يعد الروائي المصري الكبير صنع الله إبراهيم، الذي فارق الحياة قبل أيام عن 88 عاما، نموذجا للكاتب الذي قرر أن يعيش ويموت على ضفاف الحقيقة. لا يكتب ليعجب، بل ليوقظ، ولا يتردد في أن يدفع ثمن هذا الخيار من راحته وشعبيته. فهو الكاتب الذي لا يهادن، لأنه يؤمن أن الرواية الحقيقية هي شهادة على زمنها، قبل أن تكون فنا جميلا.
في المشهد الأدبي العربي، أسماء لا تتكرر كثيرا، ووجوه ترتبط في الذاكرة بروح التمرد والبحث عن الحقيقة. صنع الله إبراهيم، المولود عام 1937، هو واحد من هؤلاء القلائل الذين جعلوا من الكتابة أداة مقاومة، ومن الرواية سجلا مفتوحا للواقع السياسي والاجتماعي في مصر والعالم العربي. لا يكتب صنع الله للتسلية أو الهروب، بل يكتب ليضع القارئ في مواجهة مباشرة مع قضايا الحرية والفساد والاستبداد.
وكان الكاتب الراحل ذكر أن والده إبراهيم حين بشر بمولده، كان يقرأ في المصحف، فتوقف عند قوله تعالى في سورة النمل "وترى الجبال تحْسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ۚ صنْع الله الذي أتْقن كل شيْء ۚ إنه خبير بما تفْعلون"، فاختار الأب لابنه اسم "صنع الله".
بدأت رحلة صنع الله إبراهيم الأدبية في ظل واقع سياسي صاخب في خمسينات وستينات القرن الماضي، حيث كان شابا مثقفا منخرطا في الحركة اليسارية المصرية. دفع ثمن مواقفه السياسية غاليا، إذ قضى سنوات في السجن بسبب نشاطه المعارض. لكن السجن، الذي كان لكثيرين نهاية حلم، تحول عنده إلى بداية مشوار أدبي مختلف، إذ كتب لاحقا مجموعته القصصية الشهيرة "تلك الرائحة" (1966) التي كسرت التابوهات الأدبية بأسلوبها التجريبي ولغتها المقتضبة.
ولم يتوقف صنع الله إبراهيم عن استفزاز القراء والنظام معا. أعماله مثل "اللجنة" و"ذات" و"وردة" و"أمريكانلي" و"بيروت بيروت"، حملت مزيجا من الوثائق والتاريخ والخيال، حتى صارت أعماله أقرب إلى أرشيف مفتوح للذاكرة المصرية والعربية، يعرض الحقائق كما هي، بلا تجميل أو تحسين لإرضاء أحد.
صدر كتابه الأول "تلك الرائحة" عام 1967، بعد خروجه من المعتقل، وقدم له الكاتب الكبير يوسف إدريس بكلمات خلدت العمل ومبدعه، وبدت صفعة على وجه الأدب التقليدي: نص صادم، مقتضب، يعكس إحباط جيل كامل بعد نكسة الحلم الثوري. ومن بعدها توالت أعماله التي تثير الجدل وتكسر المألوف، كأنه يكتب أرشيفا مفتوحا لزمن مضطرب.
أيضا عرف صنع الله إبراهيم بمواقفه الحادة، فقد رفض عام 2003 استلام جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي، حين صافح وزير الثقافة المصري الأسبق فاروق حسني ثم ألقى كلمة اعتبر فيها أن الحكومة المصرية التي تمنح الجائزة "لا تملك مصداقية منحها"، وجاء ذلك على خلفية الكثير من القضايا التي رأي فيها أن الدولة تخاذلت، وقال "في هذه اللحظة التي نجتمع فيها هنا تجتاح القوات الإسرائيلية ما تبقى من الأراضي الفلسطينية وتقتل النساء الحوامل والأطفال وتشرد الآلاف وتنفذ بدقة منهجية واضحة إبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره من أرضه، لكن العواصم العربية تستقبل زعماء إسرائيل بالأحضان"، كان ذلك المشهد تجسيدا لشخصيته: الكاتب الذي لا يكتب لإرضاء أحد.