جوائز الرواية الفرنسية 2025... بوابات إلى العائلة والذاكرة والعنف

موضوعات متنوعة وثراء أسلوبي والتفات للأصوات الجديدة

AFP-Al Majalla
AFP-Al Majalla

جوائز الرواية الفرنسية 2025... بوابات إلى العائلة والذاكرة والعنف

تمنح الجوائز الأدبية في فرنسا الرواية مكانة تتجاوز الميداليات الرمزية، فهي محرك للنشر، وعنصر أساس في تشكيل قوائم المبيعات ومرجع للإعلام الثقافي في اختيار موضوعات النقاش، كما أنها أداة لتوجيه أنظار القراء والنقاد إلى عناوين بعينها وتثبيتها في الواجهة. لذلك يغدو حصاد الجوائز مرآة للحالة الروائية في البلد ومزاجه الأدبي: ما الموضوعات الأكثر استقطابا، وأي الأصوات تتقدم إلى الصف الأول، وكيف تتوزع الأدوار بين جوائز النخبة ذات الهيبة الرمزية وجوائز القراء التي توازن بين التقدير النقدي والانتشار الجماهيري.

عام 2025 قدم موسم الرواية الفرنسية مشهدا حيويا تتصدره أربع جوائز كبرى تشكل مربعا ذهبيا يرسم الإيقاع العام للحياة الأدبية: "غونكور" (Goncourt)، "رينودو" (Renaudot)، "فيمينا" (Femina) و"ميديسيس" (Médicis)، فإليها تتجه الأضواء أولا وبها تقاس مكانة الإصدارات في ميزان الاعتراف الرمزي والاهتمام الإعلامي. وحول هذا المركز تتحرك جوائز أخرى توسع زاوية الرؤية وتدقق ملامح المشهد، مما يمنح القراء والناشرين خريطة أكثر تفصيلا لموسم الرواية الفرنسية هذا العام.

توزعت الجوائز هذا العام على روايات تستكشف ثلاثة محاور ناظمة للموسم الروائي: العائلة والأنساب بما تحمله من صمت متراكم وتاريخ ثقيل وجروح ممتدة عبر الأجيال، الجسد تحت ضغط العنف الحميمي والسلطة الرمزية، وما يثيرانه من أسئلة حول الرغبة والهيمنة والحرية وحدود التمثيل، والذاكرة الجماعية التي تستعيد الحروب الأوروبية وتجارب العبودية والاستعمار والهجرة عبر سير عائلية تتقاطع فيها الحكايات الشخصية مع التحولات السياسية الكبرى وتعيد تشكيل صورة الماضي في وعي الحاضر.

جوائز غونكور"" للرواية

انبثقت جائزة "غونكور" سنة 1903 تنفيذا لوصية الكاتب إدمون دو غونكور الذي أراد بعد رحيله أن يترك للأدب الفرنسي "أكاديمية" صغيرة تكرم كل عام أفضل عمل نثري متخيل يصدر بالفرنسية. تتكون لجنة التحكيم من عشرة كتاب يجتمعون تقليديا في "مطعم دروان" (Restaurant Drouant) الباريسي ليعلنوا، في طقس شبه مسرحي، اسم الفائز الذي يحصل على مبلغ رمزي جدا في مقابل رأسمال رمزي هائل من الاعتراف والانتشار. ومع مرور الزمن ترسخت "غونكور" بوصفها الجائزة الأرفع في المشهد الفرنسي، إذ تميل إلى تتويج روايات تجرب في البناء والأسلوب وتخاطب في الوقت نفسه جمهورا واسعا وتفتح أمام الأدب الطموح طريقا إلى السوق مع الحفاظ على رصانته.

إلى جانب الجائزة الرئيسة الخريفية، تمنح "أكاديمية غونكور" جوائز متخصصة توسع دائرة الاعتراف، من بينها "جائزة غونكور لاختيارات الطلاب" (Goncourt des Lycéens) وهي التي لا تختلف مبادئها كثيرا عن الجائزة الرئيسة سوى في أن طلاب الثانويات هم الذين يختارون الرواية المتوجة، مما يعزز احتكاك الأجيال الفرنسية الجديدة بالثقافة الروائية الراهنة.

"المنزل الخاوي": بيت مليء بالتاريخ والصمت

نال لوران موفينييه (Laurent Mauvignier) جائزة "غونكور" لهذا العام عن روايته "المنزل الخاوي" (La maison vide – منشورات Minuit)، وهي رواية يوحي عنوانها ببيت خاو فيما يكشف النص عن بيت مثقل بالتاريخ والذكريات والأسرار العائلية. تمتد الحكاية عبر أربعة أجيال من أسرة فرنسية، من الحرب العالمية الأولى إلى الزمن الحاضر، متتبعة أثر وسام عسكري وصورة مفقودة وانتحار أب يخلف سلسلة أسئلة حول معنى الإرث وحدود الصمت وظلال الماضي في حياة الأبناء والأحفاد.

على مستوى الحكاية يربط موفينييه بين مأساة انتحار الأب ومسار عائلي تشكل في قلب الحروب وتحولات الطبقات وشبكات المؤسسات، فيبدو مصيره امتدادا لزمن من الاختلالات المتوارثة. في كل جيل تتراكم طبقات من الصمت والادعاء والخجل، إلى أن يغدو جسد الأب المنهك حصيلة عالم خانق من الضغوط والتوقعات الاجتماعية. هكذا تتحول العائلة إلى مختبر مصغر لتاريخ فرنسا الحديث، من ساحات المعارك والجبهات العسكرية إلى الحياة اليومية البسيطة للموظفين والعمال، ومن الخطابات الوطنية في المنابر الرسمية إلى تفاصيل غرف النوم والمطابخ حيث تنكشف هشاشة الأفراد وحدود قدرتهم على تحمل إرث الماضي.

يكمن سر تتويج "المنزل الخاوي" بـ"غونكور" في قدرتها على المزج بين المساحة الشخصية والعائلية وبين السؤال التاريخي والسياسي إلى جانب قضايا العنف الرمزي والطبقي في فرنسا

أما على مستوى الأسلوب فيميل الكاتب إلى جملة طويلة متدفقة تتحرك بسلاسة بين الأزمنة والوجوه، مقتربة من وعي الشخصيات وتقلباتها الداخلية، فتلتقط ما يعبر في نفوسها من خوف ورغبة وحرج وصمت. كما يشيد بنية سردية تتقاسم فيها الشخصيات موقع المركز، حيث تتجاور الأجيال في مساحة واحدة ولكل زاويته وطبقته العاطفية، فتغدو العائلة كورسا متعدد الأصوات لا يعلو فيه صوت إلا بقدر ما تقتضيه اللحظة. هذه الاختيارات تمنح الرواية كثافة ملحمية مع حساسية دقيقة تجاه التفاصيل اليومية والإيماءات والأشياء المحيطة، مما يضفي على العالم الروائي ملمسا حسيا متماسكا وقابلا للتصديق.

AFP / Joel Saget
الكاتب الفرنسي لوران موفينييه خلال جلسة تصوير في باريس، 13 أكتوبر 2025

يكمن سر تتويج "المنزل الخاوي" بـ"غونكور" في قدرتها على المزج بين المساحة الشخصية والعائلية وبين السؤال التاريخي والسياسي، فهي تقدم حكاية أسرة فرنسية تمتد عبر أجيال في مناخ عاطفي وحميمي غني بالتفاصيل، وتفتح في الوقت نفسه ملفات الذاكرة الحربية وندوب الحروب، إلى جانب قضايا العنف الرمزي والطبقي في فرنسا وتجلياتهما في الحياة اليومية، لتجمع بين متعة السرد العائلي وعمق التأمل في التاريخ والمجتمع والسلطة.

AFP / Bertrand Guay
الكاتب الفرنسي لوران موفينييه وهو يحمل كتابه بعد فوزه بجائزة "غونكور" الأدبية عن روايته "المنزل الخاوي" في مطعم دروان بباريس، 4 نوفمبر 2025

"الليل في القلب": رواية بثلاثة تتويجات

من يتابع مشهد الجوائز الأدبية الفرنسية يدرك أن اجتماع جائزة "غونكور" لاختيارات الطلاب، وجائزة "رينودو" لاختيارات الطلاب وجائزة "فيمينا"، على رواية واحدة، يمثل علامة لافتة على موقعها في الموسم. هذا ما تحقق مع رواية ناتاشا أپانا (Nathacha Appanah) "الليل في القلب" (La nuit au cœur – منشورات Gallimard) التي حصدت الجوائز الثلاث معا، في مسار يعبر عن وعي لجنتين مختلفتين: لجنة قراء شباب في بدايات علاقتهم بالرواية المعاصرة، ولجنة من الكاتبات المتمرسات ترصد تحولات الكتابة عن الجسد والعنف والحميمية. يكشف هذا التلاقي بين ذائقة ناشئة وأخرى راسخة عن مكانة الرواية اليوم، ويجعل الحديث عنها متصلا بطبيعة هذا الاعتراف المزدوج بقدر اتصاله بالنص نفسه.

تقوم الرواية على ثلاثة مسارات نسائية متجاورة تتقاطع عند خبرة العنف بوصفها تجربة حميمة ومعقدة: امرأة يضيق زواجها ببطء حتى يتحول إلى سجن، وأخرى تخوض خروجا شاقا من علاقة مسيئة وتحاول إعادة بناء ذاتها وحدودها، وثالثة تراقب بجرح قديم وجوه العنف الجديدة في المجتمع. في هذه الحيوات الثلاث يتشابك عنف الشريك بما فيه من هيمنة وتهديد واختلال في ميزان القوة مع العنف الأبوي المفروض على الجسد والاختيارات، وكذلك مع عنف البنى الاجتماعية والثقافية التي ترفع من شأن "السمعة" و"سلامة العائلة" وتؤخر الاعتراف بالألم. تستند أپانا إلى خبرتها الشخصية وإلى سير نساء قتلن على أيدي شركائهن لتصوغ ما يمكن تسميته "إرهابا حميميا" يتحول فيه البيت والعلاقة إلى ما يشبه فضاء من الخوف الدائم يترك أثره العميق في الذاكرة والجسد معا.

AFP / Dimitar Dilkoff
الكاتبة الموريشيو-الفرنسية ناتاشا أبّاناه وروايتها "الليل في القلب" بعد فوزها بجائزة "غونكور الطلاب 2025" خلال حفل توزيع الجوائز في قصر الإليزيه بباريس، 27 نوفمبر 2025

فنيا تقدم "الليل في القلب" مزيجا يجمع بين ما يجذب طلاب الثانوية الباحثين عن لغة قريبة من خبراتهم اليومية وما يشد لجنة "فيمينا" الساعية إلى نص محكم البناء. تعتمد الرواية لغة واضحة ومكثفة مشبعة بحرارة التجربة، وإيقاعا متأنيا يكرر صورا وحركات وعبارات يومية ليجسد خنق العلاقة العنيفة: من نكتة جارحة تمر على سبيل المزاح، إلى غيرة مفرطة تقدم كبرهان حب، إلى الصفعة الأولى التي تلبس تفسيرات مطمئنة ثم تدفع إلى الصمت. يتوزع السرد بين أصوات النساء في صيغ متنوعة من الحكي المباشر والرسائل واليوميات والذكريات داخل بناء محسوب في توزيع الفصول ووجهات النظر، فينفتح أمام القارئ تدريجيا السلم الخفي الذي يصنع عليه العنف يوما بعد يوم.

بهذا التكوين تظهر الرواية بوصفها أكثر من حكاية مؤثرة عن ثلاث نساء: تغدو وثيقة أدبية عن وضع النساء في المجتمعات المعاصرة تحت ضغط الثقافة والقانون والعائلة، وشهادة تسعى إلى عدالة رمزية يمد الأدب عبرها يده الى الضحايا، مانحا إياهن لغة وحضورا في المتخيل الجماعي. من هنا يتضح سبب التقاء "رينودو" لاختيارات الطلاب و"فيمينا" عليها: نص يضع أسئلة الجسد والرضا والعنف في الواجهة بلغة تحفز الأسئلة والنقاش بدل الوعظ، ويطرح في الوقت نفسه سؤالا ملحا على مجتمع القراء كلهم: كيف يمكن بناء شبكات حماية فعالة أمام عنف يتخفى في لغة الحب ويتسرب إلى أدق تفاصيل الحياة العاطفية والأسرية.

2- جوائز "رينودو" للرواية

ولدت جائزة "رينودو" عام 1926 حين اجتمع عدد من الصحافيين في مطعم "دروان" الباريسي ينتظرون إعلان "غونكور"، فابتكروا جائزة موازية تحمل اسم الطبيب والكاتب تيودور-فرنسوا رينودو، لتضيف منذ ذلك الحين خطا ثانيا إلى مشهد الاعتراف الأدبي الفرنسي. ومع توالي المواسم ترسخت بوصفها جائزة تعبر عن ذائقة متمايزة عن "غونكور"، إذ تميل إلى الروايات التي تمزج بين صلابة البناء وغنى اللغة من جهة، والقدرة على مخاطبة جمهور واسع وفتح الطريق إلى انتشار جماهيري من جهة أخرى، في نقطة التقاء بين الأدب الطموح والقراءة الشعبية.

تغدو "الليل في القلب" وثيقة أدبية عن وضع النساء في المجتمعات المعاصرة تحت ضغط الثقافة والقانون والعائلة، وشهادة تسعى إلى عدالة رمزية يمد الأدب عبرها يده الى الضحايا

مع الوقت اتسعت الجائزة إلى فئات جديدة، من بينها "رينودو لاختيارات الطلاب" التي تمنحها لجنة من طلاب المدارس الثانوية فتوفر فضاء قرائيا مختلفا وحيويا.

AFP / Dimitar Dilkoff
(من اليسار) وزير التعليم الفرنسي إدوار جيفري، عضو لجنة التحكيم إلسا، بريجيت ماكرون زوجة الرئيس الفرنسي، والرئيس إيمانويل ماكرون، يقفون إلى جانب الكاتبة الموريشيو-الفرنسية ناتاشا أبّاناه (في الوسط) بعد فوزها بجائزة "غونكور الطلاب"

تكشف هذه النسخة الشبابية ميول الجيل الجديد ورهاناته الجمالية، وتضيف إلى خريطة الجوائز صوتا قرائيا مباشرا قادما من مقاعد الدراسة وبدايات العلاقة العميقة بالأدب، بما يثري صورة استقبال الرواية الفرنسية ويبرز دور الشباب في تشكيل ذائقة القراءة المعاصرة. وبما أن الرواية الفائزة بـ"رينودو لاختيارات الطلاب" هي "الليل في القلب" لناتاشا أپانا (فازت أيضا بجائزة "فيمينا" للرواية الفرنسية)، سنكتفي بالحديث عن الرواية الفائزة عن فئة جائزة "رينودو الكبرى" فقط.

"أردت أن أعيش": ميلادي تتكلم أخيرا

في هذا العام منحت لجنة "رينودو" جائزة الرواية لأديلاد دو كليرمون-تونير (Adélaïde de Clermont-Tonnerre) عن روايتها "أردت أن أعيش" (Je voulais vivre – منشورات Grasset)، في عمل يعود إلى عالم ألكسندر دوما عبر استعادة شخصية ميلادي دو وينتر. هذه الشخصية التي ظهرت في "الفرسان الثلاثة" كامرأة فاتنة وخطيرة تتقن التلاعب بالمصائر، رسخت عبر القرون نموذج المرأة الخائنة الماكرة في المخيلة الروائية والقراءة الشعبية، وغدت اسما ذا شحنة تخييلية قوية كلما استعيد في نص جديد.

تمضي كليرمون-تونير في اتجاه معاكس للصورة الكلاسيكية، فتختار ضمير المتكلم وتسلم السرد إلى ميلادي نفسها، لتعيد كتابة حياتها منذ طفولة يتيمة وهشة، مرورا بزواج مفروض وتجارب متكررة من الاستغلال على أيدي رجال السلطة والدين، وصولا إلى وصم جماعي يلاحقها. هكذا يتراجع نموذج "الشريرة" الكاريكاتورية لتحضر امرأة تعيش تحت ضغط نظام اجتماعي قاس وتبحث عن هوامش قوة ضيقة في عالم يعرف النساء أساسا بأجسادهن وموقعهن داخل شبكة العلاقات مع الرجال.

تقدم الرواية أكثر من إعادة كتابة لقصة كلاسيكية، إذ تتحول إلى قراءة نقدية للمخيال الذكوري في الأدب الفرنسي والعالمي وتعيد توزيع الأدوار داخل هذا العالم المتخيل، فيغدو الرجل النبيل الذي حكم على ميلادي تجسيدا لنظام الامتيازات الاجتماعية والطبقية، فيما تظهر هي كإنسانة ذات حقوق ورغبات وخيارات شاقة ترسم مسار حياتها. كما تعتمد بنية المغامرة التاريخية بحركتها وتشويقها وتنقلها بين الأمكنة والأزمنة، مانحة القارئ إيقاعا جذابا، بينما يقوده خطابها الداخلي إلى طبقة أخرى من القراءة تطرح أسئلة حول السلطة والجندر وآليات التأويل وصورة المرأة في الذاكرة الأدبية.

AFP / Bertrand Guay
الكاتبة الفرنسية أديلايد دو كليرمون-تونير بعد فوزها بجائزة "رينودو" الأدبية عن روايتها "كنت أريد أن أعيش"، في مطعم دروان بباريس، 4 نوفمبر 2025

يمنح تتويج "أردت أن أعيش" بـ"رينودو" مصير ميلادي أفقا جديدا، إذ تنتقل من شخصية حبست طويلا في قالب نمطي جامد إلى بطلة تستعيد زمام حكايتها وتعيد كتابة تاريخها في ضوء تجربتها الداخلية، داعية القارئ إلى مراجعة طيف واسع من "الحقائق" الأدبية الموروثة حول النساء وصورتهن الكلاسيكية. هكذا يغدو العمل تمرينا على قراءة الماضي بعين معاصرة واكتشاف الحيوات الكاملة التي تخفيها الشخصيات الثانوية في الروايات القديمة.

3- جوائز "فيمينا" للرواية

نشأت جائزة "فيمينا" مطلع القرن العشرين بمبادرة كاتبات وصحافيات رأين في المشهد الأدبي الفرنسي، الذي كانت موازين قوته تميل إلى الرجال، حاجة إلى مساحة اعتراف تصوغها نظرة نسائية مستقلة. تتكون لجنة هذه الجائزة من نخبة من الكاتبات والصحافيات، وتكشف اختياراتها في معظم المواسم عن حساسية خاصة لموضوعات الجسد والذاكرة والعلاقات العاطفية والاجتماعية، بحيث تتقدم التجارب المعيشة والأسئلة الأخلاقية في قلب النصوص التي تتوجها. ومع الزمن رسخت "فيمينا" هوية مميزة داخل خريطة الجوائز الفرنسية بوصفها جائزة تراقب تحولات الكتابة عن العالم الداخلي للنساء والرجال معا، وتمنح مكانة بارزة للأصوات التي تعيد صوغ علاقة الأدب بالواقع.

تتوزع الجائزة في شقها الروائي على فئتين رئيسيتن: جائزة "فيمينا للرواية الفرنسية"، وجائزة "فيمينا للرواية الأجنبية المترجمة". وفي فئة الرواية الفرنسية نالت "القلب في الليل" الجائزة هذا العام، كما أسلفنا، وذلك بعد حصولها أيضا على جائزة "غونكور لاختيارات الطلاب" وكذلك "رينودو لاختيارات الطلاب"، الأمر الذي يرسخ موقعها ويشكل خلفية مهمة لقراءة هذا الموسم. وبما أننا تناولنا الرواية المتوجة في فئة الرواية الفرنسية، ننتقل إلى فئة الرواية الأجنبية المترجمة بوصفها النافذة التي تفتحها "فيمينا" على آداب العالم، حيث تختبر من خلال عناوينها كيف تعيد نصوص أخرى طرح أسئلة الجسد والذاكرة والعنف ومسؤولية الشهود.

"العناصر": عناصر أربعة لقياس ثقل الذنب

عن فئة الرواية الأجنبية المترجمة منحت "فيمينا" جائزتها هذا العام للكاتب الإيرلندي جون بوين (John Boyne) عن روايته "العناصر" (Les éléments - منشورات JC Lattès، ترجمة صوفي أسلانيد)، وهو العمل نفسه المتوج أيضا بـ"جائزة الرواية المقدمة من مكتبة فناك" (Prix du Roman Fnac)، مما يرسخ موقعه بين أبرز الترجمات الروائية في السوق الفرنسية. تتألف الرواية من أربعة أقسام تحمل أسماء العناصر الكونية الأربعة: الماء والأرض والنار والهواء، يقدم كل منها منظورا مكملا للحدث المؤسس للحكاية، أي سلسلة الاعتداءات التي يرتكبها أب داخل عائلته وتمتد آثارها كموجات متتابعة في حيوات الأبناء ومحيطهم من الطفولة إلى سن النضج.

تقدم "أردت أن أعيش" أكثر من إعادة كتابة لقصة كلاسيكية، إذ تتحول إلى قراءة نقدية للمخيال الذكوري في الأدب الفرنسي والعالمي وتعيد توزيع الأدوار داخل هذا العالم المتخيل

يركز بوين على ما بعد العنف وآثاره في الحياة اليومية أكثر من تركيزه على مشهد الجريمة نفسه، فيلاحق الابنة والأم وبعض الشهود الصامتين أو المتواطئين، طارحا أسئلة حول مسؤولية كل منهم في استمرار المأساة أو محاولة كسرها. كما يمنح تقسيم الرواية إلى عناصر الكون، إيقاعا بنيويا خاصا، إذ يقدم كل جزء قراءة جديدة للحدث المؤسس من زاوية مغايرة، فاتحا أمام القارئ طبقات متعددة لتأويل أثره البعيد.

AFP / Thibaud Moritz
الكاتب الإيرلندي جون بوين بعد فوزه بجائزة "فيمينا" الأجنبية عن روايته "العناصر" خلال حفل توزيع الجوائز في متحف كارنافيه بباريس، 3 نوفمبر 2025

يعتمد الكاتب لغة شفافة ووصفا دقيقا لحياة الطبقة المتوسطة وإيقاعها اليومي، ويمنح شخصياته حيزا واسعا للتأمل في اختياراتها وعواقبها عبر حوارات داخلية هادئة تنبض بالحياة العادية. هذه البساطة المحسوبة تسمح بتقدم الموضوع الثقيل داخل إطار رصين بعيد عن الابتذال والإثارة، فيسير القارئ إلى جوار الشخصيات خطوة خطوة، مرافقا لحظات ضعفها وترددها ومحاولاتها لفهم ما جرى وترميم ما يمكن إنقاذه من علاقاتها وذاتها.

4- جوائز "ميديسيس" للرواية

حين أطلقت غالا باربيزان وجان-بيار جيرودو عام 1958 "جائزة ميديسيس"، كان الهاجس أن يفتح منفذ خاص لكتب لا تنقصها الجودة بقدر ما ينقصها الضوء. إنها جائزة تتوج رواية أو نصا سرديا أو عملا قصصيا لكاتب في بداياته، أو لاسم لم تلحق شهرته بعد بما يملكه من موهبة. مع السنوات صار اسم "ميديسيس" مقرونا بالبحث عن الأصوات الجديدة والأساليب التي تجرب في البناء واللغة وتغامر قليلا خارج الطريق المعبدة من دون أن تغادر حقل السرد ومتعة الحكي. هذه الجائزة يأتي موعدها في نوفمبر/تشرين الثاني ضمن تقاليد "الخريف الأدبي" في فرنسا، كأنها محطة تعاين حصاد العام وتلتقط ما كاد يفلت من الشبكة.

ثم راحت الجائزة تكبر بفروع أخرى وسعت حضورها في المشهد: ففي عام 1970 استحدثت "جائزة ميديسيس للرواية الأجنبية" المخصصة لعمل مترجم إلى الفرنسية، لتمنح الأدب العالمي موطئ قدم واضحا في سجلها. وبعدها في عام 1985 ظهرت "جائزة ميديسيس للبحث أو المقالة" التي تلتفت إلى الكتب غير الروائية من دراسات وأعمال فكرية وتأملية. هذه الجوائز الثلاث تمنح في اليوم نفسه تحت أنظار لجنة من الكتاب والنقاد، بحيث تبدو "ميديسيس" اليوم أشبه بمنصة واحدة تتجاور عليها الرواية الفرنسية والرواية المترجمة والكتاب غير الروائي، وذلك في احتفاء مشترك بالمخاطرة الأسلوبية والنظر الجدي إلى الأدب بوصفه مجالا دائم التجدد.

"كولخوز": ابن يكتب والدته في مرآة الحرب

في هذا العام منحت لجنة "ميديسيس" جائزة الرواية الفرنسية لإيمانويل كارير (Emmanuel Carrère) عن روايته "كولخوز" (Kolkhoze - منشورات P.O.L)، والعنوان هو كلمة روسية تحيل على المزارع الجماعية السوفياتية ويشكل مفتاحا لموضوع الكتاب: علاقة الكاتب بوالدته المؤرخة المتخصصة في التاريخ الروسي والأمينة الدائمة السابقة للأكاديمية الفرنسية هيلين كارير دانكوس (Hélène Carrère d'Encausse)، حيث يتداخل في هذه العلاقة تاريخ عائلي شخصي مع التاريخ السياسي والثقافي لروسيا، ويتشكل عبرهما حوار ممتد بين سيرة كاتب نشأ في كنف والدة ذات حضور فكري صارم وسيرة بلد ترك أثرا عميقا في تكوينهما.

تأتي الرواية على شكل تحقيق ذاتي طويل يعود فيه كارير إلى تاريخ العائلة: من الجد الجورجي المتعاون مع النازية وما خلفه من أثر ثقيل، إلى الأم المؤرخة المعجبة ببعض وجوه السلطة في روسيا المعاصرة، وصولا إلى مسيرته هو ككاتب يقيم عند تخوم الوثائقي والروائي ويحول حياته إلى مادة سردية. في الخلفية تحضر حرب أوكرانيا مستعادة عبر مقاطع من تقاريره الصحافية هناك، فتتجاور الجبهات العسكرية مع جبهات العائلة ويستخدم الكاتب تلك التجربة الميدانية لفهم نزاعاته الخاصة مع الماضي والأم وصورة روسيا في مخيلته.

أسلوبيا، يمزج كارير بين الاعتراف الشخصي والتأمل النقدي والتوثيق التاريخي في جمل طويلة متكسرة تسمح له بمساءلة نفسه داخل النص: يتكلم عن رغبته في الفهم ويستعرض تردداته وتناقضاته بدل تقديم رواية مطمئنة عن ماض مكتمل. تتجاور ذكريات المدرسة والأعياد العائلية مع مقتطفات من كتب الأم، وملاحظات حول الأرشيف الروسي، وحوارات حول الحرب المعاصرة، في حركة دائمة بين مائدة الطعام ونقاشات السياسة العالمية. بذلك يقرأ القارئ كتابا عائليا وتاريخيا في الوقت نفسه من دون شعور بالفصل بين المستويين.

يعتمد الكاتب لغة شفافة ووصفا دقيقا لحياة الطبقة المتوسطة وإيقاعها اليومي، ويمنح شخصياته حيزا واسعا للتأمل في اختياراتها وعواقبها عبر حوارات داخلية هادئة تنبض بالحياة العادية

يضفي تتويج "كولخوز" بجائزة "ميديسيس" على هذا المسار السيري-الروائي الذي افتتحه كارير في "رواية روسية" (Un roman russe - 2007) بعدا جديدا، فيرسخ خيار الكتابة التي تزاوج بين الحميمي والكوني وتربك الحدود الفاصلة بين الاعتراف الشخصي والتأريخ والحكم السياسي. في هذا الأفق يتحول العمل إلى مختبر لقراءة قرن كامل بعيني عائلة واحدة، وإلى إصغاء دقيق لتلك الطبقات المطمورة من الذاكرة التي تحجبها صورة أم جبارة، كما يغدو محاولة لاكتشاف كيف يمكن سيرة امرأة واحدة أن تعيد فتح ملفات روسيا وأوروبا والعنف المعاصر على نحو أكثر تعقيدا وقلقا.

AFP / Bertrand Guay
الكاتبة الفرنسية أديلايد دو كليرمون-تونير تلتقط صورة بعد فوزها بجائزة رونو الأدبية عن روايتها «كنت أريد أن أعيش»، في مطعم دروان بباريس، 4 نوفمبر 2025

"الجيران الطيبون": تحقيق بوليسي يفتح باب الأسطورة

في فئة الرواية الأجنبية حصدت البريطانية نينا ألان (Nina Allan) جائزة "ميديسيس" عن روايتها "الجيران الطيبون" (Les Bons Voisins - منشورات Tristram، ترجمة برنار سيغو)، وهي رواية تعيد القارئ إلى جزيرة "بيوت" الأسكتلندية حيث وقعت جريمة قتل عائلية قبل عشرين عاما وهزت المجتمع الصغير، تاركة ندبة في ذاكرة سكانه لا تزال تطبع أحاديثهم ونظرتهم إلى الجيران والماضي وكل ما يبدو ظاهريا عاديا وهادئا.

تتقدم كاث نايلور، صديقة إحدى الضحايا، إلى الواجهة حين تعود إلى الجزيرة لإنجاز مشروع فوتوغرافي عن البيوت التي شهدت الجريمة وآثارها الصامتة، لكن هذه العودة تتحول إلى تحقيق جديد يوسع الحكاية البوليسية نحو تأمل في الذاكرة الجماعية للمكان. ينسج النص مادته من حوارات مع السكان ومقاطع من سجلات قديمة، ومن حضور كائنات أسطورية وأشباح تبدو جزءا من ذاكرة الجزيرة وطرائقها في تفسير ما حدث.

يتميز أسلوب نينا ألان ببنية أقرب إلى "الرواية المكسورة"، حيث تتجاور طبقات الحكاية في شظايا سردية تترك أسئلة معلقة وتفتح المجال لتعدد التأويلات بدل حصرها في حقيقة نهائية. ويمنح ضعف بصر البطلة هذا الخيار السردي بعدا رمزيا واضحا: تتشكل الرؤية في مشاهد جزئية ولقطات ناقصة، فيما يمارس النص محاولة دائمة لتقريب الصورة وإضاءتها من زوايا متعددة مع إبقاء الأفق مفتوحا أمام القارئ كي يكمل ما بين السطور وفق خبرته وحساسيته.

يكرس تتويج "الجيران الطيبون" صورة الجائزة كفضاء يحتضن الروايات التي تستعير عدة الأدب البوليسي للغوص في الذاكرة الجماعية، فالتحقيق والأدلة والشهادات ليست طريقا مباشرا لكشف "القاتل"، إنما هي وسيلة لفهم كيفية صوغ المجتمعات لحكاياتها عن العنف، وكيفية تحول المكان تدريجيا إلى أرشيف حي للذكريات والكوابيس، أرشيف تتقاطع فيه الصور الفوتوغرافية مع الأحاديث اليومية والأساطير المحلية إلى أن يغدو كل منزل وشارع وواجهة بحر صفحة من ملف طويل يواصل سرد ما جرى.

5- جوائز أخرى خاصة بالرواية: فسيفساء تكمل صورة السنة الروائية

إلى جانب الجوائز الأربع الكبرى، يقدم موسم عام 2025 حصيلة روائية تكمل صورة المشهدين الفرنسي والفرنكوفوني فتدفع إلى الواجهة أسماء وفضاءات أقل شهرة وتكشف تيارات سردية جديدة، مانحة القارئ والناقد رؤية أوضح لتنوع الأساليب والموضوعات هذا العام.

تبرز الجائزة الكبرى للرواية من الأكاديمية الفرنسية (Grand Prix du roman de l'Académie française) كواحدة من أرفع الجوائز الأدبية الفرنسية، وقد منحت هذا العام للكاتبة الهايتية يانيك لاهنس (Yanick Lahens) عن روايتها "مسافرو الليل" (Passagères de nuit - منشورات Sabine Wespieser)، في تتويج يرسخ حضورها في المشهد الفرنكوفوني. تعود الرواية إلى القرن التاسع عشر بين نيو أورليانز وبورت أو برنس، متتبعة حكاية نساء من سلالة واحدة في قلب العبودية والعنف العنصري، فتجعل من مصائرهن مرآة لتاريخ الكاريبي كما تراه نساؤه على الهامش.

كما حصد فيليپ مانيفي (Philippe Manevy) عن روايته "التلة الكادحة" (La colline qui travaille - منشورات Le Bruit du monde) جائزة "فرانس تلفزيون للرواية" (prix Roman France Télévisions)، وفيها يتتبع الكاتب حكاية أربعة أجيال من أسرة عمالية، من جدة حائكة في ليون كذاكرة حية لعمال النسيج، إلى تاريخ النضال العمالي وتحولات البلد كما تنعكس في تفاصيل العمل والبيت والنقابة، في "رواية اجتماعية حميمية" تمزج البعد الطبقي بحياة الأسرة ومشاعر أفرادها.

أما في جوائز القراء فتبرز جائزة كتاب إنتر (Livre Inter) الممنوحة لرواية "خاسر بهي" (Un perdant magnifique - منشورات Éditions de l'Olivier) لفلورانس سيفو (Florence Seyvos)، حيث تروي مراهقة قصة رجل ذي جاذبية آسرة يدخل حياتها كأب بديل ويجر العائلة إلى مغامرات مالية وعاطفية متهورة، كاشفة شخصية تجمع بين السحر والتدمير وسؤال حب من يدفعوننا إلى الحافة ويشوهون علاقتنا بالثقة والولاء.

يمزج كارير بين الاعتراف الشخصي والتأمل النقدي والتوثيق التاريخي في جمل طويلة متكسرة تسمح له بمساءلة نفسه داخل النص

منحت "جائزة بائعي الكتب" (Prix des Libraires) في فرع الرواية الفرنسية لرواية "الفتاة الخادمة" (La Petite bonne - منشورات Les Avrils) لبيرينيس پيشا (Bérénice Pichat)، التي تعيد القارئ إلى ثلاثينات القرن الماضي عبر سرد حكاية خادمة شابة تمضي عطلة في بيت معلمها، الجندي السابق ذي الوجه المشوه، حيث يتكثف في هذا الإطار الضيق توتر العلاقة بين الطاعة والرغبة في الاستقلال، وتطرح أسئلة الطبقة والجندر والرحمة داخل علاقات قوة غير متكافئة. وفي الفرع الأجنبي من الجائزة نفسها ذهبت الجائزة إلى "أغنية النبي" (Le chant du prophète - منشورات Albin Michel) للإيرلندي بول لينش (Paul Lynch)، وهي رواية ديستوبية حاز نصها الإنكليزي جائزة "بوكر" عام 2023. تتتبع الرواية انحدار دولة ديمقراطية نحو الاستبداد من خلال أسرة تحاول النجاة وسط آلة قمع آخذة في التصاعد، فتغدو حكايتها مرآة لقلق معاصر من صعود القوميات وتضييق الحريات وهشاشة الحياة حين تتوغل السياسة في أدق تفاصيل اليومي.

تستكمل جوائز أخرى لوحة 2025 وتضفي عليها مزيدا من التنوع: منحت جائزة "إنترالييه" (Prix Interallié) لرواية "الحب المعاصر" (L'Amour moderne – منشورات Robert Laffont) للوي-هنري دو لا روشفوكو (Louis-Henri de La Rochefoucauld)، وهي رؤية ساخرة لعلاقات البورجوازية الباريسية. وذهبت جائزة "ديسمبر" (Prix Décembre) إلى رواية "القوى" (Les forces - منشورات Éditions du sous-sol) للورا فازكيز (Laura Vazquez)، وهي عبارة عن نص تجريبي يمزج الشعر بالسرد؛ أما جائزة "فلور" (Prix de Flore) فمنحت لرواية "الحيوات كلها" (Toutes les vies - منشورات Stock) للمغنية ريبيكا واريور (Rebeka Warrior)، وهي رواية خيال ذاتي عن الحب والمرض والحداد، في حين احتفت جائزة "كاستل" (Prix Castel) برواية "جلد لا يلين" (La peau dure – منشورات Flammarion) لفانيسا شنايدر (Vanessa Schneider)، وهي رواية حول الأب والإرث الأدبي. فيما كرمت جائزة جان جيونو (Prix Jean Giono) الروائي البلجيكي الشاب أنطوان ووتر (Antoine Wauters) عن روايته "هوت-فولي" (Haute-Folie - منشورات Gallimard) التي يتطرق فيها إلى حكاية سلالة عائلية وصدماتها المتوارثة.

بهذه الجوائز مجتمعة ترتسم خريطة واسعة للرواية الفرنسية والفرنكوفونية عام 2025 تمتد من مراكز باريس الثقافية إلى الأحياء العمالية وتعبر الكاريبي وأيرلندا، كاشفة تنوع الفضاءات السردية وتشابك الأصوات المحلية والعالمية في موسم واحد.

font change

مقالات ذات صلة