهي أن تؤيد "حركة المقاومة" الثورات، وقد أيدت فعلا ثورات بعينها، وحين وصل الدور إلى سوريا انقلب "الحزب" على قيمها...

فنطق فضل بهذه الحقيقة، ورفع صوته نيابة عن الذين سكتوا عن المجزرة، لم يقبل أن يكون الإحباط قدرا.

رويترز
فضل شاكر في مهرجان الدوحة الموسيقي التاسع في 29 يناير 2008.

اليوم، نشهد عودة فضل شاكر من "ضلاله الديني" إلى عالم "الهداية"، فالدين براء من التعصب، والله جميل يحب الجمال، وكأنه يكتب نهاية أخرى لفيلم "عودة الابن الضال"، الذي تشبه حكايته محنة فضل الشخصية، الهزيمة المعنوية والنفسية التي تسببت بها الحرب، وضرورة التمسك بالحلم كونه المنقذ الوحيد من الضلال.

ودع فضل "عين الحلوة" المخيم الذي "ينجب زعترا ومقاتلين"، وفنانين وصحافيين وسينمائيين أمثال ناجي العلي ونصري حجاج، إلى غير رجعة ربما، بعد 12 سنة من العشرة الطيبة، مجسدا خلالها ما كتبه محمود درويش في قصيدة "أحمد الزعتر":

"كان المخيم جسم أحمد

كانت دمشق جفون أحمد

كان الحجاز ظلال أحمد

صار الحصار مرور أحمد فوق أفئدة الملايين الأسيرة

صار الحصار هجوم أحمد

والبحر طلقته الأخيرة".

font change