"كنز سيلين" يفرج عن رواية تنشر للمرة الأولى

فصول من فظائع الحرب العالمية الأولى

AFP
AFP
رواية "حرب"

"كنز سيلين" يفرج عن رواية تنشر للمرة الأولى

اتسم رد فعل سيغموند فرويد في بداية الحرب العالمية الأولى، بطابع الحماسة الوطنية المتقدة، لكن هذه الحماسة سرعان ما خمدت، متخذة الإحساس بألم عميق ومروع في مواجهة كارثة الحرب، كما تبيّن الرسائل التي كتبها في نوفمبر/تشرين الثاني 1914 إلى إرنست جونز وأندرياس-سالوميه، التي جُمعت، بالإضافة إلى المراسلات مع ألبرت أينشتاين في كتاب حمل عنوان "لماذا الحرب؟".

لا تزال البشرية تعاني من مآسي الحرب، لسوء الحظ، حتى مع التطور الهائل في حقول العلوم الإنسانية كافة، ولا يبدو أن الدروس المستقاة من الصراعات الدموية في القرن العشرين قد تمكنت من تخفيف حدّتها، ما عدا ما يمكننا أن نسميه "الملاذ الأخير"، أي الأدب، بصنوفه كافة، لعله يمكن أن يساعدنا في فهم أفضل لنشوء الصراعات، على أمل الافادة من أخطاء الماضي.

رواية "حرب"، وهي غير منشورة للويس فرديناند سيلين (1894-1961)، واحدة من تلك الروايات التي تعالج هذه القضية، ربما بقسوة بالغة، من خلال تصوير تبعات الحرب وما تتركه من آثار سلبية في نفوس الأشخاص الذين عاشوا فصولها وتذوقوا أهوالها. فبلغة ثرية ومتفردة، ومن خلال تجربته الشخصية خلال الحرب العالمية الأولى، يسرد لنا سيلين سلسلة البؤس البشري برمته، من أنانية وجبن وخيانة وهوس بالمال، وربما تكون الشخصية الإيجابية الوحيدة في الرواية هي الممرضة إسبيناس، التي تبحث عن ملذاتها لكنها تغدقها على الجرحى أيضا.

البداية، كما يتصوّرها أو بالأحرى كما عاشها سيلين شخصيا، هي صورة شبه سينمائية: رجل يستيقظ في ساحة المعركة، المنظر من الأعلى وفي الوقت نفسه ذاتي، فنحن نتابعه عن قرب، جنبا إلى جنب أجساد القتلى الملطخة بالدماء والآليات المدمرة والأشجار والأعشاب المحترقة. مع ذلك، وعلى الرغم من أسلوب سيلين ومقدرته الكبيرة في الوصف وسرد التفاصيل، يبقى المشهد ضبابيا ويصلنا مشوشا بسبب ضوضاء المعركة. يقودنا الكاتب بخطى وئيدة، ويجعلنا نتلمس طريقنا كما يفعل جندي نجا لتوه من الموت. إنه مشهد اعتدنا عليه في الكثير من الأفلام، إلا أن سيلين، بنمطه الخاص، يحذرنا بين فقرة وأخرى من أن وصف وحشية الحرب، مهما امتلكنا من وسائل وأدوات، ليس بالأمر السهل. فالصراع الإنساني في هذا النص، يمكن تلمّسه في الأصوات التي تتردد أصداؤها بلا توقف في أذنَي باردامو، بطل الرواية، وفي لزوجة الصور الممزوجة بالدماء والقيء والروائح المنفرة التي تمنح السرد إيقاعه. وليس من قبيل المصادفة أن إحدى الكلمات التي غالبا ما تتكرر في هذه الصفحات هي كلمة "جيفة"، كانحلال مزدوج، سواء للضمير الإنساني أو للجسد البشري.

الصراع الإنساني في هذا النص، يمكن تلمّسه في الأصوات التي تتردّد أصداؤها بلا توقف في أذنَي باردامو، بطل الرواية، وفي لزوجة الصور الممزوجة بالدماء والقيء والروائح المنفرة التي تمنح السرد إيقاعه

من جهة أخرى، يبدو كل شيء مفرطا في رواية "حرب"؛ الصور والمشاهد وردود الفعل، تراها متسمة بالغلو، وكأن الراوي أراد أن يفسح المجال لكل ما كان يعتمل في صدره خلال تلك اللحظات ويقلب رأسا على عقب ما كان شائعا في كتابة مذكرات الحرب. فنجد أن صعوبة التذكّر مردها الاحتقان الشديد، إذ أن هناك الكثير من الذكريات، ولا يتعلق الأمر بمناطق كثيرة مظلمة، ولكن بفوضى عارمة تقوّض العقل والنفس معا: "لا يمكنني فعل ذلك. لقد كان هرج، ذكرى". والماضي، الذي كاد يتحول إلى رفيق ثمل في السلاح "ثمل من النسيان"، ماكر يبصق "على كل حكاياتك القديمة"، ويصبح نتنا إلى أن "يذوب في الخيال".

حرب دون أل التعريف، ثلاثة أحرف تبعث في النفس الكثير من الرعب والخوف، فتكاد تسمع من خلالها زخات الرصاص وأنين الجرحى وهول الدمار والعبث الجهنمي للبشر. وربما لهذا السببحققت رواية "حرب" في فرنسا نجاحا كبيرا، وفي إيطاليا أيضا، بعد أيام قليلة من صدورها لدى دار نشر "أديلفي" المرموقة، في السادس والعشرين من شهر مايو/أيار 2023، لأن صدى الحرب العالمية الأولى لا يزال مدويا، ولا يزال موضوعه يثير الاهتمام. وكما في مجمل حياته، ظل سيلين وفيا لنفسه، بما في ذلك موقفه العنصري، إذ إن جميع الشخصيات لها أسماء في الرواية، ما عدا الشخصية العربية. وفي النسخة الفرنسية، يذكر الكاتب الفرنسي إيمانويل كاريير، أنه يوجد معجم يُترجم فيه المصطلح المهين bicot (جَدي، صغيرُ الماعِز) بفظاظة بالغة إلى "مغربي"، كأنه أمر طبيعي.

 

قصة العثور على الرواية

قصة العثور على هذه الرواية غير المنشورة بدأت في عام 1944، عندما هرب سيلين من شقته في شارع جيراردون في مونمارتر ليتجنب القبض عليه كونه متعاونا مع حكومة فيشي. اقتحم إيفون موراندات الشقة، وهو من المقاومين المشهود لهم ضد النازية، وعثر في داخلها على مجموعة كبيرة من المخطوطات، فأخفاها في مكان آمن، فقد كان يخشى أن تقع بين أيدي المتطرفين اليمينيين ليستخدموها لأغراضهم الخاصة، كما فعلوا مع بعض مؤلفاته السابقة التي تحوي أفكارا عنصرية. في عام 1982، اكتشف أحفاد موراندات في قبوهم صندوقا خشبيا ضخما يحتوي على المخطوطات المذكورة، فعهدوا بها إلى جان بيار تيبودات، وهو ناقد مسرحي شهير، بشرط ألا يعلن هذا الاكتشاف خلال حياة لوسيت ديتوش (الاسم الحقيقي للوسي المنصور)، أرملة سيلين، التي لم توافها المنية سوى في عام 2019، عن عمر ناهز 107 سنوات. لم ينقض تيبودات هذا الوعد، وأمضى سنوات في إسطبل قديم من منزله في بيري، لفك رموز هذه النصوص، ولم يبد ندمه، أو يوجه رسالة اعتذار إلى لوسيت، التي كانت المالك الشرعي الوحيد لهذه المخطوطات، لأنه كان يرى أن هذه الآلاف من الأوراق تنتمي إلى "التاريخ الأدبي"، حتى أنه طالب بضرورة الاحتفاظ بها في مؤسسة عامة، مثل المكتبة الوطنية الفرنسية.

Getty Images
الكاتب الراحل لويس فرديناند سيلين

عاش جان بيار تيبودات تجربة أدبية فريدة تقريبا، والحالة الوحيدة المماثلة التي تتبادر إلى الذهن هي حالة ماكس برود (1884-1968)، الذي احتفظ، في سياق مختلف تماما، بمخطوطات غير منشورة لصديقه فرانز كافكا (1883-1924). امتلك تيبودات بين يديه، على مدى أربعة عقود تقريبا، وفي أقصى درجات السرية، آلاف الصفحات التي كتبها لويس فرديناند سيلين، والتي كان المتخصصون يبحثون عنها بلهفة منذ تحرير فرنسا من الاحتلال النازي، واستمد من هذه التجربة كتابا صغيرا، بعنوان "لويس فرديناند سيلين، الكنز الذي تم العثور عليه"، حيث يروي فيه الظروف المذهلة التي عُهد بها إليه بهذا الكنز. في أغسطس/آب 2021، صُدم العالم الأدبي بظهور ستة آلاف صفحة مخطوطة لسيلين، الأمر الذي أعاد مؤلف "رحلة في أقاصي الليل" إلى مركز الاهتمام، بعد ستين عاما من وفاته.

 

سيلين والنازية

ومع أن سيلين يُصنّف شخصية استثنائية في عالم الأدب، إلا أنه في النهاية يعود إلى شكله المألوف الذي نراه في أي إنسان عادي. الاستثناء الوحيد هو مسحة من الجنون أو تجاوز البديهيات، أزائفةً كانت أم صحيحة، وتخطي القواعد والسلوكيات المهيمنة، تلك التي نحسب ألف حساب قبل أن ننتهكها أو لا نأبه لها البتة، وكأنها غير موجودة. لقد فعل لويس فرديناند سيلين ذلك وأكثر، بل إن خياله أوحى له أن الشخص الذي كان يراه ويسمع خطاباته في مرحلة متقدمة من الحرب، لم يكن هتلر، بل كان بديلا منه. يتحدث المؤرخ "المتعاون مع النازية" جاك بينوي-مشين عن ذلك في مذكراته"اختبار الوقت"، حيث يسرد واقعة مأدبة عشاء نُظمت في السفارة الألمانية في باريس في فبراير/شباط 1944. كان السفير آنذاك أوتو أبيتز، الذي يحظى بإعجاب جميع أوساط المتعاونين الفرنسيين لأنه مثقف جدا وذو ذهنية متفتحة، عكس ما عرف عن الضباط والمسؤولين النازيين من عنجهية واستعلاء. بينما المدعوون هم سيلين، والكاتب بيار دريو لا روشيل، والرسام جين بول، والمؤرخ بينوي- مشين، الذي يروي الحادثة: "أنظر بعناية إلى سيلين الجالس أمامي إلى الطاولة في السفارة الألمانية. وجهه شاحب، مكفهر، شبه خال من التعبيرات. أنفه يرتجف وأشعر أن ثمة قوة لا يمكن كبحها تثور بداخله. وفجأة انفجر 'كفى!' ضرب الطاولة بكلتا يديه بشدة جعلت الزجاج يهتز: 'لقد سئمت الاستماع إلى هرائك. هل تعتقد أنك الشخص الذكي الوحيد حول هذه الطاولة العامرة بينما العالم ينهار حولنا. إذا قمتم بصناعة 40 ألف طائرة، فإن الأميركيين سيصنعون 200 ألف طائرة. وإذا قمتم بصناعة مئة ألف دبابة، فسيقومون بصناعة مليون دبابة. سيواجهون أسلحتكم السرية بمزيد من الأسلحة السرية والفتاكة. لا يمكنكم فعل أي شيء حيال ذلك. إنهم الجحفل ووظيفة الجحفل هي سحق كل شيء. في غضون ذلك، تقومون بإخفاء الحقائق عنا. لماذا لا تخبرنا أن هتلر مات؟". "هتلر مات؟!" كرر السفير أبيتز وعيناه تتسعان. ليردّ سيلين: "أنت تعرف ذلك بقدر ما نعرفه، إنما لا يمكنك قول ذلك، لكن لا يحتاج الأمر إلى أن يكون المرء سفيرا ليعرف ذلك، هذا بديهي وواضح، لقد استبدله اليهود بواحد منهم".

خلص بعض المتخصصين إلى القول إن هذه الرواية هي فصل مستقطع من رواية "رحلة إلى أقاصي الليل" أو إنها مسوّدة لتلك الرواية ولم يدمجها سيلين في النسخة النهائية

ويتابع جاك بينوي مشين سرده: "أنا وأبيتز ودريو لا راشيل تجمدنا في أماكننا.كنا على علم بجرأة سيلين، لكننا لم نعتقد أبدا أنه يمكن أن يصل إلى هذا الحد من الهذيان. الآن وقد بدأ، أين سيتوقف؟ مع العلم أن السفير قد دعانا لتمضية لحظة ممتعة من الاسترخاء معه، ولكن ليس من السهل الاسترخاء مع سيلين. 'أقول لكم إنه لم يعد الرجل نفسه - تابع سيلين - لقد استبدلوه بشخص آخر. انظروا إليه، إن كل ما يقوم به يصب في مصلحة اليهود. لذا، يتعين علينا أن نكون منطقيين ونعترف بأن اليهود قاموا بأعظم خدعة في التاريخ، لقد أخفوا هتلر في مخبأ تحت الأرض واستعاضوا عنه بواحد منهم. لقد أصبحت الحشود أقل بكثير مما سبق، وربما لهذا السبب لا يلاحظ الناس الفرق بين الشخصية الأصلية والبديلة. لا أحد بارع في انتحال الشخصيات، كما صديقي جين بول، إنه يمتلك قدرة هائلة على محاكاة أية شخصية. هيا يا جين الطيب، ولا تخجل، فنحن هنا جميعا أصدقاء، أظهر لنا مدى قدرتك على أداء دور هتلر الصغير'. تردد جين بول قليلا، لكنه وافق في النهاية. أخرج بعض التبغ من جيبه، وقرصه وعجنه بين أصابعه ووضعه تحت أنفه. ثم، بحركة خاطفة، سحب خصلة شعر من جبهته، متخذا وضعية نابليون، إحدى يديه خلف ظهره، والأخرى في شق صدريته، وعيناه الغاضبتان تبرقان وأخذ يردّد بصوت أجش: راه، راه، راه. إنه يشبه هتلر بشكل مدهش، ولكنه يشبه أيضا شارلي شابلن وغروشو ماركس والقط فيليكس".

 

شعبية فرنسية

مع ذلك، يحظى سيلين في فرنسا بشعبية خاصة، بغض النظر عن أفعاله البائسة والعنصرية الفاضحة التي انتهجها طوال فترة حياته. يقول الكاتب الفرنسي إيمانويل كاريير في مقابلة مع صحيفة "كورييري ديللا سيرا": "الشيء الوحيد الذي يزعجني قليلا في الكتب التي كتبها سيلين بعد عودته من الدانمارك عام 1954، هو استدراره الشفقة. ففي اعتقاده أن أسوأ الأشياء قد حدثت له، في حين أن الأمور لم تسر بشكل سيئ بالنسبة إليه. لقد تملّص من العقاب، مقارنة بالمتعاونين الآخرين مع النازيين، الذين أعدموا رميا بالرصاص أو حكم عليهم بالسجن لسنوات طويلة، بشكل عام... لقد هرب سيلين من فرنسا للجوء إلى ألمانيا، ثم أمضى فترة قصيرة من السجن، أربعة عشر شهرا، في الدانمارك، وأخيرا عاد إلى فرنسا وانتهى الأمر. لذا لا أجد أن هناك ما يبرّر قيامه بدور الضحية. من كتبه الأخيرة التي أحبها حقا 'من قلعة إلى أخرى'، لأنها قصة ممتعة، لا يمكننا اختزالها كمجرد شهادة، لكن ما يرويه عن حكومة فيشي هو نوع من الصرح الكوميدي. إنه نعيب مشؤوم، مرعب، ولكنه مضحك للغاية، وأعتقد أن سيلين كان على دراية بذلك".

هناك أمر آخر توقف عنده النقاد، وهو تقديم الناشرين "حرب" كرواية قائمة بذاتها، مؤرخة في عام 1934، على الرغم من عدم وجود أي من هذه المعلومات في المخطوطة. فالحاجة إلى تقديم هذا النص بسرعة للجمهور لم تسمح لهم بتحقيق موسع، وفي الواقع أثار أكثر من متخصص في أعمال سيلين بعض التساؤلات، ليس في خصوص العنوان فحسب، ولكن قبل كل شيء في ما يتعلق بالتأريخ، وبالتالي إمكان التفكير بعمل مستقل، حتى أن البعض منهم خلص إلى القول إن هذه الرواية هي فصل مستقطع من رواية "رحلة إلى أقاصي الليل" أو إنها مسوّدة لتلك الرواية ولم يدمجها سيلين في النسخة النهائية.

مهما كانت الإجابة عن هذا السؤال، يبقى أن رواية "حرب"، على الرغم من عدم اكتمالها، هي رواية جريئة ومعادية للحرب، وليس من قبيل المصادفة أن الإثارة الجنسية في هذه الرواية، كما كانت بالفعل في "رحلة إلى أقاصي الليل"، هي مستودع لحيوية يائسة، كما نلاحظ من الصفحات الأولى من هذا الكتاب، التي يخبرنا بها فرديناند، في حالة شبه وعي بالموت الوشيك، أن الشباب الذين أُجبروا على العيش في بيئات مقتصرة على الرجال فقط، لاذوا خلف فحولة مؤلمة عانتها قبل كل شيء جروح الجسد، وهو ما دفعه إلى تحطيم كل بلاغات البطولة، تحت وطأة مزيجه اللغوي الغريب، الذي هو لغة الجريمة وبائعات الهوى، وهي تلك اللحظات التي يتجلى فيها صفاء الراوي في كلمات متهكمة ساخرة: "إنه لأمر غير عادي كيف تزيد الحرب من بيع باقات الزهور".

font change

مقالات ذات صلة