ثمانون عاما من البحث عن الاستقلال اللبناني

AFP
AFP

ثمانون عاما من البحث عن الاستقلال اللبناني

يتزامن منتصف شهر نوفمبر/تشرين الثاني في لبنان مع ظاهرة غريبة تتمثل في مشهد أطفال لبنان، لا سيما الذين لا يزالون في صفوف الحضانة والروضات، يرتدون الألبسة العسكرية ويرفعون الأعلام اللبنانية، في تقليد أعتبره شخصيا غير مناسب من أجل الاحتفال بذكرى استقلال لبنان الذي يصادف يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام؛ فـلبنان الذي بلغ عامه الثالث بعد المئة يحتفل هذه السنة بمرور ثمانين عاما على نيله استقلاله من الانتداب الفرنسي الذي أعلن عن تأسيس دولة لبنان الكبير عام 1920 عبر صهر الساحل اللبناني أو السوري والبقاع مع جبل لبنان، على أمل أن يتحول هذا الكيان الهجين مع مرور الوقت إلى أمة لبنانية منصهرة وتكون بطبيعة الحال صديقة أو حتى تابعة لفرنسا ومشروعها الاستعماري.

يُلقن التلاميذ اللبنانيون على مقاعد الدراسة أن استقلالهم سنة 1943 كان نتيجة تلاقي لبنان بجناحيه المسلم والمسيحي تحت القيادة الحكيمة لرئيس الجمهورية الماروني بشارة الخوري، ورئيس الوزراء السني رياض الصلح، والتي أنتجت الميثاق الوطني، مما فتح الطريق إلى تأسيس جبهة مشتركة وطنية لطرد الاحتلال الفرنسي.

AFP
عرض غسكري في ذكرى استقلال لبنان في 22 نوفمبر 2018

بطبيعة الحال تلك النسخة المعقمة من نضال لبنان لنيل استقلاله لا تذكر الدور المحوري للجنرال إدوارد سبيرز، أول وزير مفوض بريطاني في سوريا ولبنان والذي عين في شهر فبراير/شباط عام 1942 وما لبث أن قاد حملة- عكس تعليمات ونستون تشرتشل رئيس حكومته- سياسية مركزة ضد حكومة "فرنسا الحرة" التي اعتبرت أن انتدابه يضر بمصالح الحلفاء في الشرق الأوسط. فكره الجنرال المحافظ البريطاني لفرنسا والجنرال شارل ديغول استندت إلى قناعة سائدة ضمن الأوساط البريطانية بانهزامية فرنسا وتواطؤ حكومة فيشي مع النازيين، و"تكبر ووقاحة (زعيم "فرنسا الحرة" شارل) ديغول"، بحسب سبيرز.

تدخل القوى العظمى في سياق التحركات التحررية الاستقلالية لا ينفى شرعية النضال نفسه. المستعمرات الأميركية الثلاث عشرة، على سبيل المثال، حصلت على دعم فرنسي عسكري ومادي أثناء الثورة الأميركية على بريطانيا الأم. لكن حكمة "الآباء المؤسسين" وتبصرهم للمستقبل دفع بهم إلى حبك دستور وعقد اجتماعي يتجاوزهم كطغمة حاكمة ويمتد بين الشعب والحاكم بغض النظر عن هويته المستقبلية.

أما الميثاق الوطني اللبناني الذي مهد الطريق إلى استقلال لبنان فلم يتجاوز حقيقة أنه اتفاق شفهي بين زعماء الطائفتين الكبيرتين فجرى الاتفاق بين الجبل والساحل من دون أي اعتبار للأطراف اللبنانية التي بقيت خارج هذا الميثاق النخبوي الذي جعل من الاقتصاد الليبرالي الدستور الحقيقي للبنان، في ظل رهان تكتل (كونسورتيوم) كبار التجار المحيط بالطبقة الحاكمة على حكمة وبصيرة شركائهم السياسيين في تأمين استمرارية الحكم والالتزام بحياد لبنان الذي يشكل قوام الميثاق الوطني.

بطبيعة الحال سقط هذا الرهان مع جنوح السياسة اللبنانية للمشاريع الإقليمية بصيغها العروبية والغربية فدخلت عقيدة آيزنهاور وحلف بغداد وعروبة جمال عبدالناصر المزعومة في زواريب السياسة المحلية وأصبح لبنان لا سيما بعد تنازل الدولة اللبنانية عن سيادته عبر توقيع اتفاق القاهرة سنة 1969، ساحة مفتوحة للصراعات المحلية المتترسة بالصراع العربي الإسرائيلي.

لم يستطع اللبنانيون عبر المئة سنة الأخيرة تحديد هذه المصلحة القومية وسلّم الأولويات التي تمنح مختلف اللبنانيين العيش الكريم وتضمن لهم كرامتهم الإنسانية. بل اعتبروا أن الرخاء والبحبوحة الاقتصادية والاستقرار السياسي مرهونة كلها بالاتفاقات الإقليمية والتسويات الدولية التي تجعل من لبنان الطفل المدلل لدول الجوار والغرب معا

بحسب اللبنانيين، لا يعتبر يوم الثاني والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني عيد استقلال بقدر ما هو عطلة رسمية وفرصة للاستجمام والتسكع بعد مشاهدة العرض العسكري التقليدي لقطعات الجيش والقوى الأمنية. استعراض تم إلغاؤه هذا العام بسبب شغور رئاسة الجمهورية والوضع الأمني والسياسي القائم مع حرب غزة. 
وربما يشكل الشلل التام أو الموت السريري للجمهورية اللبنانية في عيد استقلالها الثمانين فرصة للشعب اللبناني عامة لمحاولة تحديد أو إعادة تعريف الاستقلال السياسي بالمعنى المجرد، فالشعور السائد في العقلية اللبنانية يركز على البعد النضالي والعسكري. استقلال لبنان وهو بطبيعة الحال غير موجود كون الاستقلال اللبناني أتى إلى مواطني هذا البلد على طبق من فضة، والشهيد الوحيد الذي سقط في معركة الاستقلال، سعيد فخر الدين، لا يقارن بثورة المليون شهيد في معركة الجزائر أو أي من الحروب التحررية في القرن العشرين.
حاول اللبنانيون عبر العقود الثمانية الأخيرة رمي الاستقلال في حضن القوات المسلحة والأمنية لاعتقادهم أن استقلال لبنان مرهون بإنشاء جيش قوي وأجهزة أمنية قادرة على الدفاع عن حدود الوطن ضد أي اعتداء خارجي من أي طرف أتى ومن أي خطر داخلي، ولو أتى من لبنانيين، على المصلحة القومية اللبنانية، إذا وجدت. 
للمفارقة، لم يستطع اللبنانيون عبر المئة سنة الأخيرة تحديد هذه المصلحة القومية وسلّم الأولويات التي تمنح مختلف اللبنانيين العيش الكريم وتضمن لهم كرامتهم الإنسانية. بل اعتبروا أن الرخاء والبحبوحة الاقتصادية والاستقرار السياسي مرهونة كلها بالاتفاقات الإقليمية والتسويات الدولية التي تجعل من لبنان الطفل المدلل لدول الجوار والغرب معا. من هنا ظهر نوع من "العربدة" السياسية والاقتصادية وتبذير هذه الطبقة لموارد الدولة ومراكمة الديون التي في آخر المطاف سيتم تصفيرها كجزء من الصفقة الكبرى و لو أتت تلك الصفقة على حساب اللبنانيين.
المعضلة الحقيقية في الخوض في رحلة البحث عن الاستقلال اللبناني تتلخص في حقيقية واحدة هي أن اللبنانيين أنفسهم، وبالتحديد في النسخة المتحورة الموجودة حاليا يعتبرون الدستور والقوانيين وجهة نظر وأن مخالفة الطبقة السياسية والطغمة الحاكمة لتلك القواعد "المقدسة" مشروعة، إن كانت تلك الخطوات من شأنها حمايتهم كمجموعات طائفية ومذاهب.

ثلاثية "الجيش والشعب والمقاومة" التي فرضها "حزب الله" على لبنان جعلت "المقاومة" المزعومة لعنة على "الحزب" وعلى لبنان، لا سيما بعدما تدخل "حزب الله" في الحرب السورية إلى جانب نظام بشار الأسد وقام بقتل السوريين وتهجيرهم من قراهم

ولربما المعضلة أو العقبة الثانية التي لا تقل أهمية هي أن الاستقلال بنسخه المتعددة يفتقر لعقد اجتماعي بين المواطن والسلطة بمعناها المجرد كما هو حال العقد الاجتماعي الموجود في الولايات المتحدة وكثير من الدول الغربي؛ فوجود مثل هذا العقد من شأنه أن يجعل من الاستقلال، ولو نظريا، فعل مقاومة يومي عبر محاسبة المواطن اللبناني السلطات السياسية المحلية والوطنية التي من واجبها تقديم الخدمات المتعددة له وعلى رأسها الأمان والحق في الحياة. 
في المقابل يقوم المواطن باحترام هذا العقد عبر التقيد بالقوانيين الموجودة لحمايته وأهمها دفع الضرائب التي تدخل إلى الخزينة العامة على أن تصرف على بناء مقومات الدولة. 
والأهم على صعيد استقلال لبنان القلق هو الواقع المرير بأن الشعب اللبناني قد تعاطى مع مبدأ السيادة بالطريقة نفسها التي تعاطى فيها مع الخدمات المالية والسياحية والصحية والتعليمية التي قدمها ضمن النظام الاقتصادي والسياسي الموجود؛ فقبل اللبنانيون- أو ربما الأصح لم يواجهوا- الطبقة السياسية التي تنازلت عن السيادة في اتفاق القاهرة سنة 1969 لصالح العمل الفدائي الفلسطيني، ولاحقا عبر السماح للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد ونظامه بخطف اتفاق الطائف وفرض الوصاية السياسية الكاملة على لبنان من 1990 إلى سنة 2005 لتنتهي مع اغتيال رئيس الوزراء السابق الشهيد رفيق الحريري. 
وفي حين جرى التنازل عن السيادة في الحالتين السابقتين إلى طرف خارجي، فإن التنازل الحالي والمستمر لمصلحة سلاح "حزب الله" الإيراني الولاء، أكثر تعقيدا وخبثا من سابقه؛ ففي حين ينتمي أعضاء "حزب الله" ومقاتلوه إلى لبنان إداريا إلا أن ولاءهم وعقيدتهم وتمويلهم، بحسب اعتراف أمينهم العام، هو لإيران حصرا ويخدم حاليا كرأس حربة المشروع التوسعي لـ"الحرس الثوري الإيراني" وولاية الفقيه. فالسماح لهذا السلاح الإيراني المتترس بالشعب اللبناني وبالطائفة الشيعية وبالقضية الفلسطينية بالسيطرة على الدولة اللبنانية واحتلالها يجعل من مبدأ الاستقلال و"احتكار الدولة للعنف" أو كما يصر أحد أصدقائي من الحكماء على القول بـ"حصر القوة الفارضة بالدولة" أمر متعذر في ظل تحويل إيران وحزبها "اللبناني" لبنان إلى منصة إطلاق صواريخ، ليس للدفاع عن لبنان ونصرة للشعب الفلسطيني كما يدعون بل لخدمة المشروع الإيراني حصرا. احداث غزة و المذبحة بحق الشعب الفلسطيني وتقاعس "حزب الله" عن فتح الجبهة الجنوبية خير دليل على ذلك.
إن ثلاثية "الجيش والشعب والمقاومة" التي فرضها "حزب الله" على لبنان جعلت "المقاومة" المزعومة لعنة على "الحزب" وعلى لبنان، لا سيما بعدما تدخل "حزب الله" في الحرب السورية إلى جانب نظام بشار الأسد وقام بقتل السوريين وتهجيرهم من قراهم في منطقة القلمون، التي حولها إلى منطقة لتخزين الصواريخ ومعامل تصنيع مخدر الكبتاغون وهو سلاح آخر دخل في خدمة "حزب الله" وإيران ونجح في عزل لبنان عن بيئته العربية والخليجية وهو الهدف الأساس لعملية تصنيع وتهريب ملايين الحبوب المخدرة لها عبر سوريا ولبنان.

في مقدمة كتابه القيم "بيت بمنازل كثيرة" يركز كمال صليبي على أن هناك "فرقا كبيرا بين خلق البلدان ككيانات سياسية وخلق الأمة والهوية" مقولة لا تزال صالحة بعد ثمانين عاما من بحث اللبنانيين عن الاستقلال اللبناني الذي أضاعوه في خضم مغالاتهم وإصرارهم على فرادتهم وتميزهم العرقي والثقافي

بطبيعة الحال، لا يتمثل المسار نحو استعادة السيادة والاستقلال الحقيقي بمواجهة عسكرية مع الميليشيا الإيرانية والطغمة الحاكمة المتحالفة معها، بل يبدأ مع إعادة النظر في كامل النظام السياسي اللبناني من القطاع الأمني والعسكري إلى الاقتصاد إلى الحوكمة وصولا إلى الثقافة والحريات، وهو أمر شرعنا فيه ضمن برنامج "لبنان في قرنه الثاني... رؤية مستقبلية" في الجامعة الأميركية في بيروت، ببحثه مع أصحاب الاختصاص واللبنانيين عموما عبر حلقات حوارية تحدد مسار عيش اللبنانيين معا تحت سقف جمهورية قوية، لا تمجد القوة والسلاح بقدر ما تحترم القانون والقيم الليبرالية التي جعلت من منصة إطلاق الصواريخ الحالية من فترة معينة منارة الحريات والنهضة العربية. 

AFP
من مظاهرات "انتفاضة تشرين" في 2019


ورغم كل ما ذكرته أعلاه، يحق للشعب اللبناني، لا سيما الصادقين منه، الاحتفال بذكرى الاستقلال ولكن في الوقت نفسه يجب أن تكون فرصة لهم للتفكر في معنى الاستقلال الذي يتجاوز تمجيد العلم اللبناني والبذلة العسكرية لينتقلوا إلى تأسيس ثقافة الاستقلال عبر تطبيقهم للقوانين ومبادئ المواطنة وتعليم أبنائهم حب الوطن والوطنية عبر الممارسة لا الكلام فقط. 
وفي مقدمة كتابه القيم "بيت بمنازل كثيرة" يركز معلمي الكبير كمال صليبي على أن هناك "فرقا كبيرا بين خلق البلدان ككيانات سياسية وخلق الأمة والهوية" مقولة لا تزال صالحة بعد ثمانين عاما من بحث اللبنانيين عن الاستقلال اللبناني الذي أضاعوه في خضم مغالاتهم وإصرارهم على فرادتهم وتميزهم العرقي والثقافي. تتغنى السردية اللبنانية القومية بقتالها المفترض للاحتلال العثماني ثم الفرنسي والسوري وحتى الفلسطيني وتغفل عن المعركة الحقيقية التي لم يتجرأ اللبنانيون على خوضها ضد مفهوم اللادولة الذي يختبئ في نفوس الكثيرتين منهم ممن يراهنون على أن يحفظ النظام المذهبي والزبائني الحالي حريتهم وهو نظام أصبح في واقع الحال سلاحا بيد "حزب الله" وبيد أي من الوحوش الأخرى التي قد تولد من أنقاض الجمهورية اللبنانية الحالية. وإلى حين وصولهم لهذه القناعة يبقى البحث عن الاستقلال أمرا ممتعا ولكن مع الأسف، غير مجد.

font change

مقالات ذات صلة