صنع الله إبراهيم الطليعي المنشق الذي حدق في الهاوية

زاهد بالمكاسب والجوائز رفض الدخول إلى "الحظيرة"

GettyImages
GettyImages
صورة للكاتب المصري صنع الله إبراهيم التقطت في 4 أكتوبر 1999 في فرنسا

صنع الله إبراهيم الطليعي المنشق الذي حدق في الهاوية

أدرك الروائي المصري صنع الله إبراهيم (1937- 2025) باكرا، المسافة الفاصلة بين الشعارات الجوفاء للسلطة الناصرية التي كانت تبشر بهواء نقي للبلاد، ورائحة العفن التي كانت تهب من كل الجهات، رافضا أن يكون في موقع شاهد الزور. سيتساءل أولا: ما جدوى تمجيد رائحة الزهور في الكتابة، بينما الرائحة النتنة تغرق الشوارع؟ الرائحة التي حاصرته أثناء وجوده في السجن (1959- 1964)، وبعد خروجه منه، ستقتحم مسودات روايته الأولى بعنف، غير عابئ بالمحسنات البديعية التي كانت تثقل نصوص سواه. سيعترض يوسف إدريس الذي كان أول من بشر بولادة روائي متفرد وصاحب نبرة مختلفة في الكتابة، على العنوان الأصلي "الرائحة النتنة في أنفي" لتنتهي الرواية إلى عنوان آخر هو "تلك الرائحة". هكذا صدرت الطبعة الأولى من الرواية عن منشورات "مجلة شعر" في بيروت (1966) لتقاطعها مع مشروع الحداثة لدى "جماعة مجلة شعر"، فصودرت في القاهرة، كما خضعت لعمليات حذف وترميم في طبعات لاحقة إلى أن استقرت الطبعة الكاملة منها، في ثمانينات القرن المنصرم.

تفنيد الاكذوبة

ليست الواقعية الخشنة وحدها، أو الحميمية، أو النظرة القلقة لواقع مهزوم ومنكسر ومعطوب، مَن وضع هذه الرواية في رف خاص داخل المكتبة العربية، إنما حساسيتها السردية المختلفة، فها هو روائي يطيح البنى والقوالب التقليدية للرواية بأقصى حالات التجريب، والاقتصاد اللغوي، والكثافة، والجمل البرقية التي تذهب إلى تحقيق الغرض مباشرة، مما أثار جدلا واسعا حيال نص متمرد وروائي منشق، سيشق طريقه وسط الألغام حتى النهاية في تشريح أحوال الجسد الجريح، والتوغل في رطوبة السراديب المعتمة للحياة اليومية، من جهة، وابتكار أساليب جديدة في هندسة العمارة الروائية، من جهة ثانية، وذلك بالاتكاء على الأرشيف والمعاينة الشخصية في تدوين الوقائع، والمقارنة بين التاريخ الحقيقي، والتاريخ الزائف، وبمعنى آخر "تفنيد الأكذوبة"، وذلك في تجوال سردي طليق، وجسارة في إماطة اللثام عن اعترافات ومكاشفات وهزائم لطالما كانت محتجبة أو جرى طمسها في المتن الروائي العربي، تجوال بين مدن وبلدان مختلفة، تبعا لتجربته في الترحال.

ها هو روائي يطيح البنى والقوالب التقليدية للرواية بأقصى حالات التجريب، والاقتصاد اللغوي، والكثافة، والجمل البرقية التي تذهب إلى تحقيق الغرض مباشرة

هكذا ستحضر ثورة ظفار في "وردة"، والقاهرة في "ذات"، وبيروت الحرب الاهلية في "بيروت بيروت"، وبرلين في "برلين69"، وسان فرنسيسكو في "أمريكانلي"(أمري كان لي)، وموسكو" في "الجليد"، كما سيفحص التاريخ المصري القديم مقتفيا أثر الفاتحين والغزاة والمستعمرين، والصراع المحتدم بين "العمامة والقبعة"، وسيلتفت متأخرا إلى طفولته الأولى في "التلصص"، بالإضافة إلى تجربته في السجن، في "يوميات الواحات". في رواية "اللجنة" سيختط منهجا آخر، وذلك في هتك غموض الدولة البوليسية، وكيفية حصار الكائن المستلب بكوابيس لا نهائية، وفضح طبقات الاستبداد السلطوي اتجاه الفرد والجموع، وصولا إلى فقدان الهوية، سيلجأ في خطابه السردي إلى محاكمة كافكاوية بامتياز. وربما سيستدعي جورج أورويل إلى تلك المهزلة المرعبة، بقصد تشريح ممارسات السلطة الشمولية، مستبطنا تجربته الشخصية في المقام الأول كمرآة لمصائر شخوصه الذاهبة إلى جحيم المحاكمة والاستجوابات العبثية.

AFP
صنع الله إبراهيم

على خطى المقريزي والجبرتي

على المقلب الآخر، سنقع على صلة نسب من نوع ما بين صنع الله إبراهيم وسلفه المؤرخ تقي الدين المقريزي. انشغل الأخير في كتابه "إغاثة الأمة بكشف الغمة" بوصف المجاعات التي أصابت مصر المملوكية وأسبابها، فيما رصد الأول مجاعات من نوع آخر، برؤية موشورية تعمل على هتك المخبوء، والعفونة الحامضة التي تتسرب من شقوق الجدران المعتمة إلى الفضاء الخارجي.
ربما كان الجوع الجنسي هو بؤرة الاشتغالات الروائية لصاحب "شرف" بوصفه تمثلا نموذجيا للأعراف المغلقة على قيم وإكراهات صارمة تثقل حركة شخوصه.

المسافة بين "تلك الرائحة"، وأعماله اللاحقة تنطوي على فتوحات سردية تخصه وحده، كصاحب عمارة روائية مشغولة بمهارة وأناة، قد لا تثير التسلية أو المتعة، لكنها تترك ندبة عميقة

اتكاؤه على ما هو سيروي في تدوين الوقائع، أضفى ضربا من "التلصص" على مناخاته التخييلية، وهو بذلك يزعزع الخط الأفقي للمؤرخ نحو ما هو سوسيولوجي صرف، بنقلات موجعة تنكأ بثور المرحلة، ذلك أن المسافة بين "تلك الرائحة"، وأعماله اللاحقة تنطوي على فتوحات سردية تخصه وحده، كصاحب عمارة روائية مشغولة بمهارة وأناة، قد لا تثير التسلية أو المتعة، لكنها تترك ندبة عميقة لدى المتلقي، نظرا إلى طريقته الاستثنائية في حياكة خيوط نصوصه، فهو يتكئ على الأرشيف في المقام الأول لتعزيز مجرى السرد وروافده، كما فعل في "ذات" مثلا. لكنه - في نهاية المطاف - ينتصر للأرشيف المضاد لتصحيح الصورة وإزالة الغبش والزيف عنها، وهنا تحديدا، يلتقي مع المقريزي لجهة "كشف الغمة" عن الهوامش المهملة.

فضاءات كتيمة

هكذا اطاح صنع الله إبراهيم الحكاية المتخيلة لمصلحة الوثيقة، مستثمرا تجواله بين الخرائط، كأمكنة عيش وذكريات ومكاشفة، وإذا بنا في مواجهة عدسة مفتوحة على التفاصيل، مهما قل شأنها، بالطريقة نفسها التي يرصد فيها "جمالية الأماكن الضيقة"، فالسجن ثيمة مكررة في معظم أعماله، ليس من موقع الاتهام السياسي فحسب، إنما لجهة العناية بعذابات الجسد المكبل وحاجاته وأشواقه، فهزيمة الجسد تشير إلى هزيمة عمومية، وخيبات وجودية وانكسارات، إذ لا نسمة أوكسجين تتسرب من الفضاءات الكتيمة، كأن كل ما يكتبه هذا الروائي يقع في ما يمكن أن نسميه "خزان الخسارات". لاحقا سيستنجد بمؤرخ آخر هو عبد الرحمن الجبرتي، صاحب "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، ولكن من موقع الضد، بقصد إعادة تأريخ حملة نابوليون بونابرت على مصر وما حملته من أوهام تاريخية حول معنى التنوير، وكذلك الاشتباك الحاد بين ثقافتي "العمامة والقبعة" من وجهة نظر المهمشين. امتياز صنع الله إبراهيم في المدونة الروائية العربية، انحيازه إلى مفردة التمرد، سواء في متن النص، أم لجهة ابتكار أشكال سردية نافرة تستوعب سخطه وغضبه واحتجاجاته ضد عالم يحتضر في وضح النهار، فهذا روائي اختصاصه الاول صناعة الكوابيس لا المنامات الوردية، لكننا في مطرح ما، سنتساءل عن جدوى تلك اللغة المقشرة من أي بلاغة في السرد، تلك التي لجأ إليها في بعض أعماله الأخيرة، "الجليد" مثلا، وإلى أي رهان تحتكم هذه المدونة في استقطاب ذهن متلقي اليوم واهتماماته؟

أن يأكل المرء نفسه، كما في "اللجنة" هو اختزال سوداوي لأحوال القهر والانتهاك والانسحاق في أعلى مراتب السخرية المرة من سلطة غاشمة

عموما ظل صنع الله إبراهيم مخلصا لأسلوبه الذي أرشده إليه إرنست همنغواي في مرحلة مبكرة من مغامرته، نقصد "تقنية الجبل الجليدي" التي تعتني بإغفال ما هو فائض والاعتناء بالمعنى الأعمق الذي يكمن تحت السطح والاكتفاء بقمة جبل الجليد، في رهان أكيد على المتلقي باستنتاج المعاني الخفية في النص. فأن يأكل المرء نفسه، كما في "اللجنة" هو اختزال سوداوي لأحوال القهر والانتهاك والانسحاق في أعلى مراتب السخرية المرة من سلطة غاشمة، والجسارة في فضح طبقات القمع وكيفية تمريغ الكرامة بالوحل، اليوم، وفي الأمس، تبعا لتواتر نصوص صاحب "67" (أفرج عنها بعد 47 عاما على كتابتها)، في تفكيك الهزيمة والحقبة الناصرية، وزمن "الكوكا كولا" وذيوع النزعة الاستهلاكية، إذ تزداد جرعة الرفض تدريجيا بالتوازي مع حالة خصي عمومي أرخى بثقله على معظم المتون السردية، التي كان يقتنصها من أرشيف الصحف أو الإعلانات الإشهارية أو الريبورتاج الصحافي، ونشرات الأخبار، وذلك في "كولاج" هجين يؤسس لتضاريس غير مرئية في رسم خرائط مضادة لخطاب المؤسسة الرسمية، مستخدما ضمير المتكلم في معظم رواياته، وهو ما جعلها تشتبك ظاهريا مع السيرة الذاتية للمؤلف، إذ تتأرجح أفعال الشخصيات بين الهم العام، وتصدعات الذات على خلفية التحولات السياسية للبلاد.

الانحدار إلى القاع

يحضر السجن إذن كخلفية لمعظم وقائع روايات صنع الله إبراهيم انطلاقا من تجربة التهمت قسطا وافرا من حياته لجهة الأذى الجسدي والروحي. في "شرف" يحفر عميقا في ثيمة السجن الجنائي ومعنى الشرف من خلال محاولة انتهاك جسدي يتعرض له الراوي على يد سائح أجنبي. ويقول في "يوميات الواحات": انهالوا على رأسي باللطمات، وأنا عاجز عن تفاديها… تواصل ضربي دون توقف، وتحطمت نظارتي، قبل أن يسدد لي المحقق ركلة قوية جعلتني أرتطم بالجدار". الارتطام بالجدار يتكرر بتنويعات مختلفة تنعكس في مرايا شخصياته وهي تراقب انحدارها إلى القاع، في إشارة إلى احتضار الطبقة الوسطى التي كان ينتسب اليها، والرضوض المتلاحقة التي أصابتها في الصميم، بتأثير العسف السلطوي والتحولات السلبية التي طرأت على الشارع المصري.

أعلن القطيعة الكلية عن كل ما لا يتقاطع مع رؤيته الطليعية والسردية في آن واحد، ثم توارى عن المشهد، ناصعا مثل بياض الكفن

لعلها محنة الروائي الذي يستيقظ على موسيقى باخ، ثم يغرق تدريجيا في صخب الحشود، مستنطقا التاريخ الاجتماعي في ما يشبه بيان احتجاج، من دون أن يتخلى عن جمالية أسلوبه التسجيلي في ترميم الأنقاض. يروي محمد ملص ذكرياته مع صنع الله إبراهيم في موسكو قائلا: "كان صنع الله في الصباح يحب أن يستمع لباخ، وكنت أحب الاستماع لهايدن. فنجلس وقد ارتضى كل منا أن يتنازل للآخر. نبدو في تلك الغرفة 'الموسكوفية' أشبه بـ'تكوين' مسرحي على منصة جدارها الرابع هو الغابة. الغابة التي كانت المتفرج الوحيد لعروضنا اليومية هذه. فيتخلل الموسيقى المنبعثة دوس باسوس أو غراهام غرين، وفرويد، دوستويفسكي، السجن، الحب، المرأة. وفي ختام العرض، كان يروي كل منا للآخر منام الليلة الفائتة".

غاب صنع الله إبراهيم بعد نحو نصف قرن من العيش المضطرب والانكسارات والتحولات، مكللا بطهارة المثقف الثوري الذي لم يلطخ سيرته بما يلوثها من مواقف لا تتواءم مع خطابه النقدي وقناعاته الفكرية كيساري عتيق، زاهدا بكل ما سعى إليه آخرون من جيله والأجيال اللاحقة، لجهة الجوائز والتكريمات والمناصب، مغردا خارج السرب، ورافضا الدخول إلى "الحظيرة"، ومعلنا القطيعة الكلية عن كل ما لا يتقاطع مع رؤيته الطليعية والسردية في آن واحد، ثم توارى عن المشهد، ناصعا مثل بياض الكفن.

font change