أدرك الروائي المصري صنع الله إبراهيم (1937- 2025) باكرا، المسافة الفاصلة بين الشعارات الجوفاء للسلطة الناصرية التي كانت تبشر بهواء نقي للبلاد، ورائحة العفن التي كانت تهب من كل الجهات، رافضا أن يكون في موقع شاهد الزور. سيتساءل أولا: ما جدوى تمجيد رائحة الزهور في الكتابة، بينما الرائحة النتنة تغرق الشوارع؟ الرائحة التي حاصرته أثناء وجوده في السجن (1959- 1964)، وبعد خروجه منه، ستقتحم مسودات روايته الأولى بعنف، غير عابئ بالمحسنات البديعية التي كانت تثقل نصوص سواه. سيعترض يوسف إدريس الذي كان أول من بشر بولادة روائي متفرد وصاحب نبرة مختلفة في الكتابة، على العنوان الأصلي "الرائحة النتنة في أنفي" لتنتهي الرواية إلى عنوان آخر هو "تلك الرائحة". هكذا صدرت الطبعة الأولى من الرواية عن منشورات "مجلة شعر" في بيروت (1966) لتقاطعها مع مشروع الحداثة لدى "جماعة مجلة شعر"، فصودرت في القاهرة، كما خضعت لعمليات حذف وترميم في طبعات لاحقة إلى أن استقرت الطبعة الكاملة منها، في ثمانينات القرن المنصرم.
تفنيد الاكذوبة
ليست الواقعية الخشنة وحدها، أو الحميمية، أو النظرة القلقة لواقع مهزوم ومنكسر ومعطوب، مَن وضع هذه الرواية في رف خاص داخل المكتبة العربية، إنما حساسيتها السردية المختلفة، فها هو روائي يطيح البنى والقوالب التقليدية للرواية بأقصى حالات التجريب، والاقتصاد اللغوي، والكثافة، والجمل البرقية التي تذهب إلى تحقيق الغرض مباشرة، مما أثار جدلا واسعا حيال نص متمرد وروائي منشق، سيشق طريقه وسط الألغام حتى النهاية في تشريح أحوال الجسد الجريح، والتوغل في رطوبة السراديب المعتمة للحياة اليومية، من جهة، وابتكار أساليب جديدة في هندسة العمارة الروائية، من جهة ثانية، وذلك بالاتكاء على الأرشيف والمعاينة الشخصية في تدوين الوقائع، والمقارنة بين التاريخ الحقيقي، والتاريخ الزائف، وبمعنى آخر "تفنيد الأكذوبة"، وذلك في تجوال سردي طليق، وجسارة في إماطة اللثام عن اعترافات ومكاشفات وهزائم لطالما كانت محتجبة أو جرى طمسها في المتن الروائي العربي، تجوال بين مدن وبلدان مختلفة، تبعا لتجربته في الترحال.